في الأوقات الحالكة، والأيام العصيبة، وأزمنة أشباه الرجال، نحتاج إلى التذكير بالنماذج الصادقة، والمثل العظيمة، ورجالٍ أصحاب همم عالية، وقلوب مؤمنة، نحذو حذوهم، ونقتدي بأفعالهم، ونستضيء بتاريخهم، وفي أمتنا نجوم أشرق نورها، ومصابيح دجى لاح ضوؤها، ولئن ماتوا بأجسادهم فإن سيرتهم لا تزال غضة طرية، تستنهض الهمم، وتدعو للعلم والعمل، وتبعث على التضحية والجهاد، يأتي في مقدمتهم سيد الصحابة وخيرهم، وأفضلهم وأكملهم، الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبو بكر -رضي الله عنه-.
الحمد لله الذي فضّل من شاء من عباده، ورفع في الجنة منازل أحبابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله-، فالتقوى هي الزاد، وبها النجاة يوم المعاد، دعا إليها أسمع داع، واستجاب لها خير واع، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله: في الأوقات الحالكة، والأيام العصيبة، وأزمنة أشباه الرجال، نحتاج إلى التذكير بالنماذج الصادقة، والمثل العظيمة، ورجالٍ أصحاب همم عالية، وقلوب مؤمنة، نحذو حذوهم، ونقتدي بأفعالهم، ونستضيء بتاريخهم، وفي أمتنا نجوم أشرق نورها، ومصابيح دجى لاح ضوؤها، ولئن ماتوا بأجسادهم فإن سيرتهم لا تزال غضة طرية، تستنهض الهمم، وتدعو للعلم والعمل، وتبعث على التضحية والجهاد، يأتي في مقدمتهم سيد الصحابة وخيرهم، وأفضلهم وأكملهم، الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبو بكر -رضي الله عنه-.
ولد أبو بكر -رضي الله عنه- بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وكان تاجرًا ذا مال عظيم، وخلق كريم، وإحسان وفضل جزيل، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشورتهم، محببًا فيهم، عالمًا بأنسابهم، ما قال شعرًا قط في الجاهلية ولا في الإسلام، وحرّم الخمر على نفسه في الجاهلية فلم يشربها قط، وكان أسبق الناس إلى الإسلام، فلم يتردد حين عُرض عليه، ولم يتأخر حين سمع به، فحاز قصب السبق، وكان أول من أسلم من هذه الأمة، يقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "ما كلمت في الإسلام أحدًا إلا أبى عليه، وراجعني فيه، ألا ابن أبي قُحافة؛ فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله، واستقام عليه".
صحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولازمه منذ إسلامه، فلم يفارقه سفرًا ولا حضرًا حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان أبو بكر -رضي الله عنه- أول من دعا إلى الله من الصحابة، وقام بنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والدعوة إلى دينه، فكان ثمرة عمله إسلام أكابر الصحابة كعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم من الصحابة، فلم يكن -رضي الله عنه- سلبيًا لا يقدم لدينه شيئًا، ولم يكن جبانًا يخاف من بطش قريش إذا دعا إلى دينه، ولم يقل: في الناس من يقوم بالدعوة غيري، بل حمل همّ الدعوة منذ إسلامه، وجدَّ في تبليغ دينه، وكم من أناس بلغوا من الكبر عتيًّا، لم يدعوا إلى الإسلام يومًا، ولم يهتموا بذلك أصلاً.
وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصديق حين رجف بهم جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان -فرحًا وشوقًا- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
فضائله ومزاياه لا يحدها حد، ولا يحصيها عد، فهو أتقى الأمة، بدلالة الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)، قال ابن الجوزي: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه-.
ادخر الله له دونه جميع الخلق وسامًا عليًّا، فكان ثاني اثنين، فهو الثاني في الإسلام، وفي بذل النفس، وفي الصحبة، وفي الخلافة، وفي العمر وفي سبب الموت، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مات عن أثر السُم، وأبو بكر سُمّ فمات.
أيها المسلمون: خصائص أبي بكر ومناقبه جمة عظيمة، فلقد أوتي شجاعة وإقدامًا جعلته من أشجع الناس، خطب علي -رضي الله عنه- فقال: من أشجع الناس؟! فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين. فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكن أشجع الناس أبو بكر، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخذته قريش أول الإسلام، فهذا يضربه، وهذا يتلقاه، يقولون له: أنت الذي تجعل الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، ثم بكى عليّ، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟! فسكت القوم!! فقال علي -رضي الله عنه-: "والله لساعة من أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجلٌ يكتم إيمانه، وأبو بكر يعلن إيمانه".
أما جوده وكرمه، وإنفاقه المال في سبيل الله، ونصرة دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتبليغ دعوته، فهو الأمر الذي لم يقم به أحد غيرُه، ولم يلحق به أحد سواه، حتى استحق شهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر"، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! بل وصل الأمر إلى درجة رفيعة فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه.
وهكذا تكون التضحية والبذل لله وفي الله، وهل لدعوة أن تقوم، ولدين أن ينتشر، وأتباعه يبخلون عليه بمالهم، ولا يبذلون له إلا الفضلة من أرزاقهم، وما يزيد عن شهواتهم ورغباتهم، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "أسلم أبو بكر وله أربعون ألف دينار، فأنفقها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشترى سبعة ممن كان يُعذب من ضعفاء المسلمين، وأعتقهم لله، على رأسهم بلال بن رباح -رضي الله عنه-".
لم يسبق أبا بكر في هذا المجال أحد، حتى عمر -رضي الله عنه-، يقول عن نفسه: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟!"، فقلت: مثله. ثم جاء أبو بكر بكل ما عنده فقال رسول الله: "يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟!"، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله!! فقلت: لا أسبقه في شيء أبدًا.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر؛ فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة".
أما علمه -رضي الله عنه- فقد كان أعلم الصحابة وأذكاهم، وما كان يفتي الناس في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أبو بكر وعمر، وكان أقرأ الصحابة لكتاب الله، بل كان يحفظ القرآن، ولهذا قدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- إمامًا للصلاة بالصحابة مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله"، وكان أعلم الصحابة بالسنة وأفقههم فيها، يرجعون إليه إذا نزلت بهم النوازل، وغشيتهم الفواجع، فيجدون عنده ما تسكن به قلوبهم، وتطمئن إليه نفوسهم، ولا أدل على ذلك من يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلقد كانت فاجعة جعلت الصحابة يُكذّبون الخبر، حتى عمر يقول: والله ما مات رسول الله بل ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فجاء أبو بكر ودخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُسجّى في بيته، عليه بردة، فرفعها عن رأسه وقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد متها". ثم رد البردة، وخرج وعمر يُكلم الناس، فقال: "على رسلك يا عمر!! أنصت". فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه الناس أقبلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: يا أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، قال الراوي: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشرأبّ النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها!! فما اختلفوا في شيء إلا طار أبي بفنائها وفصلها، قالوا: أين يدفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فما وجدنا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي يقبض، إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه". ثم اختلفوا في ميراثه فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنا -معشر الأنبياء- لا نورث، ما تركنا صدقة". ثم اختلفوا في مانعي الزكاة فقال أبو بكر: "والله لأقاتلنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة". واختلفوا في بعث جيش أسامة إلى الروم لحفظ المدينة وقد ارتدت العرب فقال: "والله لا أحل لواءً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فبعثه فانتصر وغنم.
كل ذلك دليل على سعة علمه، وسداد رأيه، وكمال عقله، وتعظيمه لكتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو الواجب على الناس أن يرجعوا لعلمائهم عند الفتن والنوازل، ويصدروا عن أقوالهم، وعلى العلماء بيان الحق، ولزوم الكتاب والسنة، والاعتماد عليها دون غيرها من آراء الرجال وتخرصاتهم، فأبو بكر -رضي الله عنه- أخذ من المعين الصافي، وبيّن الحق، وصدع به، والصحابة أخذوا بقوله، فكان في ذلك عز الإسلام، وصلاح المسلمين، لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرسل معاذًا إلى اليمن استشار أناسًا من الصحابة، فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأسيد بن حضير، فتكلم كل إنسان برأيه، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما ترى يا معاذ؟!"، قلت: أرى ما قال أبو بكر. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يكره فوق سمائه أن يخطئ أبو بكر".
الحمد لله على إحسانه...
أجمع أهل السنة أن أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخير أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فيعلم بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره.
وعن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟! قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟! قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، بل أعالي الجنان، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الدرجات العلى، ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم".
وهو أول من يدخل الجنة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "أما إنك -يا أبا بكر- أول من يدخل الجنة من أمتي". بل جاء أنه ممن يدخل الجنة من أبوابها الثمانية كلها.
أبو بكر نطقت بفضله الأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، أثنى الله عليه بقوله: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)، دُعي إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على الحُجة فما زلَّ ولا كبا، وأكثر من الإنفاق حتى تخلَلَ بالعبا، تالله لقد زاد على السبك من كل دينار دينار، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).
من كان قرين النبي -صلى الله عليه وسلم- في شبابه؟! من الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أول من صلى معه؟! ومن آخر من صلى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! إنه أبو بكر فاعرفوا حق الجار.
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ، فالمحب يفرح بفضائله، والمبغض يغتاظ، أبو بكر كم وقى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمال والنفس؟! وكان أخص أصحابه في حياته، وهو ضجيعه في الرمس، فضائله جلية، وهي خلية عن اللبس، فيا عجبًا ممن يُغطي ضوء الشمس.
دخل أبو بكر يوم الهجرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غارًا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر: ما ظنك باثنين والله الثالث".
حُبُّه -والله- رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية، فهو خير الصحابة والحجة على ذلك قوية، ولولا صحة إمامته ما قال محمد ابن الحنفية: والله ما أحببناه لهَوانا، ولا نعتقد في غيره هَوَانا، ولكن أخذنا بقول علي -رضي الله عنه- وكفانا، رضيك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاك لدنيانا.
تولى الخلافة فكان يُصلي بالناس الفجر، ثم ينسل بين الصفوف ويخرج، لا يدرى إلى أين؟! فقال عمر: والله إن لأبي بكر خبئيًا من عمل صالح، لا يريدنا أن نراه فيه، أو نطلع عليه، فلما صلى الفجر يومًا تبعه عمر، وقال: والله لأرمُقنَّه فلأريَن ماذا يصنع؟! فخرج أبو بكر إلى أطراف المدينة، حتى دخل بيت شعر قديم، كاد أن يسقط من البِلى على رؤوس أصحابه.
وجلس عمر خلف صخرة ساعة ينتظره، فإذا أبو بكر يخرج من البيت ويذهب إلى المدينة، فتبعه عمر ودخل على البيت، فإذا هو بعجوز هرمة مقعدة عمياء، فقال لها عمر: من أنت؟! ومن هذا الرجل الذي يأتيك كل نهار؟! فقالت: أنا أمة من إماء الله، وهذا رجل من المسلمين، يأتيني كل صباح، يقُمُّ بيتي، ويعجن خبزي، ويحلب شاتي، ويقوم على مصالحي، ويدفع عني الأذى ويذهب، والله ما أعرفه!! والله إنه خير من أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!! فضرب عمر كفًا بكف، وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدًا وتجي في الأول
كان سباقًا إلى الخيرات، مشمرًا لفعل الطاعات، صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: "من أصبح اليوم منكم صائمًا؟!"، فقال عمر: يا رسول الله: لم أحدث نفسي بالصوم البارحة فأصبحت مفطرًا، فقال أبو بكر: لكني حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائمًا، فقال: "هل أحد منكم اليوم عاد مريضًا؟!"، فقال عمر: لم نبرح فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ -أي مريضًا- فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال: "من منكم اليوم أطعم مسكينًا؟!"، فقال عمر: صلينا يا رسول الله ثم لم نبرح، فقال: أبو بكر: دخلت المسجد فإذا بسائل، فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد ابني عبد الرحمن فأخذتها ودفعتها إليه.
أبو بكر من الفجر يسابق إلى الخيرات، ويسارع في الصالحات، بل قبل الفجر، عن ابن مسعود قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد، وهو بين أبي بكر وعمر وأنا أصلي وأدعو، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سل تعطه، سل تعطه"، ثم قال لصاحبيه: "من سرّه أن يقرأ القرآن غضًا كما نزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد"، ورجع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه، فقال عمر بعد الفجر: أبشر ابن مسعود بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن أبا بكر لم ينتظر الفجر، بل رجع إلى ابن مسعود مباشرة، وقال: ما سألت الله البارحة؟! قال: قلت: اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة محمد في أعلى جنات الخلد. فبشره بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاء عمر ليبشره، قال: إن أبا بكر سبقك، قال: يرحمك الله يا أبا بكر، ما سابقتك لخير قط، إلا سبقتني. فيا لله العجب من قوة إيمانه، وتمام يقينه، وصدقه مع ربه.
هذا نزر يسير، وخبر قليل، من سيرة هذا الصحابي الجليل، وما لم تسمعوا أكثر وأكبر، وعلى المسلمين أن يتدارسوا سيرته، ويحذوا حذوه، ويقتدوا به، ويربوا على محبته وتعظيمه أبناءهم، فقد قال ابن الجوزي -يرحمه الله-: "كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي