قيم نفسك وزِنها

أحمد محمد مخترش
عناصر الخطبة
  1. أقسام العاملين بالقرآن .
  2. المقصود بالظالم لنفسه .
  3. المقصود بالمقتصد .
  4. المقصود بالسابق بالخيرات .
  5. أقسام السابقين بالخيرات.
  6. أوصاف السابقين بالخيرات .
  7. أهمية العلم في السير إلى الله .

اقتباس

عباد الله: السائر إلى الله والدار الآخرة لا يتم سيره، ولا يصل إلى مقصوده، إلا بعلم وعمل، فبالعلم يبصر منازل الطريق، وبالعمل يسير حقيقة، فكلما قطع منزلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القُرب من المنزل؛ فهانت عليه مشقة السفر؛ وكلما كلَّتْ نفسُه من السير وعَدها بقربِ التلاقي، وبرد العيش. والدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمر الإنسان دقائق من دقائق تلك الساعة أو...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجا، وفاوَت بين عباده في منازل العبودية من الإنابة والمحبة والخوف والرجاء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجًا.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد:

عبادَ الله: إذا أراد المسلم أن يُقَيِّمَ نفسه ويزنها، ويعرف خسرانها من ربحها، ويطمئن عليها في سيرها إلى ربها؛ فليعرضها على القرآن الكريم، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يسأل أحدٌ عن نفسه غير القرآن".

وهذه -يا عبادَ الله-: آية منه، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فاطر: 32].

جعل سبحانه القائمين بهذا القرآن علمًا وعملاً ثلاثة أنواع:

"ظالم لنفسه" وهو المفرِّط في بعض الواجبات، أو المرتكب لبعض المحرمات.

"المقتصد" وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.

"السابق بالخيرات" وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات.

وكُلٌّ من هؤلاء الثلاثة مسافر إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، ثم جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.

"فالظالم لنفسه" إذا استقبل مرحلة يومه استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحركت جوارحه طالبة لها، فإذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة، فمرة يأخذ بالرخصة، ومرة بالعزيمة، ومرة يقدِم على الذنب وترْك الحق تهاونًا ووعدًا بالتوبة؛ فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد، والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب.

فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران، وهو للأغلب منهما؛ فإذا ورد القيامة ميّز ربحه من خسرانه، وحصر ربحه وحده، وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكْم الله من وراء ذلك لا يعدم منه فضله أو عدله.

هذا هو عمل الظالم لنفسه ومصيره.

أما "المقتصدون" فأدَّوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولا نقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحق الذي عليهم، فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام، والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها، مؤديًا واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار؛ فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، يأخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى صلاته ووظيفته.

فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط لا يظلمهم، ولا يترك حقه لهم.

هذه حال المقتصد.

وأما "السابقون بالخيرات" فهم نوعان: أبرار، ومُقرَّبون.

أما "الأبرار" فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه؛ فهِمَمُهم مصروفةٌ إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة، فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء التام والصلاة كما أمره الله في أول وقتها، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس، فيركع الضحى، ثم يذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب.

فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهُّر والسعي إلى الصف الأول من المسجد عن يمين الإمام أو خلف ظهره فأدَّى فريضته كما أمر، مكمِّلاً لها بشرائطها، وأركانها، وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب، فينصرف من الصلاة وقد أثَّرَتْ في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارًا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة على دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها؛ قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحبَّبَت إليه لقاء الله، ونفَّرته عن كل قاطع يقطعه عن الله.

وهو -مع ذلك- مُراعٍ لحفظ السنن، لا يُخِلُّ منها بشيء؛ ويأتي بعد الفريضة بالأذكار المشروعة من التسبيح والتحميد والتهليل ثلاثًا وثلاثين، ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين.

فإذا كان قبل غروب الشمس توفر على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يُخِلُّ بذلك أبدًا، فإذا أخذوا مضاجعهم أخذوا بأذكار النوم الواردة في السنة من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثًا، ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثًا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ويسبحون ويحمدون ثلاثًا وثلاثين، ويكبرون أربعًا وثلاثين، ثم يقول أحدهم: "اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت" فلا يزالون يذكرون الله على فراشهم حتى يأخذهم النوم.

وهم مع هذا قائمون بحقوق العباد، من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة، والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال، وزيارتهم، وتفقدهم، وقائمون بحقوق أهلهم وعيالهم. فإذا وقع من أحدهم تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار، والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره. هؤلاء هم الأبرار.

وأما "السابقون المقربون" فهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغُمِرَت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فإذا استيقظ أحدهم فأول ما يبدأ به: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".

ثم يقول بعدها: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه.

ثم يصلي ما كتب الله له صلاة محب ناصح لربه، متذلل منكسر بين يديه، لا صلاةَ مُدِلٍّ بها عليه، يرى من أعظم نعم الله عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهَّله وحرم غيره، يرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنَّةَ روحه ونعمتَه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله، ويناجيه بكلامه، معطيًا لكل آية حظها من العبودية؛ فتجذب قَلْبَه وروحه إليه آياتُ المحبة والوداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم.

وتُطَيِّبُ له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام، وإحلال غضبه بالمعرضين عنه، العادلين به غيره، المائلين إلى سواه؛ فإذا صلَّى ما كُتِب له جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من يتيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.

فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعدُ ليلٌ اضطجع على شقه الأيمن مُجِمَّا نفسه، مريحًا لها، مقويًا لها على أداء وظيفة الفرض، فإذا طلع الفجر صلَّى السنة وابتهل إلى الله بينها وبين الفريضة، ويكثر من قول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت.

ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصف الأول عن يمين الإمام أو خلف قفاه، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن؛ فإن صلاة الفجر يشهدها الله -عز وجل- وملائكته شهادة خاصة، وهي شهادة حضورٍ ودنوٍّ متصل بدنو الرب ونزوله إلى سماء الدنيا في الشطر الأخير من الليل.

فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التي شرعت أول النهار، فيجعلها وِردًا له لا يخِلُّ بها أبدًا، ثم يزيد عليها ما شاء الله من الأذكار الفاضلة وتلاوة القرآن حتى تطلع الشمس.

فإذا طلعَتْ فإن شاء ركع ركعتي الضحى وزاد ما شاء الله، وإن شاء قام من غير ركوع.

ثم يذهب متضرعًا إلى ربه، سائلاً له أن يكون ضامنًا عليه، متصرِّفًا في مرضاته بقية يومه، فلا ينقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاة ربه.

وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلَبَه عبادةً بالنِّيَّة وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب.

فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه، مكملاً له، ناصحًا فيه لمعبوده، باذلاً مقدروه كله في تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله، ليقع موقعًا حسنًا من محبوبه، فينال به رضاه وقربه منه.

وهكذا صلاة العصر والمغرب، والعشاء، فهذا سلوك أهل النباهة والحزم، وهم أفراد من العالم، وهو طريق سهل قريب موصِل، طريق آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه.

أما "الأشقياء" فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء، متزودين غضبَ الرب، مصحوبين بالشياطين، تسوقهم إلى منازلهم سوقًا حثيثًا، وتزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجًا -نعوذ بالله من حالهم ومصيرهم-.

فاتقوا الله -عبادَ الله-: فتقواه هي النجاة، وأهل التقوى هم أهل "لا إله إلا الله"؛ روى الطبراني بسنده، عن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت، ولا في القبور، ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 34].

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أفاض على خلقه النِّعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من يرد هدايته يشرح صدره للإسلام.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله كما أرسل الرسل من قبله يدعون إلى دار السلام، ويحذِّرون من المعاصي والآثام.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فيا عباد الله: السائر إلى الله والدار الآخرة لا يتم سيره، ولا يصل إلى مقصوده، إلا بعلم وعمل، فبالعلم يبصر منازل الطريق، وبالعمل يسير حقيقة، فكلما قطع منزلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القُرب من المنزل؛ فهانت عليه مشقة السفر؛ وكلما كلَّتْ نفسُه من السير وعَدها بقربِ التلاقي، وبرد العيش.

والدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمر الإنسان دقائق من دقائق تلك الساعة أو أقل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم -يعني في البحر- فينظر بم يخرج".

فاللهَ اللهَ -عباد الله-: لا ننقطع في المفازة، ولْنذكِّر أنفسنا ما أمامها من الأحباب، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفنا من الأعداء، وما لديهم من الإهانة والعذاب: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) [الروم: 11].

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله-: على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم -جل وعلا-، فقال تعالى قولاً كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي