حَقٌ على أمة محمد أن تعرف لهذا الرجل قدره، وتضحيته وجهاده في سبيل الله، وسبقه، وشكيمته، وشيمته!! لتتغذى على مسيرة رجل عاش عشرًا من السنين في الإسلام، لتفسح الناس له في عروش صدورها إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين! أسهل شيء على الإنسان ألا يفكر، إن الكسالى هم الذين ينوِّبون الناس بالتفكير عنهم في كل شيء، أما حمزة -رضي الله تعالى عنه- فلم يأذن لأحد أن يستنيبه بالتفكير في هذا الدين الجديد الذي يدعو له...
الحمد على إحسانه، والشكر والعرفان لامتنانه.
الحمـد للـرب الغفـور البر *** يجزي بفضلٍ شكـرَنا بالشكر
حمدًا كما قد ينبغي أن يوصفَ *** ولست في الإكثار أُدعى مسرفًا
يا رب أنت ربنا سبحانـكَ *** اغفـر فـإن طـولنا منك بكى
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو شفاعتها يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله.
رسـول الله صلى الله دومًا *** عليه مـا تهيأت السحاب
وما همل الندى وبلاً وماجت *** بتسليم له الأرض اليباب
فيا اللهـم صـلّ عليه دومًا *** وشفِّعنا إذا جاء الحساب
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
يـا رحمتـاه لأنفـس العشاق *** سالت عقولهم على الأحـداق
أنا تائب يا قوم من عشقي الذي *** شاهـدتموه بقـلبي الخفـاق
أنا تائب من كل عشق غيرَ عشـ***ـق أماجد للمجد خيرُ رفاق
كل حب ليس في ذات الله فهو إلى زوال وعقباه حساب وسؤال!!
جبلت هذه القلوب على الحب، فما كان لله يبقى، وما كان لغيره يفنى، ونحن في هذا المقام، نعلن أننا قد وقعنا في شرك الحب!! ولكنه الحب الذي هو أوثق عرى الإيمان!!
يموت العاشقون ومن أحبوا *** ويبقى حبنا يوم التناد
تفنى الشعراء ودواوينها، ويموت العذريون وتأوهاتُهم، ويوم القيامة لا ينفع نفسًا حبُّها لمحبوبها، لكن الذي لله وفي ذاته يبقى.
قدوتنا في مقام خطبتنا هذه نشهد الله على حبه، وعلى حب من يحبه!!
باقٍ بسوداء الفؤاد غرامه *** باقٍ فقل للعاذلين ألا اعذلوا
رجل مختلف، ولا جرم أن تختلف محبتنا فيه!! لم نقرأ في التاريخ عن رجل أجمع على حبه الناسُ قاطبة، كما قرأنا عنه!! أحبه أهل السنة، وأحبته الرافضة، وأحبه النواصب!! أحبته كل الطوائف المنتسبة للإسلام!!
كأن فؤادَه سوقٌ عتيقٌ *** وسلتعه المحـبة إذ يبيع
له قلب يقسمه عليهم *** فكل المشترين لهم نصيب
وهو مع ذا، فهو قرة عين نبي الأمة -عليه الصلاة والسلام-، أيحب النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً ونجفل عن ذكر محبته!! إنا إذًا لعشاق سوء.
لم نقرأ في سيرته -عليه الصلاة والسلام- أنه حزن على موت أحد كما قرأنا عن حزنه في موت هذا الرجل، ولا عامَ الحزن!! أجل ولا عام الحزن الذي توفيت فيه زوجه خديجة -رضي الله تعالى عنها- وعمه أبو طالب.
حَقٌ على أمة محمد أن تعرف لهذا الرجل قدره، وتضحيته وجهاده في سبيل الله، وسبقه، وشكيمته، وشيمته!! لتتغذى على مسيرة رجل عاش عشرًا من السنين في الإسلام، لتفسح الناس له في عروش صدورها إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين!
خذوا هذه اللافتاتِ القصيرة:
هذا الرجل هو أخٌ للنبي -عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة.
لقد رضعوا السناء وكلَّ مجد *** ووجدان الأبي مع الحليب
هذا الرجل عقد له النبي -عليه الصلاة والسلام- أول لواء في الإسلام، وهذا السبق التاريخي مكتوب في موسوعة البقاء الأبدي للأرقام القياسية.
هذا الرجل قد أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول سرية في الإسلام، هذا الرجل لم يحزن نبي الأمة -عليه الصلاة والسلام- حزنًا كحزنه على موته، هذا الرجل أسلم في السنة الثانية من البعثة، ليكون من القوافل الأولى سبقًا في الإسلام!! لقد رأى ببصيرته ما لم تره خفافيش مكة.
صقرٌ يرى ما لا تراه عيونهم *** إن الذي لا يبصر الخفاشُ
هذا الرجل كان إذا أراد أن يقاتل فإنه يقاتل وعلى صدره ريشة نعامة!! كان الصحابيَّ الوحيدَ الذي يقاتل في سيفين اثنين في غزواته مع رسول الله.
له عزمان عزم من حديد *** وعزم حين ينكسر الحديد
هذا الرجل لما مات كبر عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- سبع تكبيرات، وحين استوفاه ربه، صلى عليه رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- ثنتينِ وسبعين صلاة، هذا الرجل قال عنه -عليه الصلاة والسلام-: "لن أُصاب بمصابك أبدًا".
هذا الرجل قال عنه -عليه الصلاة والسلام- حين موته: "والله ما وقفت موقفًا قط أغيظ عليَّ من موقفي هذا".
لعلكم عرفتموه! فما هذه الأقمار تخفى لذي عينِ. إننا بين يدي حمزةَ بنِ عبد المطلب، أفيأذن أبو عمارة؟!
أيا عم النبي فدتك نفسي *** وتفديك الصوارم والمواضي
كانت حياته عجبًا من العجب، ولما مات صار عجيبًا في عيون العجائب، كانت حياته ملأى عزة، ملأى رجولة، ملأى حمية لدين الله ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان -عليه الصلاة والسلام- لا يضفي الألقاب إلا لمن يستحقها، لقد كان صحابة الهادي جميعًا إذا أرادوا اكتساب الشرف والرفعة طاولوا أعناقهم عند رسول الله ليثنيَ عليهم أو ليهبهم ما أرادوا، إلا حمزة، فقد طاول الأمجاد بأمرين اثنين عظيمين: أنه كان عمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه الأوحد الذي اكتسب رفعة الدنيا والآخرة حين لقبه رسول الله بـ"أسد الله وأسدِ رسوله"، ولقبه بـ"سيد الشهداء".
يـا عم خيرِ عباد الله إن لكم *** محبةً غُرست من طيِّب الشرف
إذا ذكرتك ناداني اشتياقك أن *** هذاك أوحد أمجاد السنا فقفِ
حمزة بن عبد المطلب ليس مجردَ رجل شجاع، فالشجعان في عهد رسول الله كثيرون، يأسرك في حمزة أنه كان شجاع القلب والعقل معًا، فقد كان من أوائل من دخل في دين الله، ويا لها من شجاعة!!
إن الشجاعة في القلوب كثيرةٌ *** ووجدتُ شجعان العقول قليلاً
حمزة بن عبد المطلب كان أكبر من هذه المحسوبيات الغبية، التي لا ترى إلا بعين واحدة، لقد كان مستقلاً، متنور العقل والقلب معًا، كان يستطيع ككل صناديد مكة أن يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون! كان يستطيع أن يقول كما يقول أخوه أبو طالب حين دعاه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الإسلام حين موته فقال أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب!!
أسهل شيء على الإنسان ألا يفكر، إن الكسالى هم الذين ينوِّبون الناس بالتفكير عنهم في كل شيء، أما حمزة -رضي الله تعالى عنه- فلم يأذن لأحد أن يستنيبه بالتفكير في هذا الدين الجديد الذي يدعو له رسول الله، لقد كانت قصة إسلامه عجبًا من العجب! أول قصتها حميةٌ لرسول الله، وآخرها تفكيرٌ جاد بالدخول في دين رسول الله!!
فإليكموها بعد أن أستغفرَ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
روى أصحاب السير وابن إسحاق بسنده أنه قال: في ضحوة أحد الأيام في مكة وعند الكعبة اعترض أبو جهل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فآذى أبو جهل رسول الله وشتمه، وسبه، وقال منه ما يكره، بل وعاب دينه وسفّهه به ولمزه بالتضعيف له، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكلِّمه!
وإن بليت بنذل لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
وبينما هم في هذا الموقف إذ رأتهم مولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا وهي تسمع سب أبي جهل لرسول الله، ثم انصرف أبو جهل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعَمَدَ أبو جهل إلى نادٍ لقريش عند الكعبة، فجلس معهم، ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنصٍ له، وكان صاحبَ قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على ناد من قريش إلا وقف عليه وسلم وتحدّث معهم، وكان أعزَّ قريش وأشدَّها شكيمة، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه، فلمّا مر بهذه المرأة التي شهدت هذا الموقف بين رسول الله وأبي جهل عدو الله، وقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجع إلى بيته، فقالت هذه المرأة: يا أبا عمارة -وهي كنية لحمزة-: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفاً، لقد رآه ها هنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
وعندئذ جاش الغضب في أنف حمزة، واحتمل في قلبه غيظًا شديدًا على هذا الجهول الكفور ابن الكفور ابن الكفور.
إن الأسود إذا استُفزَّت أضحكت *** والضحك في عرف الأسود حِمام
وبينما هو يعبئ في قلبه الحنقَ الشديد على أكبر طواغيت مكة.
فرعونها العنيد والبليد *** وصاحب اللعنة والعربيدُ
وحين أراد الله كرامة حمزة هيأها له، فخرج حمزة سريعاً لا يقف على أحد، كما كان يصنع يريد الطوافَ بالبيت، معداً لأبي جهلٍ أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل: "أتشتم محمدًا، وأنا على دينه أقول ما يقول؟! ألا فردّ ذلك عليّ إن استطعت".
تلك كانت اللحظة التاريخية في أيام حمزة، أبى الله إلا أن تخرج من فيه -رضي الله تعالى عنه-، فقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك -يا حمزة- إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك؟! أنا أشهد أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن الذي يقول هو الحق، فوالله لا أنزع يدًا من إسلام، فامنعوني إن كنتم صادقين، قال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عزّ وامتنع، وأن حمزةَ سيمنعه، فامتنعوا عن بعض ما كانوا يؤذونه به.
لقد ولد حمزة من جديد، ولد حمزة وعمره أربعة وأربعون عامًا، ولد بعد هذه السنينِ الحبلى عزة وكرامة وكبرياء.
ولقد روى بعض أهل السير أن حمزةَ لما قال كلمته تلك لأبي جهل: أتشتمه وأنا على دينه!! بقي حمزة أيامًا وهو حائر الضمير، ولقد روي عنه أنه قال: "ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت إلى الله أن يشرح صدري للحق، ويُذهب عني الريب، فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينًا، وغدوت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبتَ قلبي على دينه".
تلك والله الشجاعة، تلك والله الفتوة، تلك والله الفروسية، هذا القرار الذي اتخذه حمزة، يتقلب به الآنَ في أعلى درجات الجنة. يعلمنا حمزة أن اللجوء إلى الله في كل الأحوال هو الحل الأمثل في معمعة الشتات، وفوضى الأفكار، وضبابية الرؤية، يعلّمنا حمزة بفعله أن نسأل الله بصدق في جميع أقوالنا وأفعالنا وشكوكنا، أن نسأل الله: اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
يعلمنا حمزة -رضي الله تعالى- عنه التجرد للحق أيًا كان وجه غربته، يأسرك في حمزة بحثُه الحثيث عن الحق، فهو ليس مقلدًا لسادني الأوثان، أو ناعقًا في سرب غربان، أو متبعًا آباءه وإخوانه على أمة منحرفة.
يأسرك في شخصية حمزة أن الحقد لا يعمي عينيه، وأن البغضَ لا يُصم أذنيه، فالحقد يعمي ويصم، لم يكن حاقدًا غبيًا جعظريًا كأخيه أبي لهب، ولم يكن مقلدًا تبعيًا كأخيه أبي طالب، بل كان طالب حق.
وطلاب الحقوق لهم ضمير *** يرون به المحق من الكذوب
يأسرك في حمزة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبعيته للحق، حتى ولو كان على حساب رؤى قديمة، أو بيئة راسخة.
كان حمزة قادرًا أن يقول: ومن يكون هذا الرجلُ الذي جاءنا بهذا الدين الذي لم نكن نعرفه، ولا يعرفه آباؤنا الأولون!!
بل كان حمزة قادرًا على أن يقول: أنا عم لمحمد، وأكبر منه بعامين، فلماذا أتبعه؟! كما قال بعض كفرة أهل الطائف لرسول الله حين دعاهم إلى الإسلام ليردوا عليه: أما وجد الله غيرك ليبعثه رسولاً؟! أو كما قال أهل مكة: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)!!
يأسرك في حمزة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوتُه الإيمانية والجسدية، فقد كان يدرك -رضي الله تعالى عنه- أن المؤمن القويَّ خير من المؤمن الضعيف.
يشدك في حمزة عم رسول الله بذلُه لمواهبه في سبيل الله، فهو يعرف -رضي الله تعالى عنه- أن موهبته في القوة والشجاعة في سوح القتال وأيام النزال، فأبى إلا أن يحرِّر فيها عهدًا وميثاقًا أن ينصر بها دين الله.
ما أكثر هذه المواهبَ الشابة التي يدفنها الشباب في صدورهم، فيموتون وتموت مواهبُهم معهم، ودين الله وشرعته ليس لها نصيب!!
ليست الزكاة في المال وحده، بل كل قدرة وعطية وموهبة أكرمك الله بها، عليها زكاة!! ما أكثر الزكوات، وأقل المزكين!!
سيأتي كل عضو من أعضائك يوم القيامة ليسأله الله عما عملت به، فإن كنت لا تريد أن تبذل لدين الله، فأعد للسؤال جوابًا!
كان حمزة فارس الفرسان، وأجرأ الشجعان.
في كفه شعلة تهدي وفي دمه *** عقيدة تتحدى كلَّ جبار
كانت عقول أعدائه تطير فرقًا مما كانت تصنع كفاه، كانت كفاه تقول:
حذار من أسد ضرغامة بطل *** لا يولغ السيف إلا مهجة البطل
كم أذاقت كفاه حِمامَ المَوتِ مِن بَطَلٍ *** حامي الحَقيقَةِ لا يُؤتى مِنَ الوَهَلِ
يَغشـى الوَغى وَشِهابُ المَوتِ في يَدِهِ *** يَرمي الفَوارِسَ وَالأَبطالَ بِالشُعَلِ
يَفتَرُّ عِنـدَ اِفتِـرارِ الحَـربِ مُبتَسِماً *** إِذا تَغَيَّرَ وَجـهُ الفـارِسِ البـَطَلِ
موفٍ عَلى مُهـجٍ في يَـومِ ذي رَهَجٍ *** كَأَنَّهُ أَجَـلٌ يَسـعى إِلى أَمَـلِ
لا يُلقـِحُ الحَـربَ إِلّا رَيـثَ يُنتِجُها *** مِـن هـالِكٍ وَأَسيرِ غَيرِ مُختَتَلِ
يَكسو السُيوفَ دِمـاءَ الناكِثـينَ بِهِ *** وَيَجعَلُ الهـامَ تيجـانَ القَنا الذُبُلِ
يَغـدو فَتَغـدو المَنـايا في أَسِـنَّتِهِ *** شَوارِعاً تَتَحَـدّى النـاسَ بِالأَجَلِ
إِذا طَغَت فِئَةٌ عَن غِـبِّ طـاعَـتِه *** عَبّا لَها المَـوتَ بَينَ البيضِ وَالأَسَلِ
كان حمزة أسدَ الله وأسد رسوله، بارز عتاولة المشركين في بدر، وطغاتهم يوم أحد، فأرداهم بسوارة سيفه؛ لما خرج عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة للمبارزة يوم بدر، خرجوا مختالين في بطر وكبر، ونادوا جموع المسلمين: من يبارزنا؟! فما هو إلا حمزة يقول:
أنا الذي سمتني أمي حمزة *** أطيحهم من هزة لهزة
فلما التقى بشيبة بنِ ربيعة، أنزل سيفه على عاتقه حتى شقه نصفين.
عند البزَّارِ والطبرانيِّ عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: قال لي أميةُ بن خلفٍ: مَنِ الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره يوم بدر؟! قلت: ذاك عمُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمزةُ بن عبد المطلب -رضي الله عنه-؛ قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل!! وصنع الأعاجيب، قتل منا وقتل منا!!
تعود سيفُه ضربًا عليهم *** فليس يقر إلا في الرؤوس
وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش عن بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، بقيادة أبي سفيان، وكان زعماء قريش يهدفون بهذه المعركة إلى رجلين اثنين: النبي -عليه الصلاة والسلام- وحمزة -رضي الله عنه وأرضاه-، ولذا فقد نصبوا رجلاً يدعى "وحشيًا"، للقضاء على أكبر خطر يهدد ممالك مكة حينئذ!! وجاءت غزوة أحد، والتقى الجيشان، وتوسط حمزة أرض القتال، مرتديًا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة النعام تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال.
وراح يصول ويجول، لا يرى رأسًا إلا قطعه، ومضى يضرب في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه.
ولندع وحشيًا يصف لنا المشهد بكلماته؛ قال: "كنت رجلاً حبشيًا، أقذف بالحربة قذف الحبشة، فقلما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدًّا، ما يقف أمامه شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور، هلم إليّ. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه".
عندئذ هززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه، ثم نهض نحوي ليقتلني فغلب على أمره ثم مات. وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم يكن لي في القتال حاجة، فقد قتلته لأعتق.
ولا بأس أن ندع وحشيًا يكمل حديثه: "فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فهربت إلى الطائف، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسلم تعيّت عليّ المذاهب، وقلت: ألحق بالشام أو اليمن أو سواها، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك! إن رسول الله -واللهِ- لا يقتل أحدًا من الناس يدخل دينه.
فخرجت حتى قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فلم يرنِ إلا قائمًا أمامه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال: "أوحشيٌّ أنت؟!"، قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فحدّثني كيف قتلت حمزة!!"، فحدّثته، فلما فرغت من حديثي قال: "ويحك، غيّب عني وجهك". فكنت أتنكّب طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان، لئلا يراني حتى قبضه الله إليه.
سقط أسد الله ورسوله، شهيدًا مجيدًا.
وكما كانت حياته مدوّية، فإن موته مدوٍّ في ضمير رسول الله؛ روى أبو هريرة قال: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حمزة، وقد مُثّل به، فلم ير منظراً كان أوجع لقلبه منه، فقال: "رحمك الله -أي عم- فلقد كنت وصولاً للرحم فعولاً للخيرات".
ولما عاد رسول الله إلى المدينة سمع النبي بكاء النساء، فسأل: مم يبكين؟! فقيل: هذه تبكي فلانًا، وهذه تبكي فلانًا، لكن حمزة لم يبكه أحد، لم تنصب له دور مستأجرات، كان يتيم الفقد كما كان يتيم دهره، لم تتحدر دمعة واحدة تؤبّن ذكرى بطل حمل معركة بدر وأحد بإحدى كتفيه، ليطلقها النبي -عليه الصلاة والسلام- قائلاً: "ولكن حمزة لا بواكي له".
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه أعظم الحب، فهو كما أسلفنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب، بل كان أخاه من الرضاعة، وتِربَه في الطفولة، وصديقَ العمر كلّه.
وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد -عليه الصلاة والسلام- تحية يودّعه بها خيرًا من أن يصلي عليه بعدد شهداء المعركة جميعًا.
ونحن نقول:
عليـك سـلامُ الله وقـفًا فإننا *** رأينا الشجاع الحر ليس له عمر
جـزعت لمصرعـه البلاد كأنّما *** قـد غاب عنها جحفل جرّارُ
وبكى الرسول وصحبه قيدومَهم *** إنّ الـرزايا بـالكبـار كبارُ
لمّا نعـوه نعـوا شجـاعًا سيّدًا *** شرفت خلائقه وطاب نجـار
كنا حرصنا في مقام هذه الخطبة ألا يكون التعليق على أحداثها، أو التنويه إلى عبر حياة حمزة ومماته، فقد كانت أحداثًا وعبرًا في آن معًا، ولو أن خبرًا واحدًا منه أتبعته بعبره وعظاته، ما كفانا هذا المقام، لكنما حسبنا أن نجدد حقب الرعيل الأول بأخبار أساطيره، وأن نبث في قلوبنا أن حمزة لم يمت، بل هو في قلوبنا نعبد الله بحبه، وحب نبيه، حسبنا أن نخرج وقد جددنا القدواتِ الحيةَ في ضمائرنا، وقدحناها في قلوبنا، وحسبنا أن نُسمع آذاننا أخبار الكرام، فقد طال السماع عن الطغام، ولجت الألسن بمدح اللئام.
اللهم ارض عن حمزة، اللهم ارض عن حمزة، وصحبِ حمزة، وارض عنا وبلغنا منازل الشهداء، مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، وأمة راشدين، يعز فيهم أهل طاعتك، ويهدى فيهم أهل معصيتك، ويؤمر بهم بالمعروف وينهى فيهم عن المنكر.
اللهم صل وسلم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي