إن المسلم حين يكون عبداً لله يحبه ويتذلل له، فإنه سيكون مبغضاً للشرك وأهله، كارهاً ما يكرهه الله، ومحباً ما يحبه الله، يوالي أولياء الله وينصرهم، وبعادي أعداءه، ويكون محارباً للشر والفساد في الأرض ناشراً للعدل والخير. وبذلك تتكامل شخصيته وتتوحد؛ لأنه يسير على صراط مستقيم، فلا يكون قلبه مشتتاً، ويسلم من كثير من الهموم التي تقع لغيره، ويقبل على التضحيات في سبيل الله وهو مطمئن راضٍ، يبذل أمواله ونفسه في سبيل إرضاء الله، فيزدادس...
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: يفكر المسلم في أمور كثيرة، صغيرة وكبيرة، يفكر في طعامه وشرابه، في كسبه وعمله، في صداقاته وعلاقاته مع الآخرين، يفكر في حاضره ومستقبله، وفي أهله وأمته، ولكن هل خطر في باله أن يفكر في خالقه الذي أوجده ورزقه وسخر له ما في السموات والأرض؟ هل فكر في حق الله عليه وحقه إذا هو أخلص العبادة لله؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟" قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟" قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ"[رواه البخاري(7373)].
يحب الإنسان نفسه فيعمل لإحيائها وإنعاشها وإسعادها؛ ويحب زوجه وأولاده وأسرته، وهذا شيء طبعي؛ ويحب الإنسان بلده ووطنه الذي نشأ فيه، وهو شيء فطري ما لم يتحول إلى عصبية بغيضة؛ ويحب الإنسان أبطال أمته الذين لهم الفضل بعد الله في تحريرها من الجهل أو الظلم؛ ويحب النفع لبني قومه، ويحرص على هدايتهم وترقيتهم.
ولكن هل تصلح كل هذه الأنواع لأن تكون هي الهدف الأسمى والغاية القصوى؟!
إنه حب ناقص يحتاج إلى مصدر يستقي منه، وكمال يستمد منه، وغاية يسير نحوها؛ فالله وحده هو الغاية المثلى التي ليس بعدها غاية.
إن كل ما يظفر به الإنسان من أشياء في هذه الحياة قد يذهب، أو يذهب الإنسان قبل أن يظفر بها ويعقب ذلك الحسرات.
أما العمل لله؛ فعاقبته في كل الأحوال السعادة في الدنيا والآخرة.
وإذا عرف الإنسان أن أمور الدنيا زائلة أحب الانتقال إلى ما هو خير منها؛ كما قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز: "كانت لي نفس تواقة فلما وصلت إلى الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة".
فحب الله، هو الذي يقتضي: أن يحمل الإنسان نفسه على الخير وأن يحمل قومه على الحق؛ لأن تمحور الإنسان على نفسه غرور، وخضوعه لغيره مذلة، ولكن الذي يستحق الخضوع هو خالق الكون سبحانه وتعالى.
لقد جمع القرآن القيم التي يحبها الإنسان بطبعه في آية واحدة، ولم ينكر حبها ولكنه أنكر أن يفضلها الإنسان على محبة الله ومحبته لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24].
يشعر الإنسان بضعفه وعجزه؛ فهو طوال حياته معرض لأعداء مسلطين عليه من شياطين الإنس والجن.
وكذلك نفسه الأمارة بالسوء، فكيف ينجو من هؤلاء الأعداء؟ وكيف يبعد الهموم التي يسعى دائماً لإبعادها؟
لا طريق له إلا باللجوء إلى الله، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
فالإنسان بفطرته يلجأ إلى الله في وقت الشدائد، كما قال الله -تعالى- في وصف المشركين: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[العنكبوت: 65].
فإذا كان هذا حال المشرك وقت الشدة، فالذي ينبغي للمؤمن أن يلجأ إلى الله دائماً في أوقات الرخاء والشدة.
ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
فإذا كان الإنسان لا يملك أموراً فوق طاقته مثل الحياة والموت والغنى والفقر، والصحة والمرض، فلماذا لا يطيع الله اختياراً فيتذلل لربه ويدعوه وحده؟ وهذا شرف للإنسان بدل أن يتذلل لمخلوق مثله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[مريم: 93].
فعلاقة الإنسان بربه -سبحانه وتعالى-، هي: تحقيق العبودية لله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
وكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة يجب أن يكون مسخراً وتابعاً لهذه العبودية.
فالعبودية، تعني الخضوع والمحبة؛ فهي تجمع بين كمال الحب وكمال الذل لله، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال فهو داخل في العبودية.
ومن نتائج هذا الحب: الخضوع لله فيما أمر، أو فيما نهى، ففي ذلك مصلحة للإنسان، والله غني عن العالمين، وإن خضوعاً دون محبة لا ينتج العبودية الخالصة، وكذلك محبة دون خضوع، فهي أقرب أن تكون دعوى باطلة.
وقد سخر الله للإنسان ما في الأرض وما في السماء لنفعه وخيره، وحتى يقوم بالعبودية على أكمل وجهها: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)[لقمان: 20].
ومن رحمته سبحانه وتعالى: أن دل الخلق على طريق السعادة، ولكن الإنسان قد يضل ويشقى، أما إذا ارتقى واتبع هدى الله فإنه لا يخاف ولا يحزن: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 38].
إن من الفخر أن يكون الإنسان عبداً لله، حتى لا يكون عبداً لآلهة أخرى، فلا يكون عبداً للمال، أو عبداً للمناصب والجاه، وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ، لَمْ يَرْضَ"[رواه البخاري(2886)].
وإنما وظيفة العبد أن يقوم بالعبادة، والذي لا يؤدي وظيفته فقد تنكر لفطرته وانقلب على رأسه.
إن العبودية لله لا تعني إلغاء شخصية الإنسان، وإلغاء القدرة على الاختيار التي وهبها الله له.
بل تعني تكريم الإنسان حين يرتبط بالله وحده، وقد وصف بالعبودية أكرم الخلق على الله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان: 1].
فالإنسان طراز خاص من المخلوقات ذو قدرات عالية جداً، وقد استخلفه الله في الأرض، وأسجد له ملائكته؛ فكان من حق الله عليه أن يخلص العبودية له.
والأصل في العبودية عبودية القلب؛ كما جاء في الحديث: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"[رواه البخاري(52)- ومسلم(1599)].
إن الله -سبحانه- لا ينظر إلى صورة الإنسان، ولكنه ينظر إلى القلوب وما فيها من نوايا طيبة وحب وخضوع لله، أو ما فيها من كِبْرٍ وتمرد على الله.
ينظر إلى ما فيها من خير ومنفعة للناس أو ما فيها من أنانية وحسد؛ ينظر إلى ما فيها من حب لله وخشية لله وتذلل له، أو ما فيها من كره لشريعته وتكبر على دينه؛ وإذا كان القلب مأسوراً مستعبداً لغير الله فحينئذٍ لا تنفع التدابير ولا ينفع العلاج؛ فالحرية هي حرية القلب.
اللهم وفقنا لطاعتك وجنبنا معصيتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل قلوبنا متعلقة بك فإنه لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحديد: 28].
عباد الله: العبودية الخالصة لله -تعالى-: تحرر الإنسان من عبادة الطبيعة؛ وتحرر الإنسان من عبادة البشر.
فعندما يسجد المسلم لله، ويمارس شعيرة الصلاة، فإنها تطهره من عبودية الشهوات، وتغلق منافذ الشيطان، وتعطيه قوة حين يتصل بخالق الكون، ويحظى بمناجاته يستمد منه العون والعزة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج: 19-22].
والعبودية الخالصة لله: تعطي الإنسان شجاعة وإقداماً وثباتاً على الحق، قال الله -تعالى- في وصف أصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173].
وهذه الشجاعة اتصف بها الأنبياء في مواجهة أقوامهم الذين استكبروا وعاندوا الحق.
ومن ثمرات العبودية لله: أن الله يفرج عن المسلم الكربات، ويحميه من الفتن: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2-3].
إن المسلم حين يكون عبداً لله يحبه ويتذلل له، فإنه سيكون مبغضاً للشرك وأهله، كارهاً ما يكرهه الله، ومحباً ما يحبه الله، يوالي أولياء الله وينصرهم، وبعادي أعداءه، ويكون محارباً للشر والفساد في الأرض ناشراً للعدل والخير.
وبذلك تتكامل شخصيته وتتوحد؛ لأنه يسير على صراط مستقيم، فلا يكون قلبه مشتتاً، ويسلم من كثير من الهموم التي تقع لغيره، ويقبل على التضحيات في سبيل الله وهو مطمئن راضٍ، يبذل أمواله ونفسه في سبيل إرضاء الله، فيزداد إيماناً وثقة وارتياحاً في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق".
وبالعبودية الخالصة لله: تحصل نعمة الأمن التي هي من أجلِّ النعم، والتي يسعى لها الإنسان ويتمناها، وهذه لا تكون إلا للمؤمن: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
ومن ثمرات العبودية لله: الفوز برضا الله وجنته؛ وهذه هي الثمرة الكبرى والغاية القصوى حيث النعيم الذي لا يزول وقرة العين التي لا تنقطع.
فاتقوا الله -عباد الله-: وأصلحوا قلوبكم يصلح لكم أعمالكم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وهدانا صراطه المستقيم، ورزقنا الاستقامة على الحق إنه جواد كريم.
وصلوا وسلموا على...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي