حقيقة الاحتفال بعيد الأم

محمّد الشاذلي شلبي
عناصر الخطبة
  1. اتباع أمة الإسلام لليهود والنصارى .
  2. هل نحتاج لعيد الأم؟! .
  3. تأسيس الأسرة المسلمة على الترابط والتلاحم .
  4. الغرب يدعي الدفاع عن المرأة وهو أول المسيئين إليها .
  5. مكانة الأم ومنزلتها في الإسلام .
  6. أمر الأبناء ببر الأمهات .

اقتباس

وقد تابع جهلة هذه الأمّة ومبتدعتها وزنادقَتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، وممّا يهمّنا الآن أن نُنَبِّهَ عليه في هذه الأيام، هو اتباعهم ومشابهتهم في ابتداع ما يسمّى بعيد الأمّ أو عيد الأسرة، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريمًا -في زعمهم- للأمّ، فصار يومًا معظّمًا تتعطّل فيه الحياة، ويصل فيه الناس أمّهاتهم، ويبعثون لهنّ الهدايا والرسائل الرقيقة، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليها من القطيعة والعقوق!!

الخطبة الأولى:

الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفُوس مُجِدَّة ومتوانية، ذمّ الدّنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّقَ لجنّةٍ قطوفها دانية، وخوَّفَ صَرْعى الهوى أن يُسْقَوا من عينٍ آنية.

أحمده على تقويم شَانِيه، وأستعينه وأستعيذه من شرّ كلّ شانٍ وشانية، وأُحصِّنُ بتحقيق التوحيد إيمانيه، وأشكره وهو العليم العالم بالسرّ والعلانية، فالسرّ عنده علانية.

وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشّافع المشفّع يوم النّشور، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب الظّلام والنّور.

أمّا بعد:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأسأل الله العظيم ربّ العرش المجيد، أن يجعل هذا الاجتماع لي ولكم ذُخْرا ليومٍ تتقلّبُ فيه القلوب والأبصار، وأن يجعله من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. اللهم اكتب لنا به أجرًا وارفع لنا به ذكرًا واجعله لنا ذخرًا. اللهم اجعل سرائرنا خيرًا من علانيتنا، وأعمالنا خيرًا من أقوالنا. اللهم أنر بصائرنا وثبّتنا على الحقّ حتّى نلقاك.

أحبّتي في الله: فقد أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن وقوع متابعة أمّته للأمم السّابقة من اليهود والنصارى والفرس، وليس هذا -بلا شكّ- من المدح لفعلهم هذا، بل هو من الذمّ والوعيد، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعنّ سُننَ من قبلكم؛ شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ، حتّى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه"، قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟! قال: "فمن؟!". أخرجه البخاري 3269، ومسلم 2663.

وقد تابع جهلة هذه الأمّة ومبتدعتها وزنادقَتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، وممّا يهمّنا الآن أن نُنَبِّهَ عليه في هذه الأيام، هو اتباعهم ومشابهتهم في ابتداع ما يسمّى بعيد الأمّ أو عيد الأسرة، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريمًا -في زعمهم- للأمّ، فصار يومًا معظّمًا تتعطّل فيه الحياة، ويصل فيه الناس أمّهاتهم، ويبعثون لهنّ الهدايا والرسائل الرقيقة، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليها من القطيعة والعقوق!!

والعجيب من المسلمين أن يحتاجوا لمثل هذه المشابهة، وقد أوجب الله تعالى عليهم برّ الأمّ وحرّم عليهم عقوقها، وجعل الجزاء على ذلك أرفع الدرجات التي لا تقلّ مكانة عن درجة من لا يشرك به شيئًا.. ولنبدأ من البداية.

قد يكون من المكرّر الحديث عن مرجعيّة الاحتفال بعيد الأمّ، وأهميّة هذا الاحتفال، وموقف ثقافتنا عامّة من مثل هذه الاحتفالات والأعياد، فالمسلم يجب أن يحتفل بالأمّ كلّ يومٍ، وكلّ ساعة، وكلّ لحظة؛ إذ هذه هي الفطرة التي زرعها الله في قلب المسلم، وفي عقلية المسلم، وفي سلوكيات المسلم، إنّها الشِّرْعة التي أمره بها.

والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان عيد الأمّ قد نبت في بلاد الغرب، فلمَ نسايرهم في أعيادهم ونترك ما بأيدينا من الهدى؟!! الغرس النبوي يؤلمهم.

منذ صدر الإسلام، أسّس النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الأسرة المسلمة على قواعد التلاحم والترابط، فتراها كيانًا واحدًا، تجمع أبناءها وترعاهم وتَكْفُلهُمْ، فها نحن نرى في مجتمعاتنا اليوم، وعلى نطاقٍ واسعٍ، الأسرة الممتدّة الكبيرة التي تحتوي أبناءها حتى وهم متزوّجون، وتفسح لكلٍّ منهم مكانًا. الكلّ يعرف قيمة وأهميّة الرباط الأسري والعائلي ويدافع عنه بكلّ ما يملك، وفي هذا قوّة للأسرة والعائلة والمجتمع. وعلماء النفس والاجتماع -ومعهم علماء الطبّ- يدركون جيِّدًا هذا الدفء الأسري وانعكاسه الإيجابي على صحّة الفرد البدنية والنفسية، فضلاً عن سعادته الاجتماعية.

فالغرب ما فتئ يزعم دفاعه عن المرأة وحقوقها، ويدعو العالم العربي والإسلامي لتمكينها من حقّها في المساواة مع الرجل، والتمتّع بالحرّية في ممارسة حياتها المدنية والسياسية، فكيف كانت النتيجة عندنا؟! وهل فعلاً مُكِّنت المرأة الغربية من حقّها الذي يدعون إليه؟!

النتيجة عندنا معروفة ومعلومة، فقد مكنت بلادنا المرأة من الفسحة المناسبة لتتطوّر وترتقي فكرًا وعملاً إلى مستوى قيمة مكانة الرجل، بل وتفوقه في بعض الحالات، حتى أصبحت تشارك مشاركة متميّزة في تنمية بلادنا ورقيّها في أكثر من مجال.

وأمّا عندهم في الغرب الواقع هو الذي يجيب، فالمرأة هناك لا تعيش في أسرة إلاّ قليلاً ونادرًا، وإنّما مهدّدة شريدة مضطربة، تبحث عن السعادة فلا تجدها، تتلمّس معناها فلا تعثر لها على أثرٍ. أمّا المال الذي يدغدغ مشاعر الكثيرين منّا تجاه هذا الغرب، لا يضمن إلاّ سعادة زائفة، زائلة، فترى الكثيرات من نساء الغرب يبعن أنفسهنّ كي يستطعن تدبير نفقات الحياة. ومن أعلى هذا المنبر أسأل هذا الغرب: ماذا تفعلون حينما تكبر الأمّ وتمرض؟! والإجابة معروفة وينتظرها كلّ واحدٍ من الحاضرين: فهم يدفعون بها إلى دور المسنّين لتموت وحيدة، متروكة، منزوية.

ثمّ أعيد لهم السؤال: من منهم يتصوّر كيف علّمنا رسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم- معاملة الكبار المسنّين منّا؟! طبعًا لا أحد يقدر على الإجابة، لأنهم يجهلون مثل هذا الغرس النبوي العظيم. وقبل أن أنقل إليهم كلام معلّم البشرية الأوّل، أنقله إليكم إعانة لعاقلكم، وتعليمًا لجاهلكم، وتنبيهًا لغافلكم، وتذكيرًا لناسيكم؛ يقول رسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرام ذي الشَّيْبَةَ المسلم". وجاء شيخٌ يريد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأَبْطَأَ القوم عنه أن يُوَسِّعوا له، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منّا من لمْ يرحم صغيرَنا ويُوَقِّرْ كبيرَنا".

ونتيجة لهذه التوصيات النبويّة، تمتّعت الأم المسلمة في شبابها وشيبها بكلّ إكرامٍ وتقدير. ليتهم يتعلّمون!!

ففي تقرير عن أخبار المجتمع الألماني، جاء فيه أنّ هناك 440 ألف مسنّ تعرّضوا للإيذاء الجسدي والمعاملة السيئة من أقاربهم وأفراد أسرهم مرّة واحدة على الأقلّ في العام.

وهذه عجوز فرنسية عاجزة عن الحركة تموت جوعًا في شقّتها، لأنّ ابنها قطع عنها الماء والكهرباء والغاز، حتى اكتشف الجيران أمرها.

وهذه عجوز ألمانية أخرى، لمنزلها حديقة شديدة الروعة، وهي تعدّها ليومٍ واحدٍ في العام، حينما يأتي أولادها إليها في هذا اليوم، ومن شدّة محبّتها لهم وهم معرضون عنها زيّنت لهم هذه الحديقة، وصنعت لهم طعامًا فاخرًا، ثمّ فوجئت أنّهم اعتذروا عن المجيء، فبكت حتّى أغمي عليها وانهارت.

ويزعمون أنّهم يدافعون عن المرأة العربية المسلمة. ليتهم يعلمون، فيتعلّمون، ويفعلون.

وكم يكون التأثّر بالغًا حينما تشاهد موظّفًا شابًّا بسيطًا يقبّل يد أمّه وهي تدعو له بأحسن ما يكون الدّعاء، دعاء ينمّ عن حبّ شديد وتعلّق أشدّ، وتعرف بعد ذلك السرّ، فهذا الابن له ثلاث شقيقات وشقيق، كلّهم ابتلاهم الله تعالى بفقد البصر، بعد أن كانوا مبصرين في مقتبل العمر، وكانت رحلة الأمّ شاقّة في المستشفيات وعيادات الأطباء بحثًا عن العلاج لفلذات أكبادها، فتكاثرت عليها الأمراض، من ارتفاع في ضغط الدمّ والسكري، وكان هذا الابن هو السّند الوحيد بعد الله لأمّه، يدعمها بكلّ ما يملك من صحّة ومال، وساعد شقيقه حتى أكرمه الله وأصبح أستاذًا في الجامعة.

نستخلص من هذا أنّ الأم المسلمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مدرسة للعطاء والتضحية، فقطاع كبير من نسائنا يستحقّ التكريم، ففي كلّ عائلة أكثر من نموذج نسائي يحتذي به، وكثيرات كنّ العمود الفقري لأسرهنّ وبيوتهنّ، أعداد كبيرة ممّن أعرف من النساء التونسيات المسلمات، وقفن إلى جوار أزواجهنّ في أقسى الظروف، وتحملن عبء تربية الأبناء، ومنهنّ من عملن أكثر من عمل ليدبرن نفقات المعيشة، وكثيرات منهنّ غاب أزواجهنّ ربع قرن في السجون، فتحمّلن ما لا يستطيع أحد أن يتحمله، حتى خرج الزوج ليجد أبناءه وبيته على أفضل ما يكون، وقد ربّاهم الله على عينه، بل منهنّ من بنَيْنَ البيوت، ليخرج الزوج ليجد بيتًا لم يبْنه هو، وإنّما بَنَتْهُ زوجته. هذا كلّه واقع معيش ومحسوس، ليس في تونس فقط، وإنّما في كل البلاد العربية الإسلامية، التي تعلّمت على يد أشرف الخلق محمّد -صلى الله عليه وسلم-.

ويبقى السؤال: هل نحن بحاجة إلى الاحتفال بما يسمّى عيد الأمّ إذا التزمنا ذلك المنهج؟!

أيها الناس: لا شكّ أنّ للأمّ مكانة كبيرة في قلوبنا جميعًا، ولها أيضًا مكانة عظيمة في الإسلام، رفيعة لا يرتقي إلى مستواها من بعدها سوى مكانة الأب، فقد حضّ القرآن الكريم وكذا السنّة الشريفة على إكرام الأمّ أضعاف إكرام الأب، كما في قوله -تبارك وتعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14]، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جوابًا عن سؤال رجلٍ: من أحقّ الناس بصحبتي يا رسول الله؟! قال: "أُمُّكَ". قال: ثمّ من؟! قال: "أُمُّكَ". قال: ثمّ من؟! قال: "أُمُّكَ". قال: ثمّ من؟! قال: "أبُوكَ".

ولأنّ الأم تعدّ نواة البيت فهي من يحمل ويربّي ويسهر الليالي، وهذا ربّما زاد من قيمتها وتمجيدها من قبل أبنائها، وإعطائها حقّها، وهذا يتمثّل في المعاملة التي أوصى بها ديننا الحنيف.

وفي وقتنا هذا أستغرب من مواقف كثيرة تحصل في البيوت التي يتعامل فيها الابن والابنة المعاملة السيّئة تجاه أمّه، وأقلّها ذلك الطفل الذي ينهر أمّه أو يعلو صوته أمامها، وهناك الكثير من القصص والمآسي التي تحمل في طيّاتها عقوق الأم ونكران جميلها، خاصة عندما يكبر الأبناء ويهتمّون بحياتهم الجديدة، وبتأسيس أسرة، يبتعد عن أمّه ويهملها متعذّرًا بظروف الحياة والعمل وتربية الأبناء، فينسى الحضن الذي ضمّه وسهر على راحته ورعاه حتى بلغ أشدّه وأصبح ذا شأن في المجتمع.

فلا ضير إن قلنا: إنّ للأم عيدًا ليس ليومٍ واحدٍ، وإنّما طول أيام السنة، فالآن مهما قدّم لها أبناؤها من معروفٍ فلا يضاهي معاناتها وتعبها منذ حملها وسهرها الليالي في راحتهم وفي مرضهم ورعايتهم والاهتمام بتربيتهم منذ الطفولة، حتى صاروا شبابًا قادرين على تحمّل المسؤولية.

فلكلّ أمّ كلمة حقّ وتقدير وبطاقة دعوة للاحتفال بها كلّ يوم، وكلّ ليلة طوال السنّة كلّها، ولن نتمكن من إيفائها حقّها ولو بصيحة من صيحات الوضع.

أقول ما تسمعون فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن الشيطان ومن نفسي وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله المُبدِئُ المعيد، الغنيُّ الحميد، ذي العفو الواسع والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضلّه فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفّقه فهو الرشيد، يعلم ما ظهر وما بطن وما خفِي وما علن، وهو أقرب إلى الكلّ من حبل الوريد.. قسّم الخلقَ قسمين وجعل لهما منزلتين، فريق في الجنّة وفريقٌ في السّعير، إنّ ربك فعّال لما يريد.. (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ).

أحمده وهو أهل للحمد والتحميد، وأشكره والشكر لديه من أسباب المزيد.

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد والبطش الشديد، شهادة تكفل لي ولكم أعلى درجات أهل التوحيد عنده، في دار القرار والتأييد.

وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله البشير النذير، أشرف من أظلّ في السماء وأقلَّ في البيدِ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي العون على الطّاعة والتّأييد، صلاة دائمة في كلّ حين تنمو وتزيد ولا تنفد ما دامت الدنيا والآخرة ولا تبيد.

أمّا بعد:

أيّها الأبناء، أيّتها البنات: سأقف وإيّاكم الآن مع القلب الرحيم، والصدر الحنون، مع القلب المجبول على الشفقة، مع القلب الذي خُلِقَ يوم خُلِقَ فرُكبتْ فيه الرّحمة، مع القلب الذي يَحِبّ وإن لمْ يُحَبّ، ويحنو وإن أُغْلِظَ عليه، هل عرفتموه؟! نعم، إنّه قلب الأمّ، أكبر قلب في أضعف جسم.

سنتكلّم عن الأمّ يوم جعل أعداء الله لها يومًا واحدًا في العام، وسمّوه عيد الأمّ، وهذا ليس في الإسلام من شيء، لماذا؟! لأنّ الإسلام أمر ببرّها والإحسان إليها في كلّ العام، إنّها الأمّ -عباد الله-، المخلوق الذي قدّم وضحّى ولم يزل من غير حساب، أو انتظار ثواب، ولا ترقّب شكران.

إنّها الأم التي أرضعتنا في حليبها المعنى الصحيح للانتماء، إنّها الأمّ التي أدّبتنا صغارًا، وعلّمتنا كبارًا. إنّها الأم التي قدّمت بذلك أعمق صورة لأصدق حبّ نبضت به قلوب البشريّة.

أُمُّكَ -يا عبدَ الله-، كم حزنت لتفرح أنت!! وجاعت لتشبع!! وبكت لتضحك!! وسهرت لتنام!! وتحمَّلَتْ الصّعاب في سبيل راحتك!! إذا فرحتَ -يا عبد الله- فرِحت، وإن حزنْتَ حزِنَتْ من غير أن تسأل، إذا داهمك الهمّ فحياتها في غمّ، أملها أن تحيا سعيدًا رضيًّا راضياً مرضيًّا، هل سمعت عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله؟! لا، بل أكثر من دنياه؟! لا، بل أكثر من نفسه التي بين جنبيه!! نعم يحبّك أكثر من نفسه، إنّها الأمّ، الأمّ وكفى، رمز الحنان، إنّها الأم -يا من تريد النجاة-: الزم رجليها، فثمّ الجنّة؛ روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السلمي -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدّار الآخرة، قال: "ويحك، أحيّة أمّك؟!"، قلت: نعم، قال: "ارجع فبرّها"، ثمّ أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله: إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك، أحيّة أمّك؟!"، قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فارجع إليها فبرّها"، ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله: إنّي كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدّار الآخرة، قال: "ويحك، أحيّة أُمُّك؟!"، قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ويحك، الزم رجلها فثمّ الجنّة".

إنّها الجنّة وربّ الكعبة، "الزم رجلها فثمّ الجنّة". عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنّي جئت أريد الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدّار الآخرة، ولقد أتيت وإنّ والديّ ليبكيان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما".

إنّها الأمّ -يا من تريد النجاة-، الزم رجليها، فثمّ الجنّة.

إنّ البرّ دأب الصّالحين وسيرة العارفين؛ قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "ما من مسلم له والدان مسلمان يُصبِح إليهما محتسبًا إلاّ فتح الله بابين -يعني من الجنّة- وإن كان واحدًا فواحدًا، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتّى يرضى عنه"، قيل: وإن ظلماه؟! قال: "وإن ظلماه".

أيها المؤمنون: الناس متّفقون على وجوب البرّ بالأم ووجوب تكريمها في كلّ يوم ورعاية حقوقها في كل ساعة، لأنّه أمرٌ فطريٌّ وإن قصّر فيه بعضهم، وهذا هو المعنى الجميل الذي من أجله يتبع كثير من الناس الغرب في الاحتفال بما يسمّى عيد الأمّ، لكن تخصيص يوم محدّد في العام للاحتفال بالأمّ يتعارض مع تحديد الشرع لأعياد المسلمين بعيدين لا ثالث لهما، فعن أنس قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما، فقال: "قَدْمْتُ عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما، فإنّ الله قد أَبْدَلَكُمْ يومين خيرًا منهما: يومَ الفِطْرِ ويومَ النّحْر". أخرجه أحمد في المسند 13164، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع 4381.

فاتّقوا الله -عباد الله- واحذروا هذه البدعة التي أحدثها أعداء الإسلام ليشوّهوا سمعته وينفّروا الناس منه، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التحذير من المحدثات في الدّين، وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ". متفق عليه.

نسأل الله تعالى العافية والسلامة، وأن يجنّبنا محدثات الأمور في ديننا ودنيانا، وأن يثبّتنا على سنّة عبده وخير خلقه محمّد -صلى الله عليه وسلم-، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد.

اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهمّ يا ذا الجلال والإكرام، يا حيّ يا قيّوم، ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، أن تبسط على أمّي من بركاتك، ورحمتك، ورزقك، وعفوك ومغفرتك.

اللهمّ ألبسها العافية حتّى تهنأ بالمعيشة، واختم لها بالمغفرة حتّى لا تضرّها الذنوب، اللهمّ اكفها كلّ هول دون الجنّة حتّى تبلّغها إياها، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهمّ لا تجعل لها ذنبًا إلاّ غفرته، ولا همًّا إلاّ فرّجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولها فيها صلاح إلاّ قضيتها، اللهمّ ولا تجعل لها حاجة عند أحد غيرك. اللهمّ وأقرّ عينها بما تتمنّاه لنا في الدّنيا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي