والمحافظة على أوقات الأعمال أمانة، يحرم إهدارها والتفريط فيها؛ لأنها مرتبطة بعقود ومواثيق، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وقال -عز وجل- في وصفه لأولي الألباب: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ). فغياب أو تأخر الموظف أو العامل عن وقت عمله، وخروجه قبل انتهائه -بدون عذر- فيه تضييع للأمانة، وتعطيل الأعمال وتأخيرها بقراءة الصحف، وتصفح مواقع الإنترنت...
الحمد لله...
أما بعد:
فالزمن له شأن عظيم في دين الله، لذلك أقسم الله بفترات من الزمان: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) [الفجر:1-4]، (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) [المدثر:33-34]، (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى:1-2]، (وَالْعَصْرِ) [العصر:1]، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل: 1،2].
ولله أن يقسم بما شاء -جلَّ وعزَّ-، أما العبد فيحرم عليه أن يقسم بغير الله تعالى، وإنَّ تنويع قسمه -عز وجل- بالشيء وتكراره يدلُّ على تشريف وتعظيم المقسم به، وأنَّ له مكانة ومنزلة عالية عند ربِّ العالمين.
لذا فإنك تجد أنَّ الله تعالى ربط أركان الإسلام كلها بالزمن، فالصلاة -وهي أهم العبادات بعد شهادة التوحيد- جعل الله لها مواقيت محددة، (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) [النساء:103].
فلا تصح صلاة الفرض قبل حلول وقتها، وأكملُ أجرِ الصلاةِ وأعظمُه وأحبُّه إلى الله أن تُؤَدَّى في أول وقت الصلاة، في الصحيحين عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟! قَالَ: "الصَّلاةُ عَلى وَقْتِها"، وينقص أجرُ المصلِّي بقدر تأخره عن أول الوقت، ويحرم تأخير الصلاة عن وقتها.
والصيام -الركن الثالث من أركان الإسلام- محدود بزمن بداية ونهاية، فهو محدود بشهر رمضان، وبداية الشهر ونهايته محدود برؤية الهلال، ويمسك الصائم عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
والحج -الركن الخامس من أركان الإسلام- لا يكون إلا في فترة محددة: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، فمن أحرم بالحج في غير أشهره لم يصح إحرامه بالحج، ومن وقف بعرفة في غير يومه لم يصح وقوفه بعرفة، وما كُتب حاجاً وإن أدى المناسك كلها؛ لأن الوقوف بعرفة محدود بزمن.
ولا تجبُ الزكاة في الأموال على من ملك نصابها إلا بمرور سنة كاملة على امتلاكه.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتى الحديبية في شهر ذي القعدة محرماً معتمراً معظِّماً للبيت فصدّته قريش، ومنعته دخول الحرم، وصالحهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يرجع هذا العام ويأتي من العام القابل، أتى -صلى الله عليه وسلم- لعمرة القضاء في شهر ذي القعدة وفاءً بالعهد وصدقًا في الوعد، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) [الإسراء:34]، فإذا كان الوعد والعهد مرتبطًا بزمن وَجَبَ وفاؤه في زمنه المحدد.
عباد الله: جاء في معجم الطبراني ومسند البزار وجامع الترمذي عن معاذ بن جبل وابن مسعود وأبي برزة -رضي الله عنهم-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟! وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟! وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟! وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟! وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟!".
فاتقوا الله -يا عباد الله-، فإنَّا سنُسأَلُ عن حياتنا كلها لحظة بلحظة، وثانية بثانية، من حين بلَغَ الواحد منَّا سنَّ التكليف إلى الممات، فاجعل -يا عبد الله- حياتك كلَّها لله، واصرف أوقاتك فيما يرضيه، وأعدَّ ليوم السؤال جواباً، واجعل الجوابَ صواباً.
أيها الناس: نرى حياتنا وأعمالنا كلها مرتبطة بالزمن، فالموظف مرتبط بوقت ليباشر مهام عمله بداية ونهاية، والعامل مرتبط بوقت في أداء أعماله، والصانع يرتبط بوقت للإنهاء وتسليم ما يصنعه، والطبيب يعطي المريض الدواء ويربطه بوقت لتناوله، والمعلم مرتبط بزمن لأداء حصصه وتنفيذها، والطالب مرتبط بزمن لحضور مدرسته، ومتابعة حصصه الدراسية، وأداء أعماله وواجباته.
والمحافظة على أوقات الأعمال أمانة، يحرم إهدارها والتفريط فيها؛ لأنها مرتبطة بعقود ومواثيق، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وقال -عز وجل- في وصفه لأولي الألباب: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد:20].
فغياب أو تأخر الموظف أو العامل عن وقت عمله، وخروجه قبل انتهائه -بدون عذر- فيه تضييع للأمانة، وتعطيل الأعمال وتأخيرها بقراءة الصحف، وتصفح مواقع الإنترنت، ومتابعة مواقع التواصل ورسائلها، وأحاديث متواصلة مع الزملاء؛ فيه إخلال بميثاق العمل، وتضييع للأمانة، خاصة إذا صاحبه إضرار بأناس تتعلق مصالحهم بتلك الأعمال.
وقد حُكِيَ من ورَعِ وتقوَى الشيخ العلامة محمد الصالح بن عثيمين -يرحمه الله-؛ أنه إذا تغيّب أو تأخّر عن عمله في الجامعة لسفر أو غيره وتَسَلَّم راتبه من الجامعة كاملاً، نظر في الأيام والأوقات التي تغيَّب أو تأخر فيها وحَسب راتبها ثم ردَّه.
فاتقوا الله وحافظوا على الواجبات، وراقبوا الله في أدائها، وحاسبوا أنفسكم كما أمركم ربكم إذ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]
الحمد لله...
أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه في فضل التبكير لصلاة الجمعة، والمحافظة على وقتها وآدابها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَسلَ وَاغْتَسَلَ، وَغَدَا وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاقْتَرَبَ، وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ: صِيَامُ سَنَةٍ وَقِيَامُهَا".
أي العبد المسلم إذا غسل رأسه وبدنه، واغتسل غُسل يوم الجمعة، وخرج من بيته إلى المسجد في وقت الغداة، أي في الصباح الباكر قبل أن ترتفع الشمس كثيراً، وأتى المسجد ماشياً على قدَميْه، واقترب من الصَّف الأوَّل، وكان قريباً من الإمام ليسمع الخطبة بوضوح وجلاء، واستمع للخطبة في صمت وبِوَعْيٍ وفَهْمٍ وإدْراك، كانت خطواته التي مشاها إلى المسجد لصلاة الجمعة فوق أجر المشي إلى الصلاة المعروف: "بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً".
فانظروا -عباد الله- إلى كرم الله تعالى وفضله وإحسانه، كيف يعطي الكثير على العمل القليل اليسير، إذا أخلص فيه العبد لربه، وأتم العمل على النحو الذي يرضي ربَّه -عز وجل-.
وانظر كم نضيِّع من الأجور، ونفوِّت من الحسنات، بتقصيرنا تكاسلنا وتأخرنا.
اللهم أتمَّ علينا نعمك، لا تحرمنا فضلك، واغفر لنا يا ربنا خطأنا وزللنا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَصْلِحْهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي