أيها الإخوة: لقد أعرضت سبأ عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد؛ فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سببَ هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه؛ فأرسل الله عليهم السيلَ الجارفَ الذي يحمل كل ما في طريقه من الحجارة، وغيرها لشدة تدفقه، فحطم السد، وانساحت المياه، فطغت وأغرقت؛ ثم لم يعد الماء يُخَزَّنُ في السد بعد ذلك، فجفت جداولهم، واحترقت أشجارهم. ومن....
أما بعد:
يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
نعم إنَّ: (في قصصهم عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ) أي: يعتبر بها، أهل الخير وأهل الشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة، وهذه القصص التي قصها الله في هذا القرآن ليست: (حَدِيثًا يُفْتَرَى) وَلَكِنْها: (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكُتُبِ السابقة، توافقها وتشهد لها بالصحة.
أيها الإخوة: ومن هذه القصص: قصة سبأ، وسبأ اسمٌ لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن، وقد ذكر الله قصتهم في كتابه الكريم.
وسبأ اسم رجل يجمع أصول عددٍ من القبائل، قَالَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ سَبَأٍ، مَا هُوَ: أَرَجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ؟ فَقَالَ: "بَلْ هُوَ رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَبِالشَّامِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ: فَمَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، عَرَبًا كُلَّهَا، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ: فَلَخْمٌ وَجُذَامُ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ"[رواه أحمد وقال شاكر: إسناده صحيح].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد كانوا في غبطة عظيمة وأرزاق دارة، وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الاستقامةِ والسدادِ، وطريقِ الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار، وعَدَلُوا عن الهدى إلى الضلال، وسجدوا للشمس من دون الله، عاقبهم الله عقباً شديداً".
وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن غير واحد من علماء السلف والخلف: عن أصل سد مأرب، فقد كانت المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جداً، حتى ارتفع الماء فحكم -أي وصل- على أعالي الجبلين وغرسوا فيهما البساتين، والأشجارَ المثمرةِ الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة.
ويقال: كان أول من بناه سبأ بن يعرب، وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء ومات، ولم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ -أي خمس كيلوا متر في خمسة-، وكانوا في غبطة عظيمة، وعيش رغيد، وأيام طيبة؛ حتى ذكر قتادة وغيره: أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فتمتلئ من الثمار مما يتساقطُ فيه من نضجه وكثرته من غير أن يُحتاج إلى كلفة ولا قطاف، لكثرته ونضجه واستوائه.
وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث ولا الدواب المؤذية لصحة هوائهم، وطيب فنائهم؛ كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ: 15].
وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخِصْبِ والوفرة، والرخاء والمتاع الجميل.
وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين: (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) [سبأ: 15].
وذكروا بالنعمة، نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ: 15].
لقد خصهم الله -تعالى- بخيري الدنيا والآخرة، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء، وسماحة في السماء بالعفو والغفران، فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران؟
ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا، كما قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
فلما عبدوا غير الله، وبطروا نعمة الله وملوها، حتى وصل بهم البطر: أنهم طلبوا وتمنوا أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى التي كان السير فيها متيسرا، وأحبوا أن تكون مفاوز يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل، والسير في الحَرُور والمخاوف: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 19].
أيها الإخوة: وقال غير واحد: أرسل الله على أصل السد الفأر، وهو الجرذ، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها القطط؛ فلم تغن شيئا إذ قد حُمَ القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر؛ فلما تحكم في أصل السد الفساد سقط وانهار، فسلك الماء القرار؛ فقُطعت تلك الجداول والأنهار، وانقطعت تلك الثمار، ومادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار؛ كما قال العزيز الجبار: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) [سبأ: 16].
الخمط كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله، والأثل معروف وهو شجر يؤخذ منه الحطب لا ثمر له: (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: 16].
والسدر: النبق، وكان ثمره قليل وشوكه كثير، ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 17].
أي إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.
وقال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ: 18].
وذلك أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتحلوا منها، وينتقلوا عنها، فتفرقوا في غور البلاد، ونجدها تفرقاً لا اجتماع معه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 14-19].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أيها الإخوة: لقد أعرضت سبأ عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد؛ فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سببَ هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه؛ فأرسل الله عليهم السيلَ الجارفَ الذي يحمل كل ما في طريقه من الحجارة، وغيرها لشدة تدفقه، فحطم السد، وانساحت المياه، فطغت وأغرقت؛ ثم لم يعد الماء يُخَزَّنُ في السد بعد ذلك، فجفت جداولهم، واحترقت أشجارهم.
ومن فوائد القصة: أن ما كانت فيه سبأ من رغد عيش ونعمة كانوا فيها فاكهين، آية على قدرة الله -تعالى- ورحمته وإنعامه.
وفي إرسال السيل عليهم: آية أخرى على شدة انتقامه، وسرعة عذابه، وتحوُّل عافيته، وفُجَاءَة نقمته، فتحول حالهم من النعمة إلى النقمة آية على أن الله له الحكمة البالغة، والحكم النافذ على عباده، فهو المالك المدبِّر المتصرِّف بما يشاء، فيُعِز ويُذِلُّ، ويَرفع ويَخفض، ويُعطي ويَمنع، ويَرحم ويُعذِّب، وله الحجة البالغة، وله الحكمة الباهرة في أفعاله.
وفي انعكاس حالهم من الرفاهية إلى الشظف آيةٌ على تقلُّب الأحوال، وتغيُّر العالم، وآيةٌ على صفات الله -تعالى- من خَلْقٍ ورِزق وتدبير، وإحياء وإماتة، ويستفيد العباد من ذلك عدمَ الاغترار بدوام الخير والنفع، وعدم اليأس من ارتفاع الشر والضر؛ فإن الله -تعالى- يغير من حال إلى حال.
وفيما كان من عمران إقليمهم، واتِّساع قُراهم، واتصالها ببلاد الشام، آيةٌ على مبلغ العمران، وعظمةِ السلطان، وأن عطاء الله -تعالى- لا حدَّ له، فهو الجواد الكريم، وهو على كل شيء قدير.
أيها الإخوة: ومن أعظم الفوائد: العلم بأن الأمن أساس العمران؛ ولذا لا بدَّ للبشر من تحصيل أسبابه، وتوطيد دعائمه، وتثبيت أركانه؛ إذ لا عيش لهم إلا بأمن، ورأسُ ذلك توحيد الله -تعالى- وطاعته، واجتنابُ المحرَّمات، والأخذُ على أيدي السفهاء المفسدين.
وفي تمنِّيهم زوالَ النعمة التي هم فيها بدعائهم على أنفسهم: آيةٌ على ما قد تبلغه العقولُ البشرية من السَّفه والانحطاط، والإضرار بالنفس والأمة، والتسبُّب في زوالها وفنائها؛ ولذا جاء النهي في الشريعة المباركة عن الدعاء على النفس والولد والمال، وهو من العجلة المذمومة: (وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا) [الإسراء: 11].
وفي حديث أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَدْعُوا على أَنْفُسِكُمْ إلا بِخَيْرٍ؛ فإن المَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ على ما تَقُولُونَ"[رواه مسلم].
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا على أَنْفُسِكُمْ، ولا تَدْعُوا على أَولادِكُمْ، ولا تَدْعُوا على أَمْوَالِكُمْ؛ لا تُوَافِقُوا من الله سَاعَةً يُسْأَلُ فيها عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيب لَكُمْ"[رواه مسلم].
وفيما صار إليه قوم سبأ من النزوحِ عن الأوطان، والتشتُّتِ في الأقطار: آيةٌ على ما يُلجئ الناسَ إلى ارتكاب المكاره والأخطار، ومفارقة الديار والأوطان؛ فالاستقرار نعمة لا يعرف قدْرَها إلا المشرَّدون.
ومن الفوائد: أهمية شكر الله بعد الأكل من رزقه؛ لقوله جل وعلا: (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) [سبأ: 15].
وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"[رواه مسلم].
كما أن في هذه القصة العظيمة: دليلاً على قدرة الله -جل جلاله- على تحويل النعم إلى نِقم، وقلبِ المنح إلى محن؛ ذلك أن الماء نعمة عظيمة، لا حياة لمن في الأرض إلا به؛ ولذلك يحتجزه الناس بالسدود، وهي من أعظم نعم الصناعة التي هُدِيَ البشر إليها، وانتفعوا بها، لكن الله -تعالى- حوَّل هذه النعمة العظيمة إلى نِقمة كبيرة على أهل سبأ، حين انطلق سيلُ سدِّهم عليهم، فأحال ديارَهم وجناتِهم خرابًا يبابًا.
وهذه القصة دليل على: أن مِن سنة الله -تعالى- في عباده أنه سبحانه يجزي الشاكرين زيادةً ونماء، ويجازي الكافرين خذلانًا وعذابًا: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ) [سبأ: 17].
فمَن فهم هذه السُّنةَ الربانية، وعمل بموجبِها، كان له الأمن والنعيم في الدنيا والآخرة، ومَن حاد عنها، وأعرض عن تذكير الله -تعالى- بها، كان من الهالكين.
أيها الإخوة: ومن رأى حالنا: علم أن نعم الله -تعالى- قد اكتملتْ لنا؛ فرِزْقُ الله -تعالى- يتتابع علينا، ونعمه تحيط بنا، وقد أمَّنَنا في أوطاننا، ويَسَّر أسفارنا، ومِن كل خير أعطانا؛ فلنحذر من الغفلة، ولنكن كآل داود شكرًا للنعم: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
قال الحكماء: "ما زال شيء عن قومٍ، أشد من نعمة لا يستطيعون ردَّها".
وقالوا: "مَن لم يشكر النعمة، فقد تعرَّض لزوالها، ومَن شكرها، فقد قيدها بعقالها".
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي