إن أهل الإيمان هم أصحاب الفلاح في الدنيا والآخرة، ولهم من المحاسن ما لا يكون لغيرهم. لقد امتن الله عليهم بمنن كثيرة، وآلاء عظيمة، ومن ذلك: ما جاء في هذه الآيات من استغفار أولئك الملائكة المقربين لهم؛ فمن فوائد الإيمان: استغفار الملائكة الذين لا ذنوب عليهم...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
معاشر المصلين: عنوان خطبتنا هذا اليوم: "دعاء حملة العرش".
أما العرش، فهو عرش الرحمن -جل جلاله- الذي هو سقف المخلوقات، وأعظمها وأوسعها وأحسنها وأقربها إلى الله -تعالى-، وهو سبحانه وتعالى مستو على عرشه سبحانه وتعالى، استواءً يليق بجلاله -عز وجل-.
وأما حملة العرش، فهم صنف من الملائكة شرفهم الله بهذا الشرف العظيم، ويتمثل هذا الشرف في أمور؛ منها: حمل عرش الرحمن.
ومنها: قربهم من الله -سبحانه وتعالى-.
وعدد الملائكة حملة العرش ثمانية، مصداق ذلك في كتاب الله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)[الحاقة: 17].
أما دعاء حملة العرش ومن حوله، فهو ما جاء في كتاب الله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر: 7-9].
يخبر الله -سبحانه وتعالى- عن كمال لطفه بعباده المؤمنين، وما قيض لأسباب سعادتهم من استغفار الملائكة المقربين لهم، ودعائهم لهم، بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم.
لقد جاء أولئك الملائكة بأنواع من العبادات التي يحبها الله، تمثلت في تعظيم الله، وتنزيهه بتسبيحه وتحميده، ومن ثم دعائه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى.
وفي الآيات: كمال أدب الملائكة مع ربهم -سبحانه وتعالى- بإقرارهم بربوبيته، وبيان حاجتهم، وفقرهم إليه جل جلاله.
لقد تضمنت الآيات وتلك الدعوات: موافقة الملائكة لربهم -سبحانه- في حبه جل جلاله للإيمان وأهله.
إن أهل الإيمان هم أصحاب الفلاح في الدنيا والآخرة، ولهم من المحاسن ما لا يكون لغيرهم.
لقد امتن الله عليهم بمنن كثيرة، وآلاء عظيمة، ومن ذلك: ما جاء في هذه الآيات من استغفار أولئك الملائكة المقربين لهم؛ فمن فوائد الإيمان: استغفار الملائكة الذين لا ذنوب عليهم لأهل الإيمان.
أيها المسلمون: رحمة الله واسعة، لا يحدّها حد: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً) [غافر: 7].
من أسمائه جل جلاله: الرحمن والرحيم؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة" الحديث.
وهو سبحانه وتعالى يحب من عباده الرحماء.
الرحمة -أيها المسلمون - إذا كانت من الله ابتداءً وتفضلاً، فينبغي أن تكون بين عباده المؤمنين صفة ملازمة لأخلاقهم ومعاملاتهم.
ما أجمل أن تكون الرحمة متمثلة في سلوكنا وتعاملاتنا، إنها الرحمة المنشودة بين الأب وأبنائه، والزوج وزوجته.
إنها الرحمة بين الرئيس ومرؤوسيه.
إنها الرحمة بين المعلم وتلاميذه.
إنها الرحمة بين رب الأسرة وخدمه.
إنها الرحمة التي ينبغي أن تكون بين أفراد المجتمع، الرحمة بالأرامل واليتامى والفقراء والمساكين، قال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"[رواه البخاري].
إن الله -جل جلاله- كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا كانت رحمته وسعت كل شيء فكذلك علمه لا يخلو منه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، بخلاف المخلوق الضعيف الناقص، فعلمه ناقص مسبوق بالجهل، وينتهي أيضا بالموت، فلا يعلم إذا مات، وكذلك المخلوق ضعيف يلهيه شأن عن شأن.
أما الرب -سبحانه وتعالى- فلا يلهيه شأن عن شأن، ولا يتضرر بسؤال السائلين، ولا بإلحاح الملحين، من يحصي الخلائق؟! لا يحصيهم إلا الله في البراري والبحار، وفي الجو والسماوات والأرضين، كلهم يسألون الله في وقت واحد، يلهجون بذكره وثنائه، فيثيبهم ويجيب سؤالهم، ويرزقهم ويعافيهم، في وقت واحد.
لا يلهيه شأن عن شأن، سرهم كجهرهم، خَلَقهم وأوجدهم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14]
وبعد أن قدم حملة العرش ومن حوله في دعائهم لله تحميده وتسبيحه، والثناء عليه بما هو أهله جل جلاله.
وهذا كله من آداب الدعاء ومظنة لإجابته؛ شرعوا بالدعاء بالمغفرة، لمن يا ترى؟
قال الله عنهم: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)[غافر: 7].
وهذان الوصفان العظيمان، وصف الإيمان بالله، واتباع السبيل القويم؛ من أعظم الأوصاف التي حري بكل إنسان في هذه الحياة الدنيا أن يتصف بهما؛ لأنهما طريق الرشاد والفلاح والمغفرة.
ومن دعائنا في كل صلاة بل في كل ركعة: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6-7].
ثم تابع أولئك الملائكة الأبرار دعاءهم لأهل الإيمان: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر: 7].
قال أهل العلم: ويتضمن الوقاية من عذاب الجحيم أمرين:
الأول: الوقاية من العذاب.
والثاني: الوقاية من أسباب العذاب التي في مقدمتها الذنوب والمعاصي.
وفي وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65- 66].
وإن كان الوقاية من العذاب هدفا لأهل الإيمان، فإن دخول الجنة غاية من أعظم الغايات، ولذا كان من دعاء الملائكة حملة العرش ومن حوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [غافر: 8].
وفي هذه الصيغة من الدعاء جملة من الفوائد من أبرزها:
أولاً: أن وعد الله أعظم الوعود، وهو سبحانه وعد عباده المؤمنين بالجنة وسيكون.
وإني أذكركم -يا رعاكم الله-: بأمر أشرت إليه في هذه الخطبة عدة مرات، وها أنا أؤكد عليه، وهو: أن موافقة الله جل شأنه في الصفات التي يحبها ويتصف بها مما يستطيعه الخلق من أعظم العبادات، كما قررنا ذلك في موافقة الملائكة لربهم في حبه للإيمان وأهله.
وكما ذكرنا في بيان أن الرحماء من الخلق يرحمهم الرحمن -جل جلاله-، فإذا كان ذلك كذلك فإن من أعظم العبادات الوفاء بالوعد والعهد، وقد وصف الله أهل الصدق والتقوى بقوله: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)[البقرة: 177].
وثاني تلك الفوائد يستفاد من قول الله -تعالى-: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
قال أهل التفسير: "إن المقارن من زوج وولد وصاحب يسعَد بقرينه، ويكون اتصاله به سببا لخير يحصل له".
وهذه الخيرية وتلك السعادة تتحقق لأصحاب الصلاح: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
وفي هذا إشارة بليغة بأن صلاح العمل من أهم الغايات، ومن أفضل ما تصرف فيه الأوقات، كما أن صلاح الآباء والأبناء والأزواج مطلب مهم.
فلنحرص -وفقني الله وإياكم- على أن نرشد أزواجنا وذرياتنا إلى طريق الصلاح والفلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
ثم أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- إخوة الاسلام: تحدثنا في الخطبة الأولى عن دعاء حملة العرش الذي ذكره الله في كتابه في سورة غافر، وختم هذا الدعاء العظيم بدعاء الملائكة حملة العرش يدعون لأهل الإيمان: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر: 9].
إن من رحمة الله بعبده: أن يجعله بعيدا عن الذنوب والمعاصي، مقبلاً على الله -سبحانه-، إن أذنب استغفر، وإن أساء آب وتاب، وهناك يتقلب في رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة.
معاشر المسلمين: الفوز كل الفوز لا يكون إلا بسلوك طريق أهل الإيمان، صراط الله المستقيم الذي هو درب النجاح والفلاح، ففيه النجاة من النيران والفوز بالجنان، ورحمة الكريم المنان: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آل عمران:185].
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي