معاشر المؤمنين: لمّا نتأمل في مقولة البنت الصالحة: "هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة؛ فأغنانا حتى الموت؛ فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل؟!" لوجدنا أن هذه البنت صابرة محتسبة ثابتة على الحق، متوكلة على الله. لم ينسها الفقر؛ الله -عز وجل-ولم ينسها ضغط الواقع؛ربها وخالقها.كذلك لم يغيرها المحيط والبيئة؛ فهي..
الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب اليه...
معاشر المؤمنين: حاتم الأصم رجلٌ من السلف من تلاميذ الشيخ شقيق البلخي -رحمهما الله تعالى-، طلب العلم على يديه ما يربوا على ثلاثين عاما، فحقق التقوى والتوكل في حياته خير تحقيق، سُئل في يوم من الأيام:بما حققت التقوى يا حاتم؟
فقال: حققت التقوى بأربعة أمور -وذكر-:
علمت أن رزقي لا يأخذه أحداً غيري؛ فاطمئن قلبي.
وعلمت أن عملي لن يتقنه غيري؛ فاشتغلت به.
وعلمت أن الموت يطلبني فأعددت الزاد لذلك اليوم.
وعلمت أن الله مطلعٌ علي؛ فاستحييت أن يراني وأنا على معصية.
وفي سنةٍ من السنوات اشتاق حاتم الأصم إلى الحج، ولكنه لا يملك النفقة على نفسه، ولا على أهله من بعده؛ لأنه سوف يغيب عنهم عدة أشهر، فلما اقترب موسم الحج؛ أخذه الهم والحزن والغم؛ حتى قاده ذلك إلى البكاء شوقاً لبيت الله الحرام، فرأته ابنةً له صغيرة، ولكنها كبيرة في صلاحها وتقواها، فقالت لأبيها: "ما يبكيك يا أبتاه؟!" فقال: "الحج أقبل!"فقالت: "وما لك لا تحج؟" فقال لها: "النفقة!" فقالت: "يرزقك الله"قال: "النفقة عليكم من بعدي!" فقالت: "يرزقنا الله!" فقال لها: "الأمر إلى أمكِ".
-لأن الأم هي من يتحمل هم البيت والطعام والشراب والمريض، وغيرها- فذهبت البنت الصالحة إلى أمها وإخوانها وأخواتها، وقالت لهم: "والدنا ليس هو الرزاق، وإنما الرزاق الذي يرزقنا هو الله -تعالى-، فلندع والدنا يخرج الى الحج!".
فما كان من أمر العائلة إلا الموافقة لوالدهم في الخروج إلى الحج.
فخرج حاتم الأصم، وكان قد أعطى أهله من النفقة ما يكفيهم لمدة ثلاثة أيام!.
"لا إله إلا الله" ما أعظم هذا التوكل على الله! وهو يعرف أنه سيتركهم عدة أشهر.
ثم خرج يسير خلف القافلة؛ لأنه لا يملك النفقة، حتى يكون ضمن القافلة، وفي طريقهم إلى مكة قّدر الله -تعالى- أن عقرباً تلدغ أمير القافلة، فأصابه الألم الشديد، حتى كاد ينهي حياته، فقالوا الحاشية: "إن حاتم الأصم الرجل الصالح معنا خلف القافلة، فلماذا لا نطلب منه أن يرقي قائد القافلة؟!".
فذهبوا إليه، وطلبوا منه ذلك، فوافق، ثم أتى ورقى قائد القافلة فشفاه الله -تعالى-وعافاه من ذلكم السم، فقال القائد: "نفقتك في الذهاب إلى الحج وفي العودة من الحج عليّ".
فاستبشر حاتم، وعلم أن ذلك من فضل الله، ثم قال: "اللهم هذا تدبيرك لي فأرن تدبيرك في أهل بيتي".
عباد الله: ننتقل وإياكم إلى بيت حاتم، ونتأمل ما جرى فيه؛ لقد مضى اليوم الأول والثاني والثالث، فلم يزدد الأمر إلا سوءا وفقراً وحاجةً، فأخذت الأم والأولاد يعاتبون البنت الصالحة، وقالوا: أنتِ السبب فيما نحن فيه، وأنت التي فعلتي وفعلتي، وأخذوا يشتمونها، ولكنها صابرة واثقة،وهي: تضحك! وهي تقول في نفسها: "اللهم قد عودتنا فضلك، فلا تمنعنا من فضلك".
فقالت أمها: "كيف تضحكين ونحن نتضاوى من الجوع؟!".
فقالت لهم: "هل أبونا هو الرزاق أم أنه آكل رزق؟!".
فقالوا: "بل إنه آكل رزق، والرزاق هو الله -تعالى-!".
فقالت البنت الصالحة التقية الواثقة بالله -تعالى-: "ذهب آكل الرزق، وبقى الرزاق!".
وما هي إلا ساعات وباب البيت يطرق، فقالوا: من الطارق؟!
فقال: "إن الأمير يستسقيكم!".
فقالت الأم: "سبحان الله! نحن نتضاوى من الجوع وأمير المؤمنين يستسقينا!".
فما كان منها إلا أن جهّزت إناءً نظيفاً وملئته ماء عذباً.
لأنها تعلم:"وانزلوا الناس منازلهم".
وأمير البلدة كان في رحلة صيد، فانقطع الماء عنهم، فأصابه العطش الشديد، فأرسل وزيره إلى أقرب بيت، فكان بيت حاتم الأصم!.
فلما شرب الأمير من ذلكم الماء العذب أحس بطعم وعذوبة الماء، فسأل الوزراء: من صاحب البيت؟
فقالوا: "هذا بيت حاتم الأصم".
فقال الأمير: "الرجل الصالح؟!".
قالوا: "نعم".
فقال: "الحمد لله الذي أسقانا من بيوت الصالحين".
فقال لهم: "نادوه حتى نجازيه".
فقالوا: هو خرج للحج، فقام الأمير وخلع مِنطقته -أي حزامه، وهو من القماش المرصع بالجواهر والدرر- ورمى به لأهل حاتم الأصم، وقال لوزرائه: "من كان منكم لي عليه يد-يحترمني- فليفعل صنيعي".
فخلعوا جميعا أحزمتهم وأعطوها أهل حاتم.
فقام أحد التجار واشترى هذه الأحزمة بمبالغ كبيرة من الذهب، وأعاد هذه الأحزمة إلى الأمير والوزراء؛ تزلفاً وتقرباً لهم.
فأصبح بيت حاتم الأصم من أغنى بيوت المسلمين.
فاخذوا أبناء حاتم يأكلون ويشترون ما يريدون من الطعام، ولكن البنت الصالحة تبكي!.
عجباً! والله لهذه البنت التقية، فقالت لها الأم: "عجباً لكِ يا بنيتي بالأمس كنا في جوع وفقر وأنتِ تضحكين! واليوم وقد أغنانا الله وأنت تبكين؟!".
فقالت البنت الصالحة: "هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة فأغنانا، حتى الموت، فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل؟!".
أيها المؤمنون: لكم أن تتأملوا في عمق هذه العبارة التي قالتها هذه البنت الصالحة!.
نسأل الله -جل وعلا- صلاح النية والذرية، والعصمة من الفتن والزلل، ومن فساد القول والعمل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
معاشر المؤمنين: لمّا نتأمل في مقولة البنت الصالحة: "هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة فأغنانا، حتى الموت، فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل؟!".
لوجدنا أن هذه البنت صابرة محتسبة ثابتة على الحق، متوكلة على الله.
لم ينسها الفقر؛ الله -عز وجل-.
ولم ينسها ضغط الواقع؛ ربها وخالقها.
كذلك لم يغيرها المحيط والبيئة؛ فهي ثابتة ثبات الجبال الرواسي على دينها وتقواها.
تحملت ألوان الشتم والضغوط والكلام والسب.
فكانت الثمرات التالية:
الثبات على الحق مهما كانت الظروف.
تغير الحال إلى أحسن حال، فقد أصبح بيت حاتم من أغنى بيوت المسلمين يومئذ.
ومن الثمار كذلك: في هذا درس وموعظة للمريض، وصاحب الهم، وصاحب الدين: أن يرتبطوا بالله -تعالى-، فهو الرزاق؛ المعافي الشافي، فارج الهم، ومنفس الكرب.
أما "الدرس الأهم في قصة حاتم الأصم" فهو:تحقيق التقوى في حياة الإنسان مهما كانت العقبات والتحديات في طريقه.
وقد رأينا هذا واضحاً وجلياً في حياة حاتم الأصم وأهله، وخصوصاً البنت الصالحة، وكما قال طلق ابن حبيب في تعريفه للتقوى، فقال: "التقوى هي أن تعمل ما يرضي الله، على نور من الله تبتغي ثواب الله، وتترك ما حرم الله على نور من الله مخافة عذاب الله".
-رحم الله الجميع رحمة واسعة-.
عباد الله: هذا، وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمدٍ ما ذكره الذاكرون الأبرار، وما غفل عنه الكافرون الفجار، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان.
اللهم كن لإخواننا في بلاد الشام، كن لهم عوناً ونصيرا ومؤيداً وظهيرا يوم قل المعين والناصر...
الدعاء...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي