أيها المسلمون: لقد بين الإسلام: أن الغاية من بعثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو تقويم الأخلاق، وتهذيبها وتصفيتها مما علق بها من شوائب وأدران، فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فقد كان في الجاهلية الأولى بعض الأخلاق الحميدة مثل الكرم، وإقراء الضيف، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف. إلا أن الإسلام قوّم تلك الأخلاق وهذبها، وربطها بمعاني اليوم الآخر، ورتب على فاعلها الأجر والثوب، ومن تلك الأخلاق: الـ...
أيها المسلمون: أكد الإسلام على أهمية الأخلاق ودورها في صلاح الفرد والمجتمع، وما لها من المكانة الرفيعة في الإسلام، ويتحدث القرآن في كثير من سوره وآياته عن الأخلاق وأنواعها وصفاتها، ودورها في تهذيب السلوك وتقويم النفس، وما يترب عليها من الأجر والثواب في الدار الآخرة؛ تأمل معي قوله تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133- 134].
العفو والصفح عن المسيء، وكظم الغيظ عند الغضب، والإحسان إلى المخلوقين هي من أخلاق القرآن التي يجب أن يتحلى بها المسلم.
لقد مدح الله المؤمنين الصادقين بكونهم يتحلون بمكارم الأخلاق، ويتخلقون بآداب الإسلام، فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 63 - 67].
ثم بيّن جزائهم: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)[الفرقان: 75- 76].
أيها المسلمون: إن قدوتنا في الأخلاق الحسنة، والسيرة الطيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا وقد مدحه الله في القرآن، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].
وقد وصفته السيدة عائشة -رضي الله عنها- بأن خلقة القرآن، بمعنى أن امتثال القرآن أمرًا ونهياً، وانقياداً وعملاً، وظاهرا وباطناً كان له سجية وطبعًا.
وقد سئلت الصديقة بنت الصديق السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ".
ولما رجع من غار حراء يرتجف فؤاده وقفت السيدة خديجة في محنته، وطمئنت فؤاده، ودللت على نبوته وصدق دعوته وما يحمله من رسالة للعالمين بكونه كان صاحب خلق عظيم، وأدب رفيع، ومزايا حسنة، وسيرة كريمة، فقالت رضي الله عنه له: "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
معاشر الأحبة: لقد اهتم الإسلام بقضية الأخلاق، وما لها من فضائل وفوائد، وما لها من دور في نشر الفضيلة في المجتمع؛ فمن فضائلها:
• إنها أثقل شيء في الميزان؛ جاء في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق".
وفي رواية: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله -تعالى- يبغض الفاحش البذيء".
• ومن فضائل الأخلاق الزكية: أن صاحبها أقرب الناس إلى حبيب البرية محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّؤونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَشَدِّقُونَ، الْمُتَفَيْهِقُونَ"[رواه الطبراني في مكارم الأخلاق، والترمذي].
• ومن فضائل الأخلاق الكريمة، والآداب المرعية: أن صاحبها ومن يتحلى بها يدخل الجنة بسلام، ونعم الحلية لكل من أراد أن يتحلى ويتزين بالأخلاق التي توصل إلى أعالي الجنان؛ فعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: "لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة انجفل الناس قبله وقيل قد قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله ثلاثا، فجئت في الناس لأنظر فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
أيها المسلمون: لقد ربط الإسلام الأخلاق الكريمة بمعاني العقيدة السليمة؛ كي يكتب لها الدوام والاستمرارية، وتثبت في قلب المؤمن، وحتى تؤتي أكلها وثمارها اليانعة، تأمل معي قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24-25].
والشجرة؛ كما جاء تفسيرها هي: كلمة التوحيد، ممتدة في جذور الأرض، وللشجرة الفروع والسيقان والأوراق هي ما يتفرع عنها من الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة.
وكلما كان المسلم أكثر تمسكاً وعملاً بمعاني العقيدة كان أعظم خلقًا، ولذا جاء في حديث أبي هريرة: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: "لا إله إلا الله" وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
أيها المسلمون: لقد بين الإسلام: أن الغاية من بعثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو تقويم الأخلاق، وتهذيبها وتصفيتها مما علق بها من شوائب وأدران، فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فقد كان في الجاهلية الأولى بعض الأخلاق الحميدة مثل الكرم، وإقراء الضيف، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف.
إلا أن الإسلام قوّم تلك الأخلاق وهذبها، وربطها بمعاني اليوم الآخر، ورتب على فاعلها الأجر والثوب، ومن تلك الأخلاق: التواضع، والصبر، وإعانة الجار، ونصرة المظلوم، والعفو عن المسيء.
أيها المسلون: لقد انتشر الإسلام في ربوع المعمورة بفضل ما كان يحمله تجار المسلمين من الأخلاق الكريمة، والتعامل الحسن، وقد أسلم كثير من المشركين بمجرد أنهم شاهدوا خلق الرسول الكريم، وسمعوا سيرته الطيبة مع أنهم لم يسمعوا منه حديثا، فقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجا يُحتذى به في الخلق مع نفسه، ومع زوجاته، ومع جيرانه، ومع ضعفاء المسلمين، ومع جهلتهم، بل وحتى مع الكافر، فقد قابله أعرابي فسأله عن نفسه فعرّفها له، فقال الأعرابي: أنت الذي يقول عنه قومه إنه كذاب؟ قال: نعم، قال: "لا والله ما هذا الوجه بوجه كذاب".
فعلينا -معاشر المسلمين-: أن نعكس صورة الإسلام الناصعة من خلال تعاملنا، وأخلاقنا وسيرتنا بين الناس، وأن تدعوا بأخلاقنا وسلوكنا قبل كلامنا وقولنا وحديثنا؛ لأن الناس مجبولة على التأثر بالفعل والعمل أكثر من القول والحديث، وأن لم يتغير سلوكنا وحالنا فلن يتأثر بنا أحد ولو زخرفنا القول، وأبدعنا في الكلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
بعد مقدمتها.
أيها الناس: إن من الأخلاق الكريمة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتحلى بها، هو: أن يمسك لسانه ويده عن إيذاء المخلوقين؛ فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجَر ما نهى الله عنه"[متفق عليه].
وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله" قال: قلت: أيُّ الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً" قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعاً أو تصنع لأخرق" قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: "تكفُّ شرَّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك"[أخرجه مسلم].
أيها الناس: ما فائدة أن تجد المسلم محافظًا على بعض شعائر الإسلام من صلاة وصوم وزكاة، ولكنك تجده في جانب الأخلاق من صدق، ومعاملة وسلوك يخالف تعاليم الدين، ويكاد يخلو رصيده من ذلك، فيطلق لسانه في الغيبة والنميمة، وإيقاع الفتنة بين المتحابين، تجده كذاباً، لعاناً، يخاصم لساعات في الدرهم والدرهمين من أقرب الناس إليه، لا يكاد يسلم من لسانه ويده وبصره أحد من الناس.
ولذا جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"[أخرجه أحمد].
وجاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها سليطة؟ قال: "لا خير فيها هي في النار" وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان وتتصدق بالأثوار، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحدا قال: "هي في الجنة".
إن المسلم الصادق من أطاع الله ورسوله، والتزم بالأخلاق الكريمة، والآداب الإسلامية؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ".
نعم -أيها المسلمون-: نحن أمة لا تعرف في قاموسها الحقد والكراهية والأنانية، منها انبثق نور العلم والهداية، ومن سمائها شع الخير والمحبة الى العالمين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران: 110].
هذا، وصلوا على الحبيب المختار كما أمركم الله في القرآن حيث قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي