فلنحذر من هؤلاء الأصناف المذكورين فإن جرمهم كبير، وعاقبتهم خطيرة، فلا نكون من الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا، ولا ممن يأخذ ما لا حق له فيه، وكذلك ممن يكتمون العلم، ويخفون ما أنزل الله، ولا ممن يأخذون الرشوة على ذلك، وكذلك الشَيْخٌ الزَاني، وَالمَلِكٌ الكَذَّابٌ، وَالفقير المُسْتَكْبِرٌ، والْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ...
الحمد لله الذي منَّ على أهل الإيمان بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وزادهم على ذلك النظر إلى وجهه الكريم، فنعمه على عباده لا تحصى، وفضله عليهم لا يستقصى، أحمده حمد المعترف بآلائه، وأشكره شكراً يوصل إلى المزيد من نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز في يوم القيام، وأدخرها سلم نجاة في يوم الزحام.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله ربه إلى العالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه الأتقياء الأمجاد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق لعبادته، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئا خيراً لهم، ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم، من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.
إن أقسى الحرمان وأشد العذاب يوم القيامة أن يحجب العبد عن رؤية ربه، والنظر إليه، فهذا هو الشقاء المقيم، والحرمان الكبير، لأن المحرومين من النظر إلى ربهم ورؤية وجهه وسماع كلامه هم المطرودون المبعدون من رحمة الله، وجنته وفضله، فيالخسارتهم وذلهم وخزيهم ونكالهم، فهل تعلمون من هم هؤلاء الذين سبق عليهم القول من ربهم بهذا الحرمان الأليم، وحُق عليهم هذا العذاب الشديد؟.
لقد ذكر الله في كتابه العظيم عدداً من هؤلاء الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فقال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : 77]، ففي هذه الآية يتوعد الله الذين يعتاضون عما عاهدوا اللَّهُ عَلَيْهِ بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ويستبدلون أَيْمَانَهِمُ الْكَاذِبَةِ الْفَاجِرَةِ الْآثِمَةِ بعروض الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ, أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهَا, وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ, أَيْ لا ينظر إليهم نظر رَحْمَةٍ منه لهم، ولا يكلمهم كَلَامَ لُطْفٍ بِهِمْ, وَلا يُزَكِّيهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، بَلْ يَأْمُرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ موجع للقلوب والأبدان، وهو عذاب السخط والحجب، وعذاب النار، نسأل الله السلامة والعافية.
ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئاً من الدنيا في مقابل ما تركه من حق لله أو حق لعباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الآية، يقول النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ" ، قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: "احْلِفْ" ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) [ آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ [ البخاري ومسلم ]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ" فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) [ آل عمران: 77] الآيَةَ [ البخاري].
وممن توعدهم الله بهذا الوعيد في القرآن: الذين يكتمون شرع الله، ويخفون ما أنزله، ويأخذون على ذلك الرشا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : 174].
وهذه الآية نزلت في "الْيَهُودَ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النبي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كُتُبِهِمُ التِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا تَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَتَمُوا ذلك لئلا تذهب رئاستهم وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ عَلَى تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَخَشُوا- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- إِنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَهُ النَّاسُ وَيَتْرُكُوهُمْ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ، فَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ، بِذَلِكَ النَّزْرِ الْيَسِيرِ، فَخَابُوا وَخَسِرُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" [ابن كثير 1/353]. فلنحذر من كتم العلم بخلاً به، أو منعاً للناس من الانتفاع به، أولا نبينه إلا لغرض دنيوي، بل الواجب علينا أن ننشر العلم خاصة إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه، إما بلسان الحال، أو بلسان المقال.
وممن لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ووعدهم بالعذاب الأليم، ثلاثة: ذكرهم النبي –عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث، فاسمعوا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ - وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ - وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ".
فالزنا ذنب كبير، ومعصية عظيمة، فكان جرمه أشد، وعذابه أكبر، عندما يقع فيه الرجل الكبير في السن الذي كمل عقله، وضعفت شهوته، وخارت قواه، وتلاشت لديه دواعي الشهوة ومثيراتها، فوقوعه في شؤم هذه المعصية أغلظ وأفظع، فكان جزاؤه هذا العذاب الشديد.
"وَمَلِكٌ كَذَّابٌ" أي حاكم كذاب، إذ كيف يكذب وهو ملك على رعيته فلا يخشى منهم أحداً، ولا يحتاج إلى مصانعة أو مداهنة أحد، ولا يخاف أذى من أحد حتى يكذب، فهو بملكه وسلطانه في غنى مطلق عن الكذب، فمن كذب من الحكام فهو متوعد بهذا الوعيد الأليم، وما أكثر الحكام والملوك الكذابين في زماننا هذا، بل لا تجد سلطانهم قائماً إلا على الكذب، فيكذب على حاشيته، ويكذب على شعبه، ويكذب والعياذ بالله على ربه، ويكذب على مؤيديه ومعارضيه، ويكذب على وطنه، ويخون بلده وحرماته، ويفرط في كل شيء، وفوق هذا يتخذ له مستشارين كذابين يقلبون له الحقائق، ويصورون له الأمور على غير حقيقتها، وهذا هو الكذب، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : 144]، ويقول -سبحانه وتعالى- (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : 60].
أما الثالث: فهو"عائل مستكبر" أي فقير مستكبر، كيف يتكبر؟ وبماذا يتكبر وقد هده الجوع والفقر؟ فالكبر لا يقع منه في الأصل، فمن تكبر وهو على هذه الحالة فقد شذ وخالف القاعدة المتعارف عليها، وليس معنى هذا أن نتساهل مع الشاب الزاني، أو الغني المتكبر، أو الرجل العادي الذي يكذب، فهذه كلها كبائر كبيرة، ولكن العذاب يُغلظ على من فعلها وهو لا يتوقع منه في الغالب فعلها، فلا يكلمه الله، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
ومن الموعودين بهذه الوعود الشديدة رجلان: رجل عنده ماء زائداً عن حاجته فيمنعه من هو في أمس الحاجة إليه، ورجل بايع الخليفة من أجل الدنيا فإن أعطي منها رضي وإن لم يعط سخط، فعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ -أي المسافر في الطريق-، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ العَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) [آل عمران: 77]. [ البخاري مسلم ]. وفي رواية: "وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ" [ البخاري].
فلا يمنع فضل الماء إلا قاسي القلب، منزوع الرحمة، إذ كيف يمنع الناس شيئاً لا كسب له فيه، وإنما هو ماء أنزله الله من السماء، ثم هو يمنعه وهو لا يحتاج إليه، وإنما هو قدر زائد عن حاجته، فيمتنع عن إعطائه من هو في حاجة ماسة لهذا الماء، فيكون جزاؤه من جنس عمله، فيمنعه الله من فضله، ولا يكلمه، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه. يقول -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ، أَوْ فَضْلَ كَلَئِهِ، مَنْعَهُ اللهُ فَضْلَهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [ أحمد (6673) ] وهذا نهي عن منع الماء عن البهيمة فكيف ببني آدم؟، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصدقة سقي الماء" [صحيح الجامع (1113)]، وأخبر -عليه الصلاة والسلام-: أنه "غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ" [ البخاري (3321) ].
أما الرجل الآخر، فهو الذي بايع الإمام أو الخليفة لا من أجل نصرة دين الله، والدفاع عن عباد الله المسلمين، وإنما بايع من أجل عرض زائل، أو متاع حقير من أمتعة هذه الدنيا الفانية، فاستحق هذا الوعيد الشديد.
فلنحذر من هؤلاء الأصناف المذكورين فإن جرمهم كبير، وعاقبتهم خطيرة، فلا نكون من الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا، ولا ممن يأخذ ما لا حق له فيه، وكذلك ممن يكتمون العلم، ويخفون ما أنزل الله، ولا ممن يأخذون الرشوة على ذلك، وكذلك الشَيْخٌ الزَاني، وَالمَلِكٌ الكَذَّابٌ، وَالفقير المُسْتَكْبِرٌ، والْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِب، والمانع فضل الماء والمبايع من أجل الدنيا.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله...
الحمد لله رب العالمين الذي خلق الجنة وأعدها لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار وأعدها لمن عصى وتكبر وابتعد عن طاعة الله، أحمده سبحانه أوضح لنا طريق الحق، وأمرنا باتباعه، ونهانا أن نسلك سبل الغواية والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر ثلاثة أخرين لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، أتدرون من هم؟ جاء من حديث عَنْ أَبِي -ذَرٍّ رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" [ مسلم (171) ].
والمسبل هو من يجر ثوبه كبراً، وبطراً، وخيلاء، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ، وَالْقَمِيصِ، وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [صحيح الجامع] فإياك إياك والإسبال فـ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان : 18]، والمختال هو المعجب بنفسه، والفخور هو المترفع على غيره.
والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة، وقد نهى الله عن هذا فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة : 264]. يقول بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: "مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ سَقَطَ شُكْرُهُ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ حَبِطَ أَجْرُه".
والمنفق سلعته بالحلف الكاذب هو الذي يروج لبضاعته بالكذب، ليكثّر المشترين لها بالأيمان الكاذبة، وقدر حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا تحذيراً شديداً، فقال: "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ" [ مسلم].
عباد الله: هناك أحاديث وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ لا ينظر الله إلى من فعل كذا وكذا, ولم يذكر فيها ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم نذكر ما صح منها: فعَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ" [ الترمذي].
إن الشذوذ والانحلال والانحراف الخلقي هو أشنع الجرائم، وأكبر الفواحش، فالأصل أن يأتي الرجل زوجته في قبلها، فمن أتاها في دبرها فهو شاذ ملعون، وأخطر من هذا وأعظم أن يأتي الرجلُ الرجلَ وهذا قمة الانحراف والفساد، فالرجال مجبولون على حب النساء والنساء على الرجال، فإذا أتى الرجلُ الرجل، أو أتت المرأة المرأة، فهذا هو اللواط والسحاق الذي من فعله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فيا لخسارة فاعله، ويالفداحة ما فعله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ملعون من أتى امرأة في دبرها " [ ابن ماجة].
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ ..." [ النسائي (2562) ]. فبدأ النبي -عليه الصلاة والسلام- بالعاق بوالديه، لأن العقوق من أكبر الكبائر، وأخطر الجرائر، يقول الله -عز وجل-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء : 23]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "رضا الرب في رضا الوالدين وسُخطه في سُخطهما" [ صحيح الجامع].
ثم ثنى بالمرأة المترجلة وهي المرأة المتشبهة بالرجال في لباسها أو في مشيتها أو في هيئتها أو غير ذلك وهذه المرأة ملعونة في شرع الله مطرودة من رحمة الله كما في الحديث المشهور: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ, وَالمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ" [ الترمذي]، وعن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا: الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ؟، قَالَ: "الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ". قُلْنَا: فَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ؟، قَالَ: "الَّتِي تَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ" [صحيح الجامع ( 3062) ].
وأما الثالث: فهو الديوث، وهو الذي يقر الخبث في أهله، ولا يبالي بمن دخل على زوجته من غير محارمها، فلا غيرة عنده على أهله، ولا حرص فيه على صون أعراضهم، ولا يغار على حرماتهم من الانتهاك، فهذا ميت في صورة حي، وحرام عليه الجنة بنص حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى امْرَأَةٍ لَا تَشْكَرُ لِزَوْجِهَا" [النسائي (9087)]. وهذا في المرأة الجاحدة لفضل زوجها، المنكرة لمعروفه، التي لا تقدّر صنيعه، ولا تعترف بفضله وإحسانه، ولا تقف معه عند الشدة، فهذه لا ينظر الله إليها يوم القيامة نظر عطف وحنان، لأنها لم تفعل هذا مع زوجها في الدنيا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي رَأَيْتُ الجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَاليَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ" قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: "يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" [ البخاري].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" [صحيح الترغيب والترهيب]. وفي هذا يقول الإمام الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: "مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ" لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ" [ الترمذي (265) ].
عباد الله: سمعنا هذه الأحاديث الشريفة، التي ذكرت عدداً من الصفات الذميمة التي يترتب على من فعلها أن لا يكلمه الله، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، فما بقي علينا إلا أن نجتنب هذه الصفات، وننخلع عنها، ونوجه من لنا ولاية عليه باجتنابها، فنحذرهم من الاسبال، والمن، وعقوق الوالدين، وتنفيق السلع بالأيمان الكاذبة، والدياثة، واللواط، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، وإتيان الزوجات في أدبارهن، أعاذنا الله وإياكم من تلك الرذائل الذميمة، والصفات الخسيسة.
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكون ممن لا تكلمهم يوم القيامة، ولا تنظر إليهم، ولا تزكيهم ونعوذ بك من عذابك.
اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي