والذَّوق: كلمة تَحْمِلُ في طِيَّاتها معاني اللُّطفِ، وحُسْنِ المَعْشر واللَّفظ، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرُّف، وتجنُّبِ ما يمنع من الإحراج، وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة، أو نحو ذلك. والذَّوق بابٌ من أوسع أبواب الأدب، وسنقف ..
الحمد لله الذي على عرشه اسْتَوى، له الجلال والجمال وإليه المُنتَهى، وأشهد أن لا إله إلا الله مُبْدِع الكون والورى، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الخاتم المصطفى، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنُّهى.
أما بعد:
أيها الفضلاء: فأوصيكم ونفسي بالسَّعي إلى مرضاة الله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
إخوة الإيمان: صحَّ عنه -عليه الصلاة والسلام- قولُه: "لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كِبْر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: "إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبْر: بطر الحقِّ، وغَمْط الناس" (أخرجه مُسْلم).
فهذا الحديث يُقرُّ الشَّخصَ على اعتنائه بتحسين مَظْهره بما يلبس من ثوب وحِذاء، بل ويحثُّ على ذلك؛ كما في أحاديث أخرى.
والجمال منه ما هو حسِّي، ومنه ما هو معنوي.
وقد يُعبَّر عن الجمال المعنوي في مصطلحنا الحديث: "بالذَّوق".
والذَّوق: كلمة تَحْمِلُ في طِيَّاتها معاني اللُّطفِ، وحُسْنِ المَعْشر واللَّفظ، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرُّف، وتجنُّبِ ما يمنع من الإحراج، وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة، أو نحو ذلك.
والذَّوق بابٌ من أوسع أبواب الأدب، وسنقف -نحن وأنتم- مع أمور شرعيَّة في هذا الباب، وقد أفرد ابن القيِّم كلامًا عن هذا الموضوع في كتابه: "مدارج السَّالكين" باسْم: "مَنْزلة الأدب".
أيُّها الكِرام: الذَّوق والأدب أنواع؛ فمنه: ما يكون مع رَبِّنا -جلَّ جلالُه-.
تأمَّلْ قول الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ كما أخبر الله عنه: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 78-80].
فلم يقل: "وإذا أمرَضَني" حِفظًا للأدب مع الله.
وقريب منه قول الخضر في السفينة: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) [الكهف:79].
ولم يقل: "فأراد رَبُّك أن يعيبها".
وقال في الغُلامين: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) [الكهف:82].
ومؤمنو الجنِّ كان معهم أدب وذوق؛ إذْ لما حُفِظت السماء بالملائكة بعد البعثة، وصارت تَرمي بالشُّهب، وتحرق الشياطين قالوا: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن:10].
والشاهد: أنَّهم لم يَنْسبوا الشرَّ لله.
ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- حين عُرج به، ووصل الأماكن العليَّة، فوق السماء السابعة: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) [النجم:14].
مدَحَه ربُّه، فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم:17]
إذْ كمال إقبال الناظر على المنظور ألاَّ يَصْرف بصَرَه عنه يَمْنَة ولا يَسْرة، ولا يتجاوزه، وإلاَّ فإن عادة النُّفوس إذا أقيمت في مقام رفيع أن تتطلَّع إلى ما هو فوقه وأعلى منه.
ومِن الذَّوق والأدب مع الرَّبِّ -سبحانه- عدمُ استقبال واستدبار القِبْلة حال قضاء الحاجة، كما صحَّ بذلك الخبر.
ومن هذا الباب: أخْذُ الزينة عند الصلاة، ويخطئ من إذا كان في بيته صلَّى بثياب النوم، ففي قراءة: (خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31].
والمسجَد موضع السُّجود.
ومن الذوق والأدب مع الرب: حمده والثناء عليه قبل الدُّعاء.
ومن ذلك أيضًا: الإنصات لكلامه -سبحانه-.
ومن الأدب والذَّوق مع كتاب الله ألاَّ تمد الرِّجل أمام المصحف.
ومن أنواع الذوق والأدب -أيُّها الأحبَّة- ما يكون مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عدم رفْع الصوت عنده حال حياته، وعند قبره بعد وفاته، قال -سبحانه-: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات: 2].
ومن ذلك أيضًا ألاَّ يجعل دُعاءَه كدعاء غيره: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) [النور: 63].
فلا يُدْعى باسمه، بل يقال: يا رسول الله، يا نبي الله.
أيُّها الكِرام: وممَّا جاء في الإسلام في الذَّوق والأدب المتعلِّق بشؤون الناس، أمور كثيرة؛ منها:
النظافة الجِسْمية، فالإسلام أوجب التنظُّف بعد قضاء الحاجة من البول والغائط، وشرع الوضوء والغُسْل في أحوال متعدِّدة.
ومن النظافة المشروعة -كما تعلمون- قصُّ الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، وقد نهى -عليه الصلاة والسلام- أن تُترك أكثر من أربعين يومًا.
وبالمناسبة ذُكر أن عاملاً كافرًا في إحدى البلاد غير المسلمة، يعمل في مغسلة للملابس، لفت نظرَه نظافةُ ثياب أحد الزَّبائن! فتحدَّث مع الزبون عن ذلك، فأخبره العميل المسلم أنَّ هذا ممَّا يأمر به الدِّين الإسلامي، فكان هذا سببًا لإسلام هذا العامل.
ومن الذَّوق والأدب سُنَّة التيامن، فقد كان من هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يستخدم اليمين في كلِّ ما كان من باب التكريم والتشريف، والشمال بضدِّ ذلك.
ونحن الآن في أيام يكثر فيها الزكام، ولا شك أنَّ النَّفْس تكره مصافحة يد امتخطت آنفًا، بينما الامتخاط بالشمال هو سُنَّة، ومن الذوق والأدب.
وللحديث صِلَة، نُكْمله بعد قليل -إن شاء الله-.
بارك الله لي ولكم بالسُّنَّة والقرآن.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، وصلَّى الله وسلم على مَن بُعِث متمِّمًا للأخلاق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيُّها المُصلُّون: فقد شرع لنا رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمورًا كثيرة هي من الذَّوق الكريم؛ فمِن ذلك: الاستئذان ثلاثًا؛ إن أُذن لك، وإلاَّ فارجع؛ كما صحَّ بذلك الخبر.
ورَبُّنا يقول: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) [النور:27].
ورُبَّما طرق بعض الناس الباب والجرس أضعاف الثَّلاث! وأزعج أو أيقظ النائمين في البيت، وقُلْ مِثْل هذا في الهواتف المحمولة.
كما أنَّه من الأدب والذوق أن يقف المستأذن يمين الباب أو يساره كما في الخبر.
وكذلك استئذان صاحب المَنْزِل عند إرادة الذَّهاب والانصراف.
وكذلك عدم التَّفريق بين اثنين إلاَّ بإذنهما.
وأيضًا كراهة التجشُّؤ بحضرة الآخَرين.
وكذلك عدم مقاطعة المُتَحدِّث، كما صحَّت بذلك الأحاديث.
إخوة الإسلام: أخبر أنس -رضي الله عنه- أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يُعْرَف بريح الطِّيب إذا أقبل.
كما أنه -عليه الصلاة والسلام- يبدأ بيته إذا دخله بالسِّواك؛ كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها-.
وقد قيل في حكمة ذلك: المبالغة في النظافة عند دخول البيت؛ لِحُسن معاشرة الأهل، ولأنَّه رُبَّما تغيَّرت رائحة الفم عند محادثة الناس، أو طول السكوت.
أيها الكرام: وما أجملَ الأدبَ والذوق عند العفو والصَّفح! تأمَّلْ قول يوسف -عليه السلام- بعد أن اجتمع شمله بأبيه وإخوته: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف:100].
قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ). ولم يقل: أخرجني من الجُبِّ مع أنه أعظم؛ لئلاَّ يُخْجل إخوتَه بما فعلوه!.
وقال: (وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) ولم يَقُل: رفع عنكم الجوع والحاجة.
وقال: (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ولم يقل: من بعد أن نزَغَهم الشيطان.
فسبحان من قَسَّم الأخلاق والأرزاق!.
وحين عاتب الله نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- حين أذِن للمنافقين بالتخلُّف عن غزوة تبوك، قدَّم الله عفوه على عتابه: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) [التوبة:43].
ويُروى أنَّ أحد الخلفاء رأى ذات يوم في المنام أنَّ أسنانه كُلَّها تساقَطَت، فانزعج، وطلب مُفسِّرًا للأحلام، فلما جاء المُفَسِّر، قال: إن جميع أولادك يموتون قبلك، فتشاءم الرَّجل، ثم أَحضر مُفَسِّرًا آخر، فقال نفس القول، فزاد تشاؤمه، حتى جاء الثالث، فقال: "هنيئًا لك يا أمير المؤمنين، إنَّك ستكون أطول أقربائك عمرًا -إن شاء الله تعالى-".
فأمر له بعطاء، مع العلم أن مضمون الآراء الثلاثة واحد!.
وعمومًا، فهذه -أيُّها الكرام- إشارات تبيِّن شيئًا من محَاسن هذا الدِّين العظيم.
ثم صلُّوا وسلِّموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي