رب اشرح لي صدري

عبد الرحمن بن صالح الدهش
عناصر الخطبة
  1. الدنيا دار ابتلاء واختبار .
  2. النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرح الناس صدرا .
  3. أسبابِ ووسائل انشراح الصدر .
  4. من أخطاء الناس في الحصول على انشراح الصدر .

اقتباس

كيف يطلب انشراح الصدر من ضيَّع صلاته، ومنع زكاته؟. وكيف يَطْلب انشراح الصدر من ظلم مسلماً في مالٍ أو عرضٍ؟ وكيف يطلبُ انشراحَ الصَّدْرِ مَن أكل الربا، وغشَّ المسلمين في بيعٍ أو شراء؟ ثم ها هو يطلب الرشوة الملعون آكلها يزعم أنها هي أجور وأتعاب، ومقابل خدمة. كيف يطلب انشراح الصدر مَن عقَّ والديه، وقطع أقربَ الناسِ إليه؟. بل كيف يطلب انشراح الصدر من...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا...

أما بعد:

فإنَّ الله خلق الإنسانَ، وجعله في هذه الدنيا محلَّ ابتلاء، واختبار، يكدح فيها كدحاً حتى يُلاقِيَ ربَّه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق: 6].

يُسَر بها حيناً، ويُساءُ بها أحياناً.

تنفرج أمامه أبوابُ السَّعادة، حتى لا تستطيع أرضٌ أن تقله، ولا سماءٌ أن تظلَّه، فهو فرِحٌ مسرورٌ، في غبطة وحبور.

حتى إذا ما تقلبت عليه أمور، وتنادت حوله حوادث الدهور ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وانغلقت عليه أبوابٌ قد انفرجت.

ابتلاء من الله وتمحيصاً.

درسٌ عَمَلِيٌّ مِن الله -تعالى- يُعَلِّم به عباده: أنَّ الدنيا هكذا خلقت، فرَحٌ وسرور، وأحزانٌ وشرورٌ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].

فكيف يطمئنُّ العاقل إلى هذه الدنيا؟

أو كيف يستغني بها عن الأخرى؟

جُبِلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذاءِ والأكدار

ومكلف الأيام ضدَّ طباعـها  *** متطلـب في الماء جذوة نار

ولكن من رحمة الله بعباده، ولطفه بأوليائه أنه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، ولم يجعلهم في هذه الحياة بلا هادٍ يعينهم.

فجعل لانشراح الصدر رغم المنغصات أسباباً، ولانبساط النفس، وطيب الحياة أبواباً: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) [الزمر: 22].

(فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) [الأنعام: 125].

ولما كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أعرفَ الخلقِ بربه، وأعلَمهم بمراده من خلقه كان أشرحَ الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنْعَمَهُم قَلْباً، امتنَّ الله عليه بِشْرحِ الصدر، فقال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[الشرح: 1] أي: نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله، والاتصاف بمكارم الأخلاقِ، والإقبالِ على الآخرة، وتسهيل الخيراتِ.

فمن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أتبع، كان له من سعة الصدر المقامُ الأرفع.

ألا وإنَّ من أعظم أسبابِ شرح الصدر، وبه تطرد الأحزان والهموم، وتزال بسببه الوحشة والغموم: توحيد الله -تعالى-.

فتعمُرُ -يا عبد الله-: قلبك ثقة بالله، فلا مانع لما أعطاه، ولا معطي لما منعه، ولا رادَ لما قضاه، ولا معقب لحكمه: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ) [يونس: 107].

حينئذ تطيبُ نفسُ العَبْدِ بما قُدِّر له، وتَنْقَشِعُ عن عَيْنَيه غشاوة الهمِّ والحزْنِ، وينشرحُ صدرُ المسلم بمثل هذه الاعتقادات، توحيدٌ وتسليم، وإذعانٌ وتعظيم.

فتوحيد الله، ومعرفته، وتفويض الأمر إليه، هو جنَّة الدُّنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيمٌ، وهو قُرَّةُ عين المحبينَ، ولذَّةُ حياةِ المؤمنين.

ومن فاته شيء من توحيد الله، أو خَلَطَه بشيء مما يغضب الله ضاق صدره، واستوحش في قلبه: (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام: 125].

ومن أسبابِ انشراح الصدر: ترك المعاصي، والهروب إلى الله، ومحاسبة النفس، وإنَّ الهمومَ والأحْزَان عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية حاضرة.

فكيف يطلب انشراح الصدر من ضيَّع صلاته، ومنع زكاته؟.

وكيف يَطْلب انشراح الصدر من ظلم مسلماً في مالٍ أو عرضٍ؟

وكيف يطلبُ انشراحَ الصَّدْرِ مَن أكل الربا، وغشَّ المسلمين في بيعٍ أو شراء؟

ثم ها هو يطلب الرشوة الملعون آكلها يزعم أنها هي أجور وأتعاب، ومقابل خدمة.

كيف يطلب انشراح الصدر مَن عقَّ والديه، وقطع أقربَ الناسِ إليه؟.

بل، كيف يطلب انشراح الصدر من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن منكرٍ تعيَّن إنكاره عليه؟

ألا ما أبعد طيبَ العيش عن هؤلاء وأمثالِهم!.

وما أضيق صدور هؤلاء، وتعساً لحالهم!.

فجاهد نفسك -يا عبد الله-: في طاعة الله، وألزمها تقوى الله: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) [الطلاق: 2].

(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5- 7].

ومِن أسباب انشراح الصدر: التزود من الطاعات، والإقبالُ على ربِّ الأرض والسمواتِ، فالطاعة فرضها ونفلها زادُك في الآخرة، ولذتك في الدنيا، والإكثار منها سببٌ في محبَّة الله.

قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إلى بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يَسْمَعُ به، وبصره الذي يُبْصِرُ به، ويدَه التي يَبْطِش بها، ولئن سَألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".

ومن أعظم الطَّاعَاتِ: ذكر الله، ومن أعظم الذكر قراءة القرآن تدبراً، وتأمَّلاً، فقراءة القرآن تورثُ العبدَ طمأنينةً في القلب، وانشراحاً في الصدر: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82].

ومن ذكر الله: الأورادُ الصباحية والمسائية، وأذكار النوم والمناسبات، فهي حصن حصين، وقوة وانبساطٌ من رب العالمين.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكربِ: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم".

ومن أسباب انشراح الصدر: نفعُ المؤمنين، وإعانة المحتاجين بالمال والبدن، فهو باذل نفسه وماله ووقته لقضاء حوائجهم، وتنفيس كرباتهم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة".

فهو إن كان عاملا لأحد أخلص في عمله، أو كان بائعاً نصح في بيعه، وإن كان معلماً صار معلماً مربياً يحب لأبناء الناس كما يحب لأبنائه، وإن كان موظفاً حرص على إنجاز مهمات مراجعيه، وتيسير أمورهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

فمن كانت هذه طريقته، فهو من أشرح الناس صدراً.

"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

ويخص من نفع الناس هنا بذل المعروف بالصدقة على محتاجهم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنَّ للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر".

فطيبوا نفساً -أيها المتصدقون: من أموالكم أو من أموال وكلتم على جمعها وتصريفا؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الخازن المسلم الأمينُ الذي ينفذ ما أمره به فيعطيه كاملاً موفرا، طيبة به نفسهُ فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدقين"[متفق عليه].

وفي رواية: "أحد المتصدقين" بالجمع، وكلاهما صحيحٌ.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن الأسباب التي سمعتها لشرح الصدر، وانبساط النفس هي أسباب عامة لكل أحد، مهما علا مقداره، أو قل فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟

ألا وإن من الناس من أخطؤا الطريق الذي اختاروه لشرح الصدر، وانبساط النفس، وتحصيل السعادة، فظنوا السعادة في المباهات في كمالات الدنيا، وسفرياتها، وإتراف النفس في ملذاتها، والحرص على ركوب أغلا المراكب، وتأثيث البيوت بأنفس التحف والفرش، أو السعادة في الموائد العريضة، وتجهيزات الولائم اللذيذة.

ومن الناس من غلبه الكبر، فحسب السعادة في التعالي على الخلق، والبعد عن أناس هم في ميزانه أقل من وزنه فهم فقراء أو غير متعلمين، أو دونه نسباً وشرفاً، فظنَّ أن الدنو من هؤلاء نقص في السعادة، وضيق في الصدر لما فاتهم من بهجة الدنيا.

ألا فليعلم من في نفسه كبر أو في علمه نقص أن السعادة قد ضربت أطنابها في بيوت كثير من الفقراء في حين غادرت من بيوت بعض الأغنياء.

وأن السعادة قد حلت قلوب المرضى، ومن لزموا أسرة المستشفى، بل إنك تجد السعادة عند قوم بلا مأوى، وفيهم من الإعاقة الشيء الكثير، وركبتهم الديون، ولله في خلقه شئون.

ومن أسباب انشراح الصدر: الدعاء والإلحاح على الله بأن يشرح صدرك، وييسرك أمرك، فيا من ضاق صدره، وتكدر أمره ارفع يديك إلى ربك، وبث شكواك إلى خالقك، واذرف دموعك عينك، علَّ الله أن يجيب دعوتك، ويزيل كربك.

وهاك دعاء من أنفس ما عنيت به، ومن أعظم ما دعوت به.

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي، إلا أذهب الله حزنه، وهمه، وأبدله مكانه فرحاً"[رواه الإمام أحمد وغيره].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي