فلننظر إلى زماننا حينما يضع أقوامٌ أوصافًا للحق لا تنطبق إلا على ما يفعلونه أو يقولونه؛ ليكون ما يفعله غيرهم ويقوله هو الخطأ والباطل.. مع أن الحق أوسع منهم والصواب يتعداهم إلى غيرهم لكنهم يرون أنهم ناطقون حصرياً باسمه، وقد يقارفون غداً ما كانوا يرونه خطأً عند الآخرين وهم مع ذلك يرون الكلمة الأخيرة لهم.. أمثال هؤلاء يصنعون لأفكارهم هالةً من أجل تسويقها ويُجيِّشون لها من الأقلام والألسن ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) [آل عمران:102]، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) [النساء:1]، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا أيها الناس: في خضم الثورة المعرفية والاكتساح الحضاري وموج المصالح المادية والتطلعات الذاتية بعضها في بعض تسود المنافسة المحمومة والسباق اللاهث وراء الظفر ليغلب على طابع المنافسة والسباق الجانب الشخصي والمصلحي العائد للذات على حساب بعض المعايير المهمة والسجايا السامية؛ فيطغى الغضب على الحِلْم والسخط على الرضا والأثرة على الإيثار ومصلحة الذات على المصالح الشرعية؛ فيذوب بسبب ذلكم كله ويتوه في مهام طيشها سمةٌ جلَّى وسجيةٌ هداف.. ما فُقِدت في مجتمعٍ ما إلا صار منهومًا منزوع البركة، وما وُجِدَت في مجتمعٍ ما إلا ورأيت صور الرضا والطمأنينة والتكامل والاشتراك بين أفراده على حدٍّ سواء.. أتدرون ما هي عباد الله؟ أتدرون ما هي هذه السجية؟.
إنها سجية الإنصاف.. نعم الإنصاف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى..
نعم -أيها الإخوة- الإنصاف الغائب في الفرد والإنصاف الغائب في الأسرة.. الإنصاف الغائب في المدرسة والإنصاف الغائب في العمل.. الإنصاف الغائب في الصحيفة ومنابر التلقي، بل الإنصاف الغائب في المجتمعات إلا من رحم ربي..
الإنصاف -عباد الله- كلمة تعني العدل والإحسان لا الظلم والاعتداء، وتعني اتباع الشرع لا اتباع الهوى، وتعني العلم لا الجهل، وتعني الوسط بين المنحرفين والثبات بين المتفلتين والأصالة بين المضطربين.. المنهج في الإنصاف هو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والقدوة فيه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده وسلف الأمة من العلماء الصادقين الناصحين.
والإنصاف في الشريعة الإسلامية قيمةٌ مطلقة ليست نسبيةً كما هي الحال في مناهج البشر وقوانينهم؛ فهي كلٌّ لا يتجزأ..؛ فإما إنصافٌ أو حيف، وإما رجلٌ منصفٌ أو رجلٌ جائر؛ فلا يمكن أن يكون المرء منصفًا جائرًا في نفسٍ واحدة؛ إذ كيف يكون منصفًا وأبكم عن الحق في آنٍ واحد: ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [النحل:76].
أيها الناس: بالإنصاف يشعر الفرد والأسرة والمجتمع بالأمان والرضا والقناعة؛ إذ لا أضر عليهم في حياتهم ومعاشهم وشئونهم كلها من الظلم والجور.. واتباع الهوى بالإنصاف يوثق بالعالِم ويطمئن إلى القاضي ويؤخذ من الصحفي ويركن إلى المسئول، ولا يعد أحد من هؤلاء منصفًا إذا كان لسان حاله يقول:
يومٌ يمانيٌّ إذا لقيت ذا يمن *** وإنْ لقِيت معديا فعَدْنان
ألا إن الإنصاف ثلث الإيمان؛ لما روى البخاري تعليقًا عن عمار قال: " ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإكثار والحديث " رواه أصحاب السنن.
ولا نبعد النجعة إذا قلنا: بل هو الإيمان كله؛ لأن من أنصف سلم وأنفق، بل إن من أنفق آمن واستقام وآمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولا.. أفترونه -وهذه الحال- يظلم أو يغش؟ أترونه يشح أو يبخل؟ أترونه يحابي أو يماطل؟ أترونه يتحيز أو يتعصب؟ أترونه يدع المحاسن ويقع في سفساف الأمور؟.
إن المنصف لبعيدٌ عن ذلك كله.. ولكن أين هذا المنصف في عصر العولمة؟ وأين هذا المنصف في عصر المادة وطغيان الهوى والشهوة؟ ولقد صدق من قال:
ولمْ تزَلْ قلةُ الإنصافِ قاطبةً *** بيْن الرجالِ وإنْ كانُوا ذوِي رَحِم
قال الإمام مالك -رحمه الله-: " ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف ".. قال القرطبي -رحمه الله- معلقا على كلام مالك: " هذا في زمن مالك.. فكيف في زماننا اليوم الذي عم فيه الفساد وكثر فيه الطغام؟! "؛ أي أوغاد الناس..
ونحن نقول -عباد الله-: إن زمن مالك -رحمه الله- كان في القرن الثاني الهجري وزمن القرطبي -رحمه الله- كان في القرن السادس.. فما الظن بزماننا هذا؟! ألا إن الهوة أشد والخطب أفجع؛ فإلى الله المشتكى وعليه التكلان.
ألا إن من لم ينصف لم يفهم ولن يتفهم، ومن أجل أن ندرك صحة كلام مالك والقرطبي فلننظر إلى زماننا حينما يضع أقوامٌ أوصافًا للحق لا تنطبق إلا على ما يفعلونه أو يقولونه؛ ليكون ما يفعله غيرهم ويقوله هو الخطأ والباطل.. مع أن الحق أوسع منهم والصواب يتعداهم إلى غيرهم لكنهم يرون أنهم ناطقون حصرياً باسمه، وقد يقارفون غداً ما كانوا يرونه خطأً عند الآخرين وهم مع ذلك يرون الكلمة الأخيرة لهم.. أمثال هؤلاء يصنعون لأفكارهم هالةً من أجل تسويقها ويُجيِّشون لها من الأقلام والألسن ما يعقرون به من خالفهم، ويجعلون الناس بناءً على منهاجهم إلى فسطاطين: فسطاطٍ معهم وفسطاطٍ ضدهم، وهم يدركون أن عموم الناس لا ذاكرة لهم؛ ليستعيدوا الماضي القريب فضلا عن الماضي البعيد ليدركوا هذا التضاد أو ذلك التناقض.. وإن كان بعض الناس لا ينسون لكنهم يجاملون رغبةً أو رهبةً أو أنانيةً على حد قول القائل أنا "ومن ورائي الطوفان"، ومن شاء أن يمتحن أحدًا في الإنصاف فليخالفه في أشد ما يقوم عليه هواه وتدعو إليه شبهته وشهوته؛ لينظر كيف يكفهر ويزمجر فيجلب أصوات الناعقين معه، ويجلب بخيله ورجله ليجعل منها قضيةً تفسد كل المعايير وتقضي على مبدأ الإنصاف قضاءً مبرما.
هذا هو الإنصاف -عباد الله- وجودًا وعدما..
إن قليل الإنصاف مذمومٌ على ألسن الناس مكروهٌ سماع اسمه في الآذان بغيضةٌ رؤيته بالأعين.. تتقى مجالسته وتدرأ مجاورته.. لحمه منهوش في نوادي الناس وعرضه مهريٌّ كلما طرأ ذكره بينهم.. لا يداري الناس اسمه ولا رسمه.. ودوا لو أن بينهم وبينه أمدًا بعيداً والناس شهود الله في أرضه.. فمن ترك الإنصاف وأحب الانفراد وآثر النفس على كل شيءٍ حتى على الحق فليكبر عليه أربعًا لوفاة قيمة الإنصاف في نفسه..
وإننا لو دققنا النظر في أجمع أسباب في عدم الإنصاف بين الناس لوجدنا الحسد أسها وأقنومها؛ إذ لا يتأتى الإنصاف من حاسد،كما أنه لا يتأتى الظلم والجور من محبٍّ للغير.
والحسد -عباد الله- بحد ذاته داءٌ منصف -كما قال الأصمعي رحمه الله-؛ لأنه يفعل بالحاسد كما يفعل بالمحسود، بل هو -عباد الله- كرجع الصدى لما تنطق به.. فإن نطقت رد عليك رجع الصدى بالإنصاف، وإن نطقت بعدم الإنصاف رد عليك رجع الصدى بعدم الإنصاف، والجزاء من جنس العمل
كمَـا تديـنُ صَاحِبي تُـدان *** إنَّ جـزاءَ إحسانِنَا الإحسان
إذَا مَا رُمْتَ إِنْصَافًا تُسَرُّ لأجْلِه *** فكُنْ مثلَمَا ترجُو مِنَ الِإنصَاف
فإنَّ رجَالًا قَدْ سَمَـو بِبُلُوْغِـه *** وفَرَّطَ فِيْهِ جمُلـةُ الأنْصَـاف
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة.. قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد..
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن منهج الحكم على الأشياء والآراء والأشخاص والتعامل المتعدي إلى الغير يجب أن يتوفر فيه عنصران أساسان: وهما عنصر العلم بالشيء، وعنصر الإنصاف فيه؛ لأن العلم بالشيء يوصِّل إلى الحقيقة، والحكم بموجب هذه الحقيقة بموضوعيةٍ سليمةٍ علميةٍ بعيدةٍ عن العواطف الصارفة هو الإنصاف الذي ننشده..
وفي تصور عنصر العلم فإن هذا ظاهر من خلال قاعدة أن " الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره"، وفي تصور عنصر الإنصاف يكون المرء على استحضار لمنهج القرآن الكريم كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:18]؛ أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك الإنصاف فيهم، بل استعملوا العدل والإنصاف في كل أحد عدوا كان أو صديقا ويشهد لهذا قوله -تعالى-: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ...) [المائدة:2]..
قال شيخ الإسلام وابن كثير -رحمهما الله-: " أي لا يحملنَّكم بغض قومٍ قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام -وذلك عام الحديبية- على ألا تعدلوا في حكم الله فيهم.. فتقتصوا فيهم ظلمًا وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد ".
ثم إن الشعار في هذا كله -عباد الله- القسط والإنصاف؛ فلا غلو في الإطراء حال الرضا ولا الإفراط في القدح حال الشنآن والعداوة، بل نريد أن يصدق فينا حال الرضا قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...) [النساء:135].. فلا تكونوا حينئذٍ عين الرضا عن كل عيبٍ كليلة..كما نريد أن يصدق فينا حال (الشنآن) في قوله - تعالى-: ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ) فلا تكنوا حينئذٍ عين السخط هي التي تبدي المساوي ولو كانت عين الرضا لاستحسنت ما استقبحت.. ومقبض الرحى في ذلك كله -عباد الله- هو إحكام الهوى عن أن يميد بالإنسان في ذلك كلها: (...فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ.... ) [النساء:135].
هذا: وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنّى بملائكته المسبحة بقدسه وأيه بكم أيها المؤمنون فقال -جل وعلا -: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [الأحزاب:56].. وقال صلوات الله وسلامه عليه: " من صلَّى عليه صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرا ".. اللهم صلِّ وسلِّمْ وزدْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمدٍ صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ياأرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.. اللهم فرِّجْ هم المهمومين من المسلمين ونفِّسْ كرب المكروبين واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك ياأرحم الراحمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين.. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ياحي ياقيوم، اللهم أصلح له بطانته ياذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت.. أنت الغني ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي