التغافل عن الزلات، والتغاضي عن الهفوات، ذلكم الخلق الرفيع، والأدب الجم، الذي لا يتحلى به إلا أهل المروءات، ولا يتصف به إلا أولو الشرف والمكرمات؛ لأنه دليل على سمو النفس وشفافيتها، وصفائها وعافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة، إذا رزقه المرء فلا تسل عن راحة قلبه، وصفاء روحه، وهدوء باله، وانشراح صدره. التغافل -يا عباد الله-: هو إظهارك...
الحمد لله ..
إخوة الإيمان: حياتنا الدنيا هذه حياة مليئة بالمشغلات، مملوءة بالمشكلات، ليس يخلو المرء فيها من قوم يخالطهم، أو إخوان يجالسهم، أو عمال يؤاجرهم، أو زوجة يعاشرها، أو ذرية يربيها، فربما اطلع منهم على عورة، أو غفلة، أو هفوة، أو زلة؛ مما جرى به القدر: أن لا يسلم منه بشر.
لذا كان من شيم الكرام، وآداب أهل الإسلام التغافل عن الزلات، والتغاضي عن الهفوات؛ ذلكم الخلق الرفيع، والأدب الجم، الذي لا يتحلى به إلا أهل المروءات، ولا يتصف به إلا أولو الشرف والمكرمات؛ لأنه دليل على سمو النفس وشفافيتها، وصفائها وعافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة.. إذا رزقه المرء فلا تسل عن راحة قلبه، وصفاء روحه، وهدوء باله، وانشراح صدره.
التغافل -يا عباد الله- هو إظهارك الغفلة عن عيب، مع علمك به، واطلاعك عليه، تفضلًا على المتغافل عنه، وترفعًا عن صغار الأمور وسفسافها.
قال أكثم بن صيفي -رحمه الله-: "مَنْ شَدّدَ نَفّرَ، وَمَنْ تَرَاخى تَألّف، والشَّرَفُ في التّغافُل".
وقال سفيان -رحمه الله-: "ما زال التغافل من فعل الكرام".
هذا رسول الله سيد الكرام -عليه الصلاة والسلام-، يستودع بعض أزواجه سرًا من أسراره، فما مكثت حتى أذاعته لبعض صويحباتها، فنزل عليه وحي السماء، وأخبره جبريل -عليه السلام-؛ فما عنف ولا أساء، ولكن عرفها ببعضه وأعرض عن بعضه كأنه لا يدري؛ ليشعرها بلطف أن الله لا يخفي عليه ما فعلت إذ خالفت أمره: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم:3].
وهكذا إذا تتبعت أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحوالَه في بيته، ومع أصحابه، لا تجد منه -عليه الصلاة والسلام- إلا العفو والإغضاء، وكرم النفس.
بل قد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يومًا: "لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ".
ففي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر". إشارةٌ إلى منابذة مسلك تتبع المخفي؛ لسلامة الصدر، وغرس الوحشة فيه والحزن وسوء الظن.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما استقصى كريم قط!".
فأين كرم النفس ممن يفتش عن الزلات صغيرها وكبيرها، ويعاتب على الهفوات جليلها وحقيرها؟!
إن من يفعل ذلك لا يجلب على نفسه سوى الغم والحزن، والنكد والشقاء.
وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صديقِهِ *** وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَتبَعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ *** يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
قال علي -رضي الله عنه-: "من لم يتغافل تنغصت عيشته".
أخي: قل لي بربك: كيف يهنأ بعيشه، من يقف عند كل كلمة يسمعها، ويحاسب على كل خطأ، وينقر عن كل مستتر، ويتتبع كل عورة، ويرُدُّ على كل مجادل؟!
تالله لهذا من مضيعة الوقت، واستهلاك البدن، وهو مفسدة للود، ومجلبة للعداوات.
فما أحرانا أن نتمثل قول الشاعر:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَمَضْيُتُ ثُمَّةَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي
قال ابن حبان -رحمه الله-: "من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة، والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء".
ألا إن تغافلك -يا عبد الله- عن زلة رأيتها، أو أخطاءٍ دريتها لا يعني الغباء والسذاجة، بل هو التؤدة والفطنة، والعقل والحكمة.
قال معاوية -رضي الله عنه-: "العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل".
وقال الشافعي: "الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل".
هذا حاتم الأصم، وهو الشيخ القدوة الرباني أبو عبد الرحمن، حاتمٌ البلخي، الواعظ، كان يقال له: "لقمان هذه الأمة" لماذا سمي بالأصم؟
جاءته امرأة يومًا فسألته عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت تكرهه في تلك الحال، فخجلت، فقال حاتِم -رحمه الله-: "ارفعي صوتك!" كأنه لم يسمع، وأوهمها أنه أصمّ، فسرّت المرأة بذلك، وطابت نفسها، وظنت أنه لم يسمع الصوت، فلقّب بحاتم الأصم.
لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيدٍ فِي قَوْمِهِ *** لِكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي
أيها المسلمون: إذا شاع التغافل عن الزلات، وظهر التغاضي عن الهفوات في مجتمع قلّت –ولا بد- مشكلاته، وارتفعت أحقاده وحزازاته؛ فكم هي الشرور التي كان فتيلها التقصي والتتبع، والتجسس والتحسس؟
ولقد أرشدنا الله -جل في علاه- إلى أن ندع هذا المسلك المشين، فقال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة:101].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها" ا. هـ.
لنتغافل -أيها الإخوة- لتستقيم لنا الحياة وتصفو، قال بعض الحكماء: "وجدت أكثر أمور الدنيا لا تصلح إلا بالتغافل".
كم نحن بحاجة -يا عباد الله- إلى التغافل، وغض الطرف في حياتنا، في بيوتنا، مع أهلنا وأقاربنا، مع أصدقائنا وزملائنا؛ ففي ذلك العافية والراحة والطمأنينة.
قال محمد بن عبد الله الخُزاعيّ: "سمعتُ عُثمان بن زائدة يقول: "العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في التغافل".
قال: "فحدثت به أحمد بن حنبل، فقال: "العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل".
لَكَمْ يحتاج الأزواج خاصة إلى التغافل والتغاضي عن زلات بعضهم؛ لتصفو لهم العشرة، ويزداد الود، وتطيب الحياة، والآباء مع أولادهم كذلك، هم بحاجة إلى التغافل عنهم، وغض الطرف عن أخطائهم! لاسيما تلكم الزلات التي تصدر منهم عفوًا ولا تتكرر.
والحكمة أن لا نشعرهم أننا نعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة، أو أننا نحصي عليهم كل دقيق وجليل؛ لأن في إشعارهم بذلك إضعافًا لشخصياتهم، وإفسادًا لأخلاقهم، وسببًا في عنادهم وكذبهم.
بل إن ذلك يقلل هيبة الأب في قلوب أولاده، ويؤثر في محبتهم له؛ ولو أنه تغافل عن بعض زلاتهم، وتجاوز عن كثير من أخطائهم؛ لسلم من ذلك كله.
قال جعفر الصادق -رحمه الله-: "عظموا أقداركم بالتغافل".
فليكن لسان حالك -يا عبد الله-:
وأُغمِضُ عَينِي عن أمورٍ كَثيرةٍ *** وإنِّي عَلَى تَرْكِ الغُمُوضِ قَدِيرُ
وَمَا مِنْ عَمَى أُغْضِي وَلَكِنْ لَرُبَّمَا *** تَعَامَى وَأَغْضَى المَرْءُ وَهْوَ بَصِيرُ
وَأَسْكُتُ عَنْ أَشْيَاءَ لَو شِئْتُ قُلتُها *** وَلَيسَ عَلَيْنَا فِي المَقَالِ أَمِيرُ
أُصَبِّر نَفْسِي بِاجْتِهَادِي وَطَاقَتِي *** وَإِنِّي بَأَخْلَاقِ الجَمِيعِ خَبِيرُ
ألا فاتقوا الله -تعالى- أيها المؤمنون-، وتذكروا أن الناس جبلوا على محبة من يتغافل عن أخطاءهم، ويتناسى زلاتهم، ولا ينقر عن عيوبهم.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْصِفَ اللَّهُ -عز وجل- فِي نَفْسِهِ، فَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ".
أقول ما تسمعون...
الحمد لله...
أما بعد: اتقوا الله -تعالى- أيها الناس.
وممن أُمِرْنا بالتغافل عنهم أحيانًا لا الغفلةِ عنهم: من جعلهم الله تحت أيدينا من الخدم والعمال، لا سيما من علمت أمانته وديانته؛ فقد روى الترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ فصمت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فقال: "كل يوم سبعين مرة".
وليكن استشعارك لنعمة الله عليك بتسخيرهم لك دافعًا للتغاضي عنهم، ومسامحتهم، فإن ذلك من شرف نفسك، وكرم سجيتك.
ثم اعلموا -يا عباد الله- أن التغافل لا يكون في حقوق الله وحدوده من الواجبات والمحرمات؛ فإن التغافل عما لا ينبغي التغافل عنه عجز وكسل، وتقصير وخلل.
كما أن الحديث عن التغافل، والحث عليه لا يعني ترك النصيحة، والتنبيه على المخالفات الشرعية، فهذه لها بابها، وآدابها، وليست محلًا للتغافل، فقد ذم الله بني إسرائيل، ولعنهم وعاقبهم بتركهم التناهي عن المعاصي، فقال -جل وعلا-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78-79].
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
ألا وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي