إن الذنوب والمعاصي تؤدي إلى قلة التوفيق، وحرمان العلم، وحرمان الرزق، وضيق الصدر، وتعسير الأمور، ووهن البدن، وقصر العمر، وموت الفجأة، وفساد العقل، وذهاب الحياء والغيرة والأنفة والمروءة من القلب. والمعاصي تزيل النعم، وتحلُ النقم، وتمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وتُعرِضَ العبد لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، وتخرج العبد من...
الحمد لله الذي أمر بالطاعة، ونهى عن العصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام إلى يوم الدين.
أما بعـد:
عباد الله: كم للنفوس من زلات ! وكم لها من عثرات! طال بنا ليل المعاصي! والسعي خلف الشهوات والأماني! لا عقل صريح، ولا قلب نجيح، ولا وازع يصيح.
فالعاصي هو: الآبق من مولاه -تعالى-، الهارب عن هديه وتأديبه.
فالمعاصي -عباد الله-: جراحات القلوب، وظلمات النفوس، وضعف الأبدان، وسبيل الخسران، ودليل النيران، وهي وإن سرَّ عاجلها ضرَّ آجلها.
فيا عباد الله: ما الذي أخرج الأبوين من الجنة؛ دار النعيم والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومقته وجعله قائداً لكل فاجر غوي كفور؟ وما الذي أهلك الأمم والأقوام السابقة؟
سوى الذنوب والمعاصي: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا)[العنكبوت: 40].
وما الذي أضَّعَفَ قوتنا وهيبتنا حتى عادت الكرة علينا، فاغتصب اليهود ديارنا ومقدساتنا وأموالنا، وأعملوا فينا الذبح والقتل والتنكيل، فأصبحنا أذل أمة بعد أن كنا خير أمة أخرجة للناس؟
أليست هي الذنوب والمعاصي؟ أليس ذلك بسبب ركوننا إلى الدنيا، وتركنا الجهاد، وهجرنا للقرآن والمساجد؟
أليس ذلك بسبب إقدامنا على الشهوات، وبحثنا عن المتعة المحرمة والغرائز المشتعلة عبر القنوات؟
ولماذا فشت فينا الأمراض الخبيثة التي لم تعرف منذ القدم، بل في أجدادنا وآبائنا؟ وما الذي نراه من كثرة عدم الاطمئنان والراحة النفسية، وكثرة الأمراض النفسية من مس وعين وسحر، أليس ذلك بسبب الذنوب والمعاصي وبعدنا عن الدين وطاعة رب العباد؟
فيا أيها العاصي: اعلم وتذكر قبل أن تقدم على المعصية: أن الله يراك، ويسمع ويعلم ما تخفي وما تعلن، وما تلفظُ به، وأنه محصي كل أعمالك وأقوالك، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].
وقوله: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
وقوله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6].
فإذا كنت تؤمن بالقرآن، وإنك حقاً تؤمن به، فهذه آيات محكمات من آياته دلت دلالة صريحة على أن الله يراك ويسمعك، ولا يَخَفَى منك عليه شيء، يراك حين تطيعه فيرضى، يراك حيث تعصيه فيسخط، ويبقيك إن شاء إلى أجل مسمى!.
فيا الله: أين العقول عن هذا وقد غفلت؟ وأين القلوب عن هذا وقد جهلت؟.
وتذكر -أخي-: واسأل نفسك قبل أن تقدم على المعاصي: أنت مَنَ تعصي؟
تذكر ذلك وأجب نفسك قبل المعصية: أنك مَنَ تعصي؟
إنك تعصي الله الذي خلقك، والذي إليه معادك، تعصي الذي رزقك ومنحك العقل والقوة والحركة، تعصي من بيده ملكوت السموات والأرض، إنك تعصي الله القوي الجبار -سبحانه- الذي إذا قال لشيء كن فيكون، إنك تعصي الله الذي خُلِقتَ لعبادة وحده، وأُمِرتَ بطاعته واجتناب نواهيه!.
فيا مَن تعصي الله: أين الخوف من الله -عز وجل-؟
تذكر قبل أن تعمل المعاصي: ساعة موتك، وخروج روحك، وندمك على ما كان منك، ولا ينفع يومئذٍ الندم ولا الاعتذار: (فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : 24].
تذكر تلك الحظة العصيبة، وتفكر وتخيل، واسأل نفسك قبل أن تعمل المعصية: كيف لو أن الموت هجم عليك في لحظة عملك لهذه المعصية، كيف لو أن آخر أنفاسك وحركاتك تكون على هذه المعصية؟ فتكون هي الخاتمة لأعمالك.
تذكر -يا عبد الله-: وتفكر قبل أن تقدم على المعصية القبر وعذابه، وضيقه وظلمته، وديدانه وهوامه.
تفكر -أخي-: وتخيل ذلك قبل أن تعصي يوم يحملك أهلك وأولادك إلى تلك الحفرة، ويضعوك في ذلك اللحد الضيق، ثم يتركوك في ذلك المكان وحيداً لا قريب ولا صديق، لا يبقى معك إلا ما قدمت من عمل، فإن كان خيراً فخيراً إن شاء الله، وإن كان شراً فيا حسرتاه ويا ندامتاه، فيا حسرةَ وندامةَ العصاة المفرطين حينها، فيا حسرة العاصي وندامته يوم يموت على عصيانه، يا حسرته يوم يرى مقعده، يا حسرته يوم يأخذ كتابه بشماله، ويرى غيره يأخذ كتابه بيمينه، يا حسرته يوم يُساقُ مع المجرمين إلى النار، ويرى المؤمنين يساقون إلى الجنة، فوالله ليتحسر ويتحسر على ما فرط، يتحسر على كل صلاة أضاعها، يتحسر على كل يوم لم يصمه، يتحسر على كل زكاة منعها، يتحسر على كل ساعة أضاعها لم يذكر الله فيها، يتحسر على كل وقتٍ أضاعه في اللهو والتفريط.
وتذكر -يا عبد الله-: قبل أن تُقدِم على المعصية ذلك اليوم الفضيع بأهواله وفضائعه، تذكر ذلك اليوم الذي يشيب من هوله الطفل الصغير، ذلك اليوم الذي يشهده جميع الخلائق، إنه يوم القيامة.
تذكر -يا عبد الله-: هذا اليوم قبل أن تعمل المعصية! تذكر أنه فيه يحشر الناس حفاة عراة غرلا، قال صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراة غُرلا" قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".
أي في ذلك الوقت الأمر أشد وأعظم من أن ينظر أحدهم لعورة الآخر، لما يرونه من الشدائد والأهوال.
وتذكر -يا عبد الله-: أنه في هذا اليوم ستجد كتاباً يُسطِرُ كل أعمالك وأقوالك، ويقول المجرمون حينها: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
وتذكر حين يقال لك: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14].
تذكر أنه في هذا اليوم ستشهد أعضاء العصاة عليهم قال سبحانه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ).[فصلت: 19-21]
وتذكر أن الأرض ستتحدث وتشهد بما عمل كل عبدٍ على ظهرها، فتقول: عمل فلان يوم كذا عليَّ كذا وكذا، قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:1-5].
وتذكر أنه في هذا اليوم يتمنى الكافر أن يكون ترابا: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40].
تذكر -أخي- قبل أن تقدم على المعصية أنك في هذا اليوم سينادى باسمك: يا فلان ابن فلان تقدم للعرض على ربك، وستقف بين يدي الله -تعالى- ليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان.
وتذكر قبل عمل المعصية: النار، وأن حرها شديد، وقعرها بعيد، وأن طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الصديد، وأن أهونهم عذاباً من له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، وأنهم في النار خالدين مخلدين، لا هم ميتون ولا هم خارجون منها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)[فاطر : 36-37].
فتذكر ذلك، وتذكر أن جسمك لا يطيق ذلك.
وتذكر -أخي-: قبل أن تعصي وتتكبر تذكر أصلك وضعفك، قال تعالى: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) التراب هذا هو أصلك أخي: (ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) كنت يوما من الأيام نطفة لو وقعت على الثياب لغسلت، نطفة لم تكن شيئاً مذكورا: (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطرة دم ما أضعفك متعلقة في الرحم: (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحـج: 5] مضغة لا لها يد ولا قدم، ولا عين ولا أذن، ولا لسان، ولا تملك شيئاً من القوة: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [السجدة: 9].
ما أضعفك -أيها الإنسان-: ثم تسعة أشهر في هذا الرحم، في ظلمات ثلاث، ثم خرجت من بطن أمك طفلاً لا تعلم شيئا: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل: 78].
فهل علمت –أخي-: ما هو أصلك حتى تتكبر وتعصي الله -عز وجل-؟
تذكر -يا عبد الله-: قبل أن تسمع الغناء، وقبل أن تنظر إلى المحرمات، وقبل أن تمشي وتذهب لعمل المعصية: أن الله قادر يسخط بك على ما أنت عليه، وأنه قادرا سبحانه على أن يحرمك سمعك فلا تسمع حرفاً واحدًا، وأنه سبحانه قادرٌ على أن يفقدك بصرك، فلا تستطيع أن تنظر أبدا، وأنه سبحانه قادرٌ على أن يفقدك كامل الحركة، فلا تستطيع أن تخطو، أو أن تتحرك أبدا.
فتخيل -أخي-: أن الله سلب منك شيئاً من حواسك: كيف سيكون حالك؟ وهل ستستطيع أن ترد ما سلب منك؟
كلا –والله- لن تستطيع: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ) [الأنعام: 46].
فهلا تفكرت ونظرت بعين البصر والبصيرة إلى من فقد بصره أو سمعه، أو إلى من هو طريح الفراش منذ سنين لا يستطيع الحركة؟!
فهلا تفكرت في ذلك، وحمدت الله -عز وجل- وشكرته على نعمته عليك، وما فَضَّلَكَ به على كثيرٍ من خلقه؟ (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ) لعلكم ماذا؟ لعلكم تعصون؟ لعلكم تغنون وتزنون؟ لعلكم ماذا؟ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
فأين شكرنا لنعم الله علينا؟
وتذكر يا من تتهادون وتتبادلون وتتراسلون، أشرطة الغناء، والأفلام أو المقاطع والصور الخليعة، بأي وسيلةٍ كانت، وإني لأخص جهاز الجوال حيث أنه أصبح من أعظم الوسائل وأسهلها اليوم التي ساعدت على انتشار هذه الرذائل، فتجد الصديق يرسل لصديقه، والعكس، من هذه المحرمات ولا يبالي بعواقبها الوخيمة.
فتذكر –أخي- قبل أن تعمل شيئاً من هذا أنك ستأتي يوم القيامة تحمل أوزارك وأوزاراً مع أوزارك، ستقول: كيف ذلك؟
نقول لك: بإرسالك شيئاً من تلك المحرمات على سبيل الافتراض إلى خمسة أشخاص، وكل واحد منهم أرسلها إلى آخر، والآخر أرسلها إلى آخر، فهكذا انتشرت ووصلت إلى المئات، بل الآلاف من الأشخاص، فأنت تأتي يوم القيامة تحمل أوزارك وأوزار هؤلاء معك، بما قدمته لهم من مفاسد: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل: 25].
وتذكر قبل أن تعصي: وقبل أن تظلم هذا، وتأكل مال هذا، وتحتال وتغتاب هذا: أن هناك حاكماً عادلاً سينتقم لهذا المسكين منك، في محكمةٍ قاضيها هو الله، وجنوده الزبانية، وساحتها القيامة، وحسابه بالخردلةِ والذرة: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
وتذكر -يا عبد الله-: أن بطش الله شديد، وعذابه أليم، وأنه سبحانه يمهل للعبد حتى إذا أمسكه لم يفلته، وأنه سبحانه لا تضره معصيتك، ولا تنقص من ملكه سبحانه، وأنه لا تنفعه طاعتك، ولا تضره معصيتك، فإن أطعته سبحانه فلنفسك، وإن عصيته فعليها: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8].
فيا من تعصي الله: ألا تخاف من الله؟ ألا تستحي من نظر الله؟ إلى متى سيكون هذا هو حالك، وطريقك؟.
يا غاديا في غفلة ورائحا *** إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفا "*** يستنطق الله به الجوارحا
وا عجبا منك وأنت مبصر *** كيف تجنبت الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرأ في غد *** صحيفة قد ملئت فضائحا
وكيف ترضى أن تكون خاسراً *** يوم يفوز من يكون رابحا
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعـد:
عباد الله: إن لذة المعصية مهما بلغت، فإنها –والله- سريعة الزوال، مع ما يعقبها من ألم وحسرة وندم وضيقَ عيش في الدنيا، وتعرض للعذاب في النار يوم القيامة، وأنها ظلمات بعضها فوق بعض، وأن القلب يمرض ويضعف ويظلم؛ بسبب الذنوب والمعاصي، وقد يموت بالكلية، وإذا مات القلب تحتم الهلاك، وتأكد الخسران.
وأن الذنوب والمعاصي تؤدي إلى قلة التوفيق، وحرمان العلم، وحرمان الرزق، وضيق الصدر، وتعسير الأمور، ووهن البدن، وقصر العمر، وموت الفجأة، وفساد العقل، وذهاب الحياء والغيرة والأنفة والمروءة من القلب.
والمعاصي تزيل النعم، وتحلُ النقم، وتمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وتُعرِضَ العبد لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، وتخرج العبد من دائرة الإحسان، وتمنعه من ثواب المحسنين.
ومن أعظم عقوباتها: أنها تورث القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر -والعياذ بالله-.
فيا كل من امتلأ قلبه بالمعاصي: أأمنت مكر الله وأليم عقابه؟ أم هل لك أمان من الموت فلا تموت؟ والله يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]؟
وهل بك –أخي- طاقة على نار جهنم؟
فتب -أخي-: قبل أن يهجم الموت عليك وأنت على معصيتك، ولا تكن كمن يقول: سأتمتع وألهو حتى إذ بلغ عمري الثلاثين أو الأربعين سأتوب! ما الذي يدريك أنك ستبلغ هذا العمر؟ ما الذي يدريك أنك ستعيش ساعة؟ ما الذي يدريك أنك إذا أمسيت ستصبح؟ فالموت يأتي بغتة لا يعرف الصغير ولا الكبير، فكم من شابٍ وفتاةٍ كانت لهم آمالاً وأحلاماً فماتوا ولم تنقض أحلامهم وآمالهم؟
تزود من الدنيا فإنك لا تدري *** إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجري
فكم من فتى أضحى وأمسى ضاحكاً *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صِغارٍ يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها *** وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
فتب -أخي-: ولا تكن كالذي يقول: سأتمتع حتى إذا جاء الموت سأنطق الشهادتين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه: "لا إله إلا الله" دخل الجنة".
فهذا من مكر الشيطان وحيله.
إنك –أخي-: تستطيع اليوم أن تقولها مئات المرات، بل آلاف المرات، لكن حينها –والله- لن يستطيع أحد على نطقها إلا من وفقه الله لذلك.
نسأل الله أن نكون ممن يوُفَقُ لنطق الشهادتين عند الممات.
فيا عبد الله: يا من تعصي الله، يا من لا تقيم لأوامر الله وزنا، ولا لنواهيه قدرا، ولا لمرقبته لك اعتبارا، -والله- لو لم يكن ينتظرك من الجزاء إلا سكرات الموت؛ لكانت كافية في تنغيص عيشك، وتكدير صفوك، ولكانت جديرة بإيقاظك من غفلتك، فكيف بما بعدها من الأهوال العظيمة التي لا يتصورها عقل؟!
فتب وتنبه –أخي- من رقدتك، فإن الأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والآجال مضروبة، والأعمال مشهودة، والأفعال محسوبة، والأرزاق مقسومة، قيل لحاتم الأصم: علا م بنيت أمرك في التوكل؟ قال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغته فأنا أبادره -أي بإعداد الزاد-، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه"
فيا عبد الله: هذا نداء من الله -عز وجل- نداء من ربٍ رحيم غفور؛ معاصينا إليه تصعد، ورحمته ولطفه بنا نازل، نداء ينادي به الذين أسرفوا في المعاصي والذنوب، نداء ينادي به كل من تكبر وعصى، نداء ينادي به من كثرة ذنوبه وظن أنه لا نجاة له، قال عز من قائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ * الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر:53-55].
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن البررة الأتقياء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم.
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا الإجابة.
اللهم اقبل توبة التائبين، واغفر ذنب المذنبين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لنا في يومنا هذا وساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً بيننا إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي