رمضان والجود

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. جود النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها .
  2. مضاعفة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان.
  3. فوائد الجود في رمضان .
  4. جود السلف الصالح .
  5. ذم التسول والمتسولين .
  6. أخطاء في إخراج الزكاة .
اهداف الخطبة
  1. ترغيب الناس بالجود في رمضان
  2. تنبيه الناس إلى تحري المستحقين للزكاة

اقتباس

مع ما في الجود في هذا الشهر من فوائد لا تحصى ومزايا لا تعد، حيث شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل، والصدقةُ فيه تعين الفقراء الصائمين القائمين الذاكرين على الطاعة، فيستوجبُ المعينُ لهم مثلَ أجرهم، " ومن فطر صائماً فله مثلُ أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء "، وتفطير الصائمين جودٌ وكرم

 

 

 

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [آل عمران:102]، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) [الأحزاب].

 

أما بعد:

فإن رمضان يمتاز عن غيره من الشهور بأنه الشهر الذي بعث فيه نبي الإسلام، ونزل فيه الأمين بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر الوحي، وشهر القرآن، وشهر الجود والعطاء؛ إذ إن الله تعالى قد جاد على عباده بنزول القرآن، وإرسال خاتم الرسل؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأيُّ جود أعظم من هذا الجود؟!

ويجود الله تعالى على عباده فيه بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ثم إن أجودَ الناس وأجزلهم عطاءً، وأسخاهم نفساً رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان، فاجتمع الجودان؛ جودُ رمضان، وجودهُ صلى الله عليه وسلم، وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعامِ جائعهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، لم يزل على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ حتى قالت خديجة في أول بعثه: " والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق ".

كان الجود سجية له صلى الله عليه وسلم جبله الله عليها، وزاد جوده وكرمُه بعد البعثة، وتحملِ الرسالة أضعافاً مضاعفة، فهو أكملُ الناس إيماناً، وأعلمهم وأيقنهم أن ما عند الله خير وأبقى، فكان لا يمسك من المال شيئاً؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجعَ الناس؛ متفق عليه.

وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه قال: ما سئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءَه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة.

قال أنس: " إن كان الرجلُ ليسلم ما يريدُ إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلامُ أحبَ إليه من الدنيا وما عليها ".

وقال صفوان بن أمية رضي الله عنه: " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُ الناس إليَّ " قال الزهري رحمه الله تعالى: " أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة "، وقال الواقدي: " أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونَعَماً حتى قال صفوان: " أشهد ما طابت بهذا إلا نفسُ نبي ".

وأخبر عنه جابُر بن عبدالله رضي الله عنهما فقال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا.

وكان صلى الله عليه وسلم يُقدِّم الناس على نفسه؛ فقد روى البخاري من حديث سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردةٍ منسوجة فيها حاشيتها " أتدرون ما البردة؟ " قالوا: الشملة، قال: "نعم "، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنَها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنت؛ لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد قال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألتها لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: " وكان جوده صلى الله عليه وسلم كله لله عز وجل، وفي ابتغاء مرضاته؛ فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألفُ به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه.
وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاءً يعجز عنه الملوك مثلُ كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهرُ والشهران لايُوقَدُ في بيته نار، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع.
وكان قد أتاه صلى الله عليه وسلم سبيٌ مرة فشكت إليه فاطمةُ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: " لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ".

وكان جودُه صلى الله عليه وسلم يتضاعفُ في شهر رمضان على غيره من الشهور كما أن جودَ ربه يتضاعف فيه أيضاً؛ فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة؛ وكان على ذلك من قبل البعثة... كان صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنةٍ شهراً يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كانت سنة بعثه للناس نبياً وهادياً؛ خرج إلى حراء كما كان يخرج كل عام حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريلُ من الله عز وجل.

ثم كان بعد الرسالة جودُه في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك حيث كان جبريل يدارسه القرآن.

فجبريل أفضل الملائكة، والقرآن أشرف الكتب، ومحمد صلى الله عليه وسلم خير البشر، وخاتم الرسل، فاجتمع الشرف كله في هذا الاجتماع، وتلك المدارسة.

ولقد كان هذا القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع مما زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود ".

أيها الإخوة: ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وهو لنا قدوة، وقد كان يجود في رمضان.

مع ما في الجود في هذا الشهر من فوائد لا تحصى ومزايا لا تعد، حيث شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل، والصدقةُ فيه تعين الفقراء الصائمين القائمين الذاكرين على الطاعة، فيستوجبُ المعينُ لهم مثلَ أجرهم، " ومن فطر صائماً فله مثلُ أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء "، وتفطير الصائمين جودٌ وكرم.

وإذا كان الله يجود على عباده في رمضان بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لاسيما في ليلة القدر، فأولى أن يستحق ذلك أهل الجود الذين يرحمون عباد الله وقد قال صلى الله عليه وسلم " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " متفق عليه فمن جاد على عباد الله تعالى جاد الله عليه بالفضل والعطاء.

ينضم إلى هذا الفضل العظيم أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورُها من بطونها وبطونُها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام " أخرجه أحمد والترمذي. وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيامُ والقيامُ والصدقةُ وطيبُ الكلام.

بل إن من معاني الصيامِ العظيمةِ: إحساس الأغنياء بحاجة إخوانهم الفقراء فيسدوا حاجتهم، ويجودوا عليهم.

سئل أحد السلف: لم شرع الصيام؟ قال: " ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع ".

لذا كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم، أو يؤثرون به ويجوعون.

كان ابن عمر رضي الله عنهما يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعهم أهلهُ عنه لم يتعش تلك الليلة.

وكان إذا جاءَه سائلٌ وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكلَ أهله ما بقي في الجفنة فيُصبحَ صائماً ولم يأكل شيئاً.

واشتهى أحد الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقرض المليّ الوفيّ الغني، فقال: عبدُه المعدمُ من الحسنات فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً.

وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يُعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً.

فلله درُّ تلك النفوس ما أسخاها، وماأشد إيثارها، وما أعظم رغبتها فيما عند مولاها.

قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أُحِبُ للرجلِ الزيادةَ بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ".

فأين الأغنياء والموسرون؟! شهر الجود دونكم فجودوا جاد الله عليكم ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ ) [المزمل:20] ( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) [التغابن:17]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 
الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: " واتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ".

أيها الإخوة المؤمنون: كون رمضانَ شهراً للجود والإنفاق ليس معناه أن ينقلب موسماً للتسول وتجارة الذل، وإيذاء الناس في المساجد والطرق والأسواق، وفي كل مكان، فتلك تجارة مذمومة، وصاحبها إن لم يكن محتاجاً فهو يأكل سحتاً وناراً.

وأكثر هؤلاء السُّؤال إنما يسألون الناس تكثراً، قد امتهنوا تلك المهنة الرديئة.

والمحتاجون حقاً أكثرُهم لا يسألون، فقد أخبر الله تعالى عنهم وهو أعلم بحال الجميع قائلاً ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلحَافًا ) [البقرة:273]، هذا هو وصف المحتاجين حقاً، وليسوا أولئك الطوّافين على الناس.

لذا كان عكرمة مولى ابنِ عباس إذا رأى السُّؤال يوم الجمعة سبهم ويقول: كان ابنُ عباسٍ يسبهم ويقول: " لا تشهدون جمعة ولا عيداً إلا للمسألة والأذى ".

" وإذا كانت رغبةُ الناس إلى الله كانت رغبتهم إلى الناس ".

وقد أعان الموسرون على بروز تلك الظاهرة السيئة حينما يدفعون صدقاتهم وزكواتهم إلى أقرب سائل ولا يتحرون حاله، فأسهموا في زيادة جشع السائلين، وحرموا منها محتاجين متعففين، ظاهرهم الاستغناء والله أعلم بحالهم.

فيا أيها الإخوة: حتى تبرأ الذمةُ في دفع الزكاة، وتقبلَ الصدقات لابد من التحري والبحث عن المحتاجين المتعففين الذين لايسألون الناس.

فمن دفع زكاته إلى غني وقد فرط في التحري لم تبرأ ذمته منها، واستعينوا بأهل العلم والصلاح ليدلوكم عليهم، ثم إن من مقاصد الزكاة أن يخالط الأغنياء الناس، ويطلعوا على أحوال الفقراء، لا أن يتخلصوا من الزكاة كيفما اتفق.

ومن الخطأ -أيها المسلم- أن تستمر في دفع زكاتك لأناس كانوا فقراء ثم أغناهم الله تعالى بعد ذلك، كذلك من الخطأ أن تدفع الزكاة إلى محتاج مع العلم بوجود من هو أشد حاجة منه إلا القرابةَ فلهم حقهم، فاتقوا الله تعالى، وتحرّوا في صدقاتكم؛ حتى يحصل الغرض الذي شرعت من أجله، وحتى تكون مقبولة عند الله تعالى، ثم صلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي