الحياء مشتق من الحياة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم، فكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه، ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله -تعالى- ومن معصيته لم يستح الله من عقوبته.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، فهي وصيته لعباده: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن شأن الأخلاق في الإسلام عظيم، فالأخلاق من الإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وأحسنهم أخلاقاً أقربهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة.
ولقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق، فحثت وحضت ورغبت في محاسن الأخلاق، وحذرت ونفرت من مساوئها.
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن الغاية من بعثته إنما هي في إتمام مكارم الأخلاق.
ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، ولذا جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الخلق الحسن، بل جعل ذلك أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.
أيها المؤمنون: وكما أن حسن الخلق هو معيار الإيمان وعلامته، فإن لحسن الخلق معياراً وعلامة به يقاس ويعرف، ذلك هو الحياء، فالحياء علامة الإيمان، وحسن الخلق.
ولذا لا غرابة أن يكون الحياء هو خلق الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء" [أخرجه ابن ماجة بسند حسن].
فالحياء خلق نبوي كريم كله خير، ولا يأتي إلا بخير، وهو شعبة من شعب الإيمان.
قال عليه الصلاة والسلام: "الحياء لا يأتي إلا بخير". وفي رواية: "خير كله".
وقال عليه الصلاة والسلام حين مر على رجل يعظ أخاه في الحياء، أي ينهاه عن كثرة الحياء، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعه، فإن الحياء من الإيمان"[متفق عليه].
والحياء شعبة من شعب الإيمان؛ كما قال عليه الصلاة والسلام، كما أن فقده دلالة على نقص الإيمان؛ كما جاء في الأثر: "الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر".
وعلة ذلك أن المرء حينما يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.
والحياء هو الخلق الذي يحمل على ترك القبيح من الصفات والأفعال والأقوال، ويمنع من التقصير في حق الله المتفضل المنعم سبحانه.
والدعوة إلى التخلق بالحياء وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كل معصية وشر، فالحياء خُلة من خلال الخير، وعليه مدار كثير من أحكام الإسلام، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء والرغبة في الدنيا، وطول الأمل".
وقال ابن حبان -رحمه الله-: "فالواجب على العاقل لزوم الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبذر الخير، وتركه أصل الجهل، وبذر الشر" ا.هـ.
لذا فإن الإنسان إذا تعرى من الحياء، وعطل من التحلي به، فلا تسل عما سيقترفه من رذائل، ولا تعجب مما سيرتكبه من حماقات، فقليل الحياء لا يأبه بدنو همته، ولا يبالي بسفول قدره، ولا يجد ما يبعثه للفضائل، ولا ما يقصره عن الرذائل، فإنه إذا فقد حياءه سينطلق في تحصيل شهواته غير آبه بحق الله، ولا بحق الناس، وسيهوي في دركات الحماقة والوقاحة، فلا تزال خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى، حتى يصير بذيئاً جافياً فيه قبائح الأفعال، وسيء الأقوال.
وقد جاء في الأثر: "أن الله -تعالى- إذا أبغض عبداً نزع فيه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضاً مبغضاً".
فالحياء -أيها المؤمنون- سياج منيع من الوقوع في المعاصي والمحرمات، وهو علامة حياة القلب؛ كما أن اقتراف القبائح والمنكرات مما يذهب بالحياء، ويدل على موت القلب، وفي الصحيح عنه: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الحياء مشتق من الحياة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم، فكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه، ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله -تعالى- ومن معصيته لم يستح الله من عقوبته" ا.هـ.
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
أيها المؤمنون: وكما يستحي المسلم من الخلق، فلا يكشف لهم عورة، ولا يقصر لهم في حق، ولا ينكر لهم معروفاً، فإن عليه أن يستحي من الخالق، فإن الحياء في أسمى منازله وأكرمها يكون من الله -عز وجل-، فنحن نطعم من خيره، وندرج على أرضه، ونستظل بسمائه، فهو أحق أن يُستحي منه، فلا يقصر في طاعته، ولا في شكر نعمته، فإذا كان الرجل يخجل من الإساءة إلى من أسدى إليه نعمة صغيرة، فكيف لا يوجل الناس من الإساءة إلى ربهم الذي تغمرهم آلاؤه من المهد إلى اللحد وإلى ما بعد ذلك؟!
إن حق الله على عباده عظيم، ولو قدروه حق قدره لسارعوا إلى الخيرات يفعلونها من تلقاء أنفسهم، ولباعدوا عن السيئات خجلاً من مقابلة الخير المحض بالجحود والخسة.
هب البعث لم تأتنا رسله *** وفاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق *** حياء العباد من المنعم
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استحيوا من الله حق الحياء"، قالوا: إنا نستحي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس ذلكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" [الترمذي].
وهذه الموعظة منه -عليه الصلاة والسلام- تستوعب كثيراً من آداب الإسلام، ومناهج الفضيلة، فإن على المسلم أن ينزه سمعه وبصره ولسانه من كل ما حرم الله، وأن يفطم بطنه من أكل الحرام؛ كما عليه أن لا تستخفه الدنيا بمتعتها الزائلة، فيصرف وقته كله في اللهاث خلفها، فيكتب من الغافلين، فإن فعل ذلك كله عن شعور بأن الله يراقبه مطلع عليه، فقد استحيا من الله حق الحياء.
أيها المؤمنون: إن ما تعانيه اليوم المجتمعات من المحن، وتتابع الفتن، واستباحة المحرمات، ومعانقة الرذيلة، ما ذاك إلا بسبب فقد الحياء من الله، فهل استحيا من الله حق الحياء من أنعم الله عليه بالصحة والمال والأولاد والحياة الرغيدة، ثم هو لا يعرف لله قدراً بأن يشكر نعمته عليه بإقامة الصلاة وإخراج الزكاة؟ فيدعوه داعي الفلاح في اليوم خمس مرات ثم هو لا يستحي فيجيب دعوة صاحب الفضل عليه، وهو الله -سبحانه وتعالى-؟
وهل استحيا من الله حق الحياء رجال ونساء يجاهرون بمعصية الله ليل نهار في الطرقات وفي مجامع الناس والحفلات والأفراح، فيقابلون نعم الله بمعصيته فلا حياء منه سبحانه ولا حياء من خلقه؟.
وهل استحيا من الله حق الحياء من أدخل إلى بيته تلك الفضائيات التي ما عادت تخدش الحياء، وإنما تكسره ينظر إليها هو وبناته وأبناؤه؛ فأي حياء يبقى حين تشاهد البنت فاجراً وفاجرة يتبادلان العهر في مشاهد عارية، أو شبه عارية، يخجل منها الرجل الهرم، فكيف بالشباب والشابات؟!
وهل استحيا من الله حق الحياء نساء لا رقيب عليهن من الرجال العقلاء، نزع ماء الحياء من وجوههن، يتسكعن في الأسواق والطرقات، يخالطن الرجال بحجاب مخرق يكشف أكثر مما يستر، متطيبات متبخترات يغرين ضعاف النفوس، وعديمي الحياء والمروءة، فكم قتلن من فضيلة؟ وكم هتكن من ستر، وكلٌ مسؤول عن رعيته؟
وهل استحيا من الله حق الحياء من يأكل أموال الضعفة من المسلمين من اليتامى والعمال مع إنعام الله عليه بكثرة الأموال أو ذاك الذي يستدين الأموال ثم هو يماطل في ردها مع قدرته على ذلك فينكر الجميل ويتعرض لسخط الله؟.
وهل استحيا من الله حق الحياء من إذا خالط الناس أظهر لهم الحسن، وإذا خلى بربه أظهر له القبيح فينتهك محارم الله؟.
وهل استحيا من الله حق الحياء من يعامل الناس والأصحاب بمكارم الأخلاق ثم هو يبخل بها على والديه وزوجته وأولاده، فلا يجدون منه إلا الفظاظة والغلظة والبخل؟.
وهل استحيا من الله حق الحياء من أنعم الله عليه بالمال الكثير ينفقه يميناً وشمالاً في شهواته ثم هو حين يدعى للإنفاق في سبيل الله يبخل فإنما يبخل على نفسه؟
وهل استحيا من الله حق الحياء ذاك الذي شغف بالأغاني الماجنة يزعج الناس في طرقاتهم ومنازلهم أو ذاك المدخن الذي يدخن في مجامع الناس ينفث الدخان في وجوههم أو ذاك الذي ضيع أبناءه بلا تربية ولا خلق، يسيحون في الأرض يؤذون المسلمين، فإذا نصح أو نبه قابلك بالإساءة والتأفف؟.
إن الذي حمل هؤلاء وغيرهم على النزول إلى هذه المستويات الهابطة من الأخلاق، هو ذهاب الحياء، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
اللهم إنا نسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واهدنا لأقوم الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها يا رب العالمين.
أقول قولي هذا..
أما بعد:
أيها المؤمنون: اعلموا -رحمكم الله-: أنه إذا كان الحياء محموداً، والوقاحة مذمومة، فإنه لا حياء يمنع من قول الحق، أو طلب العلم، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنما يمنع من هذا الخجل.
والخجل منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود.
وأما الحياء فهو خير كله كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياءً؛ كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها".
وعلى هذا كان صحبه -رضوان الله عليهم-: تقول عائشة -رضي الله عنها-: "يرحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتعلمن أمور دينهن".
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله-: صوراً من الحياء عظيمة يجدر بالمسلم أن يتخلق بها؛ فمن ذلك حياء الشرف والعزة، وهو حياء النفس العظيمة التي إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل وعطاء وإحسان فإنه يستحي مع بذله وعطائه وإن كان كثيراً.
ومن ذلك أيضاً حياء الإنسان من نفسه، فهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة، فلا ترض لنفسها بالنقص، ولا تقنع بالدون، فيجد نفسه مستحياً من نفسه، حتى كأن له نفسين يستحي بإحداهما من الأخرى.
وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحديث عن مواضع الحياء الممدوحة طويل، ولكن ليعلم المسلم أن الحياء الممدوح هو الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق كلها، ويحمله على مكارم الأخلاق كلها.
وأما ما يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، فليس بحياء، وإنما هو خجل مذموم، وتخذيل من الشيطان.
فاتقوا الله -عباد الله- واحرصوا على التخلق بهذا الخلق الكريم، وتجنبوا الذنوب والمعاصي، فإنها تضعف الحياء في العبد، حتى ربما انسلخ منه بالكلية، بل ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل قد يصل له الحال أن يخبر هو عن حاله، وقبح أفعاله، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء.
وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع إلا أن يشاء الله.
وأما من قوي حياؤه، صان عرضه، ودفن مساوئه، ونشر محاسنه، وكان ذكره محموداً، وعند الله مرفوعاً.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحابته وأتباعه إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي