فقه الاستخارة

عمر بن عبد الله المقبل

عناصر الخطبة

  1. ضعف الإنسان وحاجته للاستشارة والاستخارة
  2. طرق الجاهلية في الاستخارة
  3. بيان صفة الاستخارة الشرعية
  4. أهم الفوائد المستفادة من حديث جابر بن عبد الله في الاستخارة
  5. صلاة الاستخارة نافلة مستقلة
  6. أين يكون دعاء الاستخارة؟
  7. أهم التنبيهات المتعلقة بفقه الاستخارة.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالةَ وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فلقد خلق الله الإنسان ضعيفاً -في تصوره، وفي علمه، وفي قدرته، وفي قوته- لذا جاءت هذه الشريعة العظيمة لتربط المؤمن بما يسدّ هذه الثغرة من جهات شتى، أعظمها: تربيته على التوكل على الله، والتبرؤ من الحول والقوة، ومشاورة ذوي العقول في الأمر الذي يريد أن يُقدِم عليه، قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

ومن ذلك: ما أوجبه الشرع من بذل النصيحة لمن سأل النصح: "وإذا استنصحك فانصح له"( مسلم ح: 2162).

ومن الطرق التي تميّزت بها هذه الشريعة في تقليص دائرة هذا الضعف البشري؛ ما شرعه الله -عز وجل- من الاستخارة لمن يريد أن يُقدِم على أمرٍ من الأمور، وحتى تتضح ميزةُ هذه الاستخارة؛ فإننا سنقف بعض الوقفات مع حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- الذي هو أشهر حديثٍ في هذا الباب؛ نظراً لتقصير بعض الناس في فقه هذا الباب من أبواب العلم والعمل، والذي نحتاجه جميعاً.

أيها المسلمون:

إن معرفة الطريقة التي كان أهل الجاهلية يلجأون إليها عند حيرتهم، أو رغبتهم في الاختيار؛ لتكشف لنا عظمة هذا الدين، وموقعَ حديث الاستخارة من القلب والشرع، فلقد كان أهل الجاهلية يلجأون إلى الاستقسام بالأزلام، وذلك أن الإنسان حينما يَهِم بأمر ذهب إلى أقداحٍ مكتوب على الأول: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث غُفل! فأيها خرج عليه طبّقه، فإن خرج له أمرٌ ثم قابله حيوان أو شيء مما يتشاءمون به كالبومة ونحوها؛ رجع أحدُهم عن طريقه، وترك المضي لحاجته! وَإِن خرج الغُفل أجالوها ثَانِيَةً!

في سلسلة من الخرافات، أبدلنا الله بها خيراً منها وأنجح: الاستخارة الشرعية التي دلّ عليها حديثُ جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارةَ في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همّ أحدُكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدِر ولا أَقدِر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدرْه لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنتَ تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري –أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم أرضني"، وفي لفظ: "ثم رضّني به" (البخاري ح: 6382).

ولنا مع هذا الحديث العظيم الوقفات التالية:

1- حديث الاستخارة بديل شرعي عن ترهات أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام، ودليل على أن من أعظم مقاصد ديننا تعليق القلب بالله -تعالى- وحده.

2- وفي قول جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها" أي: في الأمور التي لا وجوب فيها ولا تحريم ولا استحباب منصوصٌ عليه، لكن لو قُدّر أن الإنسان احتار بين أمرين مستحبين أيهما يقدِّم هذا أو ذاك، فهنا يستخير في تقديم أحد الأمرين.

3- وقد يقع للإنسان في المستحب، أو الواجب استخارة -لا في ذاته ولكن- لأمر خارج عنه، كمن يريد أن يستخير في رفقة الحج التي سيرافقها، أو في توقيت السفر.

4- وفي قوله -رضي الله عنه-: "كما يعلمنا السورة من القرآن" دليل على أهمية العناية بلفظ هذا الدعاء النبوي العظيم، والضبط للفظه، كما يهتم الإنسانُ بلفظ السورة من القرآن، وتَسلسُل آياتها، لكن من عجز عن ضبط لفظه فليَدْع بما يقاربه، ولا بأس أن يقرأ الدعاء من ورقة أو كتيب إن عجز عن لفظه، المهم أن يحرص ما استطاع على لزوم اللفظ النبوي.

5- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا هم أحدكم بالأمر" وهذا يعني أن مجرد الخاطر العابر لا تشرع معه الاستخارة، بل عند وجود الهم الذي يصحبه عزم.

6- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فليركع ركعتين من غير الفريضة" دليل على أن صلاة الاستخارة مستقلة، لا يدخل معها نية أخرى -على الراجح- كما انفردت بهذا الدعاء.

7- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم ليقل" دليل على أن دعاء الاستخارة يكون بعد السلام، بدلالة "ثم" التي تفيد الترتيب، وليس داخل الصلاة، أو في السجود.

8- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أستخيرك بعلمك" ما أجمل هذه العبارة! إنها تعني استعانة العبد الجاهل بمآلات الأمور، وتوسله بعلم الله ليدله العليمُ على ما هو خير له عاجلاً وآجلاً، وكذلك قوله: "وأستقدرك بقدرتك" فإن العبد عاجز، والرب قادر، فالعبد يطلب من ربه أن يُقدِره على الفعل إن كان له فيه خير.

وتأتي الدرة الثالثة في هذا التوسل، وهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك من فضلك العظيم" ففيها اعتراف من العبد بأن ما يعطيه الرب لعبده محض فضل منه وجود وكرم، وليس مقابلاً لأعماله التي يعملها، فإن العبد لو سجد دهرَه كلّه ما شكر نعمة النّفَس! ولا الماء البارد.

9- فإذا قال العبد: "فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب" فإنه يعلل ويوضح سبب تلك المقدمات التي دعا بها آنفاً.

10- ثم يقول بعد هذا: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر" أي الذي سيُقدِم عليه فيسميه -كأن يقول: اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فلانة، أو شرائي هذا المنزل، أو لتلك الأرض…الخ- "خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري…"الخ هذا دليل عظيم على التوازن الشرعي بين متطلبات الدين والدنيا، لا كما يزعمه المفترون على هذا الدين، وأنه خاص بأمر العبادة فقط! بل هو دين شامل كامل، ولا يضره أن يجهل ذلك الجاهلون، أو يفتري عليه الأفّاكون.

11- ثم تأمل قوله: "واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني" وفي لفظ "رضّني" وكلاهما بمعنى، ففي هذا تربية للمؤمن، بأن عليه أن يوطّن نفسه على اختيار ربه، فإن الله -تعالى- لا يقضي لعبده قضاء إلا كان له خير، وإن كان في بادئ الأمر قد يكون شراً، وكم صرَفَ اللطيف الخبير عن عبده الذي استخاره وتعلق به شراً لا يعلمه ولا يخطر بباله، ولكن الإنسان خُلِق ضعيفاً، عجولاً، هلوعاً.

12- ومن التنبيهات المتعلقة بفقه الاستخارة:

–  لا يصح حديث في آيات أو سور تُقرأ في صلاة الاستخارة، وما ذكره بعضُ العلماء من استحباب "الإخلاص والكافرون" أو غيرها لا دليل عليه.

–  لا بأس من تكرار الاستخارة إذا احتاج الإنسان لذلك، كأن يكون ما زال متردداً، ولكن لا ينتظر حتى يقع في قلبه ميلٌ قوي، بل يكفي ذهاب التردد.

–  نبّه العلماء على أن الاستخارة لا تشرع لمن كان عنده ميلٌ قوي، أو اختيار مسبق؛ لأن الاستخارة حينئذ لا فائدة لها.

–  أيهما نفعل: الاستخارة أم الاستشارة؟ قولان، أظهرهما أن يبدأ الإنسان بالاستخارة، لقوله في الحديث: "إذا هَمّ أحدكم فليركع" ثم يستشير، ولو قدّم الاستشارة فلا حرج…

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وبعد: ومن التنبيهات المتعلقة بهذا الباب:

1- يتردد في باب الاستخارة حديث: "ما خاب من استشار، ولا ندم من استشار" (كشف الخفاء: 2/ 185).

وهذا لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو قول لبعض الأئمة، ومعناه صحيح، وقد حسّن ابن حجر حديث: "من سعادة ابن آدم استخارته الله". (فتح الباري لابن حجر: 11/ 184).

2- صلاة الاستخارة يجوز فعلها -على الراجح- في وقت النهي إذا كان الأمر مستعجَلاً، بحيث لا يستطيع تأخير الصلاة إلى ما بعد وقت النهي، وإذا كان الإنسان مستعجِلاً، أو على غير طهارة -بحيث لا يستطيع أن يصلي- فلا بأس أن يدعو بهذا الدعاء من غير صلاة؛ لضرورة الحال.

3- ورد حديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يستخير قال: "اللهم خر لي واختر لي" (فتح الباري لابن حجر: 11/ 184)، ولكنه لا يصح كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.

هذه إشارات مختصرات في هذا الموضوع المهم، نسأل الله -تعالى- أن يفقهنا في دينه…


تم تحميل المحتوى من موقع