عباد الله: لقد كانت حياة نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحياة أصحابه -رضي الله عنهم- كلها دعوة إلى توحيد الله، وجهاد في سبيل الله، ونصرة لدين الله؛ صبروا في الضراء، وشكروا في السراء، ونصروا المظلوم، وجادوا بأنفسهم رخيصة في سبيل الله، ورحموا الضعيف من عباد الله. وأمة الإسلام اليوم، وهي تعاني من الجراحات والأزمات، والنوازل والفتن المدلهمات؛ بأمس الحاجة إلى إيقاظها، وتذكيرها بأيام مباركة من السيرة النبوية العطرة، لا...
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله وكفى بالله شهيدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا.
وأشهد أن نبينا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وخلفائه الراشدين، وزوجاته وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
عباد الله: لقد كانت حياة نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحياة أصحابه -رضي الله عنهم- كلها دعوة إلى توحيد الله، وجهاد في سبيل الله، ونصرة لدين الله؛ صبروا في الضراء، وشكروا في السراء، ونصروا المظلوم، وجادوا بأنفسهم رخيصة في سبيل الله، ورحموا الضعيف من عباد الله.
وأمة الإسلام اليوم، وهي تعاني من الجراحات والأزمات، والنوازل والفتن المدلهمات؛ بأمس الحاجة إلى إيقاظها، وتذكيرها بأيام مباركة من السيرة النبوية العطرة، لا تغنيا بأيام خلت، وأمجاد حصلت، كلا، لكن ذكر وتذكير، وتأمل وتدبر؛ يقود إلى عمل، وأمل ومتابعة واقتداء.
وبهذا تنهض أمتنا، وتنفض عنها غبار الذل والهوان.
وهذا -أيها المسلمون-: حديث عن غزوة مؤتة، تلكم الغزوة التي عين لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من القادة، يتولى أحدهم بعد الآخر؛ إذا استشهد.
إنها غزوة مؤتة، شرقي الأردن، أول مواجهة مع النصارى، يذكر من أسباب هذه الغزوة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بكتاب مع الحارث بن عمير إلى ملك بُصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، وكانت الرسل لا تقتل، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأرسل هذه السرية، وعددهم ثلاثة آلاف مقاتل، وذلك في جماد الأولى من سنة 8 من الهجرة النبوية المباركة.
وعين زيد بن حارثة أميرا عليهم، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة.
تهيأ الجيش وتجهز للخروج من المدينة، ودع الناس أمراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمضى الجيش، حتى نزلوا بـ:"معان"، فبلغهم أن هرقل قد نزل بالبلقاء في مائة ألف من الروم ومائة ألف أخرى من نصارى العرب، فتشاور المسلمين، وفكروا، هل يكتبون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإخباره بعدد العدو، فإما أن يمدهم بالرجال، أو يأمرهم بأمره؟.
لكن عبد الله بن رواحة شجعهم، وقال: "يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة وما نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة لا نقاتل، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنها إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة".
فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فاندفع الجيش، فكانت الملحمة، والتقى الصفان، فاستشهد زيد بن حارثة، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فاقتحم عن فرسه الشقراء، ثم عقرها، وأخذ الراية بيمينه، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه، وهو يقول:
يا حبذا الجنة يا حبذا الجنة *** واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ظرابها
فاستشهد رضي الله عنه وكان عمره دون الأربعين، وكان يسمى: "أبا المساكين"؛ لعطفه عليهم، ولقد أبدله الله -تعالى- عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة؛ كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي صحيح البخاري: أنهم التمسوا جعفر بن أبي طالب، فوجدوه في القتلى، ووجدوا في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية رضي الله عنه.
ثم أخذ الراية القائد الثالث عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى استشهد، ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وهو المعروف بشجاعته وإقدامه وخبرته بالحرب.
قال خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية أقاتل بها".
ولما دخل الليل على المتحاربين، وهدأ القتال؛ أعاد خالد سيف الله المسلول تنظيم الجيش، فظن الأعداء أنهم جاءهم مدد من المدينة، وناوشهم خالد بمن معه، وألحق بهم الخسائر دون أن يدخل المسلمين في حرب معهم، واكتفى بذلك، ثم انصرف بالمسلمين.
ولقد كان من معجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم-: أن أخبر أصحابه على منبره بالمدينة بخبر الجيش، فور حصول ما حصل، واستشهاد القادة.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم"[رواه البخاري في الصحيح].
وعلى الرغم من ضراوة هذه المعركة، وكثرة العدو، فإنه لم يستشهد من المسلمين سوى اثني عشر رجل، أما العدو فلا يعرف عدد قتلاهم، غير أن وصف المعركة يدل على كثرة القتل فيهم، فلقد انكسرت تسعة أسياف في يدي خالد وحده.
ولقد كان لهؤلاء الشهداء الذين قتلوا في مؤتة منزلة عظيمة عند رب العالمين، ولهذا قال رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم-: "ما يسرني أنهم عندنا" أو قال: "ما يسرهم أنهم عندنا".
هذا هو الجود بالنفس في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله.
أما قتل المرء لنفسه؛ فذنب كبير، وإيذاء له ولذويه، وهو دليل على وجود خلل في الإيمان بقضاء الله وقدره، والصبر لحكمه، وانتظار الفرج منه.
أيها المسلمون: أما أسر الشهداء مؤتة؛ ففي حفظ الله، وفي كفالة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159].
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 128].
لما جاء نعي جعفر وأصحابه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما يشغلهم".
ودخل صلى الله عليه وسلم على بيت ابن عمه جعفر، ودعا بأولاده، وهم صبية صغار، فقبلهم، وذرفت عيناه، فقالت أمهم: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: "نعم لقد أصيب اليوم".
قَالَ عبد الله بن جعفر: فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ يُتْمَنَا، فقال: "أَنَّى تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟".
ثم صار يتعاهدهم بنفسه صلى الله عليه وسلم.
فعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: جاءنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث من موت جعفر، فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم" ثم قال: "ادعوا لي بني أخي" فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: "ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رءوسنا".
ثم قال صلى الله عليه وسلم مداعبا لأولاد جعفر: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خلقي وخلقي".
قال عبد الله: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَخْلِفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرار".
وهكذا -عباد الله-: ينبغي لنا أن نقتدي بإمامنا -صلى الله عليه وسلم- في الرأفة بالضعفاء، وكفالة الأرامل والأيتام، فمن لهم غير الله سوى أصحاب القلوب الرحيمة!.
ما قيمة مجتمع لا يرحم الأغنياء والأقوياء من حولهم من الأيتام، وذوي الحاجات والفقراء؟!.
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وتذكروا بأن الجزاء من جنس العمل؛ فجعفر -رضي الله عنه- كان أرحم الناس بالمساكين، فسخر الله له إمام المتقين -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكفل أسرته، والراحمون يرحمهم الرحمان.
من للأرامل واليتامى إذا أعرض عنهم أصحاب القلوب الرحيمة، والنفوس الكريمة؟!
اللهم ارض عن شهداء مؤتة، وعن الصحابة أجمعين، واجمعنا بهم في جنات النعيم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].
اللهم بارك لنا في القرآن والسنة، اللهم ثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاك على ذلك.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، وخليله وأمينه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: وتذكروا ما في هذه الغزوة من الدروس، فإنها حافلة بالدروس والبطولات!.
إنها تعطي البرهان على أن الإيمان إذا استقر في القلوب، وعمل عمله فيها، قاد النفوس إلى استقبال المنايا، وتمني الموت ابتغاء رضوان الله؛ لإعلاء كلمة الله.
وهكذا سقط القادة الثلاثة -رضي الله عنهم- في مؤتة الواحد منهم تلو الآخر، ولم يكن همهم أنفسهم والرماح والسيوف قد خالطت أجسادهم، بل همهم الإسلام، فلم تسقط رايتهم من أيديهم رغم ما لقوه من ألم القتل.
إن طبيعة البشر أنهم لا يهتمون عند الموت إلا بالموت وسكراته، لكن أولئك القادة نسوا ما هم فيه، وقضى كل واحد منهم نحبه، وقلبه مع الإسلام.
إن هذه النماذج إذا وجدت في أمة تحقق لها النصر -بإذن الله-.
إن مجاهدي غزوة مؤتة برهنوا برهانا واضحا أن حروب المسلمين مع عدوهم، لا تحسب بكثرة العدد، أو قوة العتاد، بل الفيصل فيها قوة الإيمان، وصدق التوكل على الله، والإخلاص في طلب الشهادة!.
وتلك سنة أبدية، وهي مفسرة لأسباب هزائم المسلمين المتتابعة، متى ما ضعف الإيمان، أو تخلف التوكل والإخلاص، كما هو حادث في أزمنة الضعف والانحطاط.
إن على كل مسلم ومسلمة مسئولية عن الأمة: ماذا قدم لها؟ هل حافظ على فرائض الله؟ هل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؟ هل قام بما استرعاه الله من أهله وذريته وفي عمله ووظيفته؟
لأن النصر يتخلف عن المسلمين إذا تخلفوا عن دينهم، وضيعوا ما استرعاهم الله -تعالى- من أمانات وواجبات وفرائض.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من أنصار دينك، يا ذ الجلال والإكرام.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي