1/فضل تلاوة القرآن 2/الغاية من إنزال القرآن 3/أقسام هجر القرآن وبعض صور ذلك 4/تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من هجر القرآن وشكواه من ذلك 5/خطر عدم تطبيق القرآن والعمل به
أيها الإخوة المسلمون: من بركاتِ هذا الشهرِ الكريم: أنْ تمتدَّ أيدي الصائمين إلى كتابٍ عظيمٍ طالما بقي مركونًا في زاوية، أو موضوعًا على رفٍّ.
فإذا جاء رمضانُ رأيت المسلمين يُهرعون إلى القرآنِ يحرصون على الختمات والبركات.
وهذا عملٌ مشكورٌ مأجورٌ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
ولكن -يا عباد الله-: هل تكفي مجردُ التلاوة؟
التلاوةُ بحدِّ ذاتِها عبادةٌ ولاشك، والقرآنُ هو الكتابُ الأوحدُ المُتَعَبَّدُ بتلاوة حروفه، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا"[رواه الترمذي وهو صحيح].
ولكنَّ الأجرَ يتفاوت على قدْرِ ما في هذه التلاوة من التدبر والعمل، قال الله -تعالى-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر: 17ٍ-18].
فالقرآنُ كتابُ هدايةٍ ومنهجُ حياةٍ؛ كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
يا عباد الله: كيف باتتْ صِلتُنا بالقرآن العظيم؟!
إنَّ النظر في حال المسلمين اليومَ يدعو إلى طرح عديدٍ من الأسئلة؟:
هل نزل القرآن الكريم ليقرأَهُ الأحياءُ أو يُقرأُ على الأموات؟.
هل نزل القرآن الكريم لتُفتتحَ به الاحتفالاتُ والمناسباتُ ولو كان فيها منكرات؟
هل نزل القرآن الكريمُ ليُوضعَ في السيارة والبيت كمكمِّلٍ للزينة والديكور أو ليُتَّخذَ تميمةً دفعاً للحسد؟
هل نزل القرآن الكريم لتُعلِّقه الحِسَانُ على صدورِهِنَّ العاريةِ؛ كحِلْيَةٍ داعيةٍ للنَّظرة الشهوانية؟
هل نزل القرآن الكريم ليتَّخذَه الفنَّانون لوحاتٍ جماليَّةً على هيئة شجرةٍ أو حيوانٍ يُظهرون فنَّهم الأعوجَ وتلاعبَهم بالريش والألوان؟
هل نزل القرآنُ الكريمُ لتقليب صفحاتِه وإتمامِ ختماته؟
هل نزل القرآنُ الكريمُ للتغنِّي بكلماتِه بِلُحُونٍ مُطْرِبةٍ مُذْهِبةٍ للعقل والوقار؟
هل .. وهل .. وهل .. أسئلةٌ كثيرة توقفنا عند حدٍّ لهذا الاستهتار الذي نجده عند بعض المسلمين بكلِّ أسفٍ نحوَ القرآن.
يا أمة القرآن: لماذا أُنزل القرآن؟ ما غايتُه وما هدفُه؟
فلنستمعْ إلى كلام الله -تعالى- وهو يحدِّد الغايةَ من إنزال القرآن.
قال الله في أول آيةٍ بعد فاتحة الكتاب: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 1-2].
وقال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[إبراهيم: 1].
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57].
من هذه الآيات وغيرِها يتبيَّن أنَّ الله نزَّل القرآنَ على هذه الأمَّة لتؤمنَ به، وتعيشَ به، فتُحِلَّ حلالَه وتحرِّمَ حرامَه، أنزل الله القرآنَ ليكون دستورًا لحياتها لتحمِلَه إلى الناس كافةً، فتخرجَهم به من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الضياع إلى الاستقرار.
فهل حققنا الغاية من نزول القرآن؟
إننا -يا إخوة-: أقولها بكل مرارةٍ وأسف: أخشى أن نكون قد اتَّخذْنا هذا القرآنَ مهجوراً.
وقد نغالط أنفسنا، فيقول قائلُنا: معاذَ اللهِ أنْ نعاملَ القرآنَ بالهِجْران! وهل فينا من يهجرُ القرآن؟
ألسنا نحمله في كلِّ مكان؟
ألسنا نعلِّق آياته على الجدران؟
ألسنا نقرِّر حفظه على الصبيان؟
ألسنا نقرأُهُ في المآتم والأحزان؟
ألسنا نطْبَعُه بأبهى الألوان؟
ألسنا نسمعه مجوَّدًا مرتَّلاً بأحلى الألحان؟
أفكلُّ هؤلاء عاملوا القرآنَ بالهِجْران!.
أقول آسفًا -يا عباد الله-: لقد وقعنا في واحدٍ أو أكثرَ من أنواع هجر القرآن، التي ذكرها الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله تعالى- حيث قال: "هجر القرآن أنواعٌ:
أحدها: هجرُ سماعِه والإيمانِ به.
والثاني: هجرُ العملِ به، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجرُ تحكيمِه والتحاكُمِ إليه.
والرابع: هجرُ تدبُّرِه وتفهُّمِ معانيه.
والخامس: هجرُ الاستشفاءِ والتداوي به في جميع أمراض القلوب.
وكلُّ هذه داخلةٌ في قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
فأين نحن -يا أمة القرآن-: من هذه الأنواع الخمسة؟.
دعوني أذكر فقط هجرَ العملِ به وتحكيمِه والتحاكمِ إليه، فما أشد تفريطنا في ذلك!.
فكم قارئٍ للقرآن والقرآنُ يلعنه؟
أين تحكيمُ آياتِ النهي عن الربا وبعضُ البنوك والأشخاص يتعاملون بالربا ويأكلونه؟.
أين تركُ الخمور وبعضُ من يقرأ القرآنَ يشربونه؟.
أين البعدُ عن الزنا والاختلاط ومن المسلمين والمسلمات من يفعلونه؟.
أين آياتُ الحجاب ونسوةٌ يتبرَّجن ويمزقونه؟.
كيف لأهلِ القرآنِ يطربون لصوتِ الشيطان ويسمعونه؟.
أين العملُ بقول الله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف: 157].
ومن المسلمين من يتاجر في المخدرات ويبيع الدخان ويستنشقونه؟.
أين تحكيمُ الأمةِ لآياتِ الجهادِ ضدَّ عدوِّها حتى يُرْهِبونه؟.
يا عباد الله: ونحن هجرنا كتاب الله حتى في الاستشفاء به من أمراض قلوبنا وصدورنا.
ففي قلوبنا أمراضٌ وأدواء، وعِلَلٌ وأهواء.
أفيها حسدٌ؟ نعم.
أفيها حقدٌ؟ نعم.
أفيها كِبْرٌ؟ نعم.
أفيها طمعٌ؟ نعم.
أفيها شبهاتٌ؟ نعم.
أفيها شهواتٌ؟ نعم.
أفيها حبُّ اللهْوِ والتفاخر؟
نعم نعم نعم وما أبرئ نفسي!.
فهل أَعْلَنَّا الحربَ على قلوبنا فطهَّرناها بالقرآن؛ قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا)[الإسراء: 82].
فهيا -يا أمة القرآن-: إلى الهدى والرحمة والشفاء والنور: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنفال: 21].
ولْنَرْبَأْ بأنفسنا أنْ نكونَ مصدرَ شكوى وإزعاجٍ من نبيِّنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
نعوذ بالله أن نكون ممن يهجر كتاب الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1-4].
وأشهد أن لا إله إلا الله القائلُ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
والصلاة والسلام على محمد -صلى الله عليه وسلم- شكا قومه إلى ربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
فانظروا -يا رحمكم الله-: إلى خطورة هذه الشكوى!.
الشاكي: محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أعظمُ الخلق!.
والمُشتَكى إليه: ربُّ العالمين!.
وموضوعُ الشكوى: هجْرُ القرآن الكريم -نسأل الله العافية-.
وعجباً لحالنا -يا إخواني-: نشكو أولادنا لكلِّ مَنْ هبَّ ودبَّ، نقول: إنَّهم لا يسمعون الكلام! ونؤنِّب من يتراخى في تلبية النداء، ونقول: هل تسمعني، تسمعني وإلا لا؟.
فهل يحبُّ أحدٌ منَّا أن يذهبَ كلامُه أدراجَ الرياح؟
هل ترضى أن يكون لرعيتك في بيتك ومرؤوسيك في عملك أذنٌ من طينٍ وأذنٌ من عجين؟
وكيف يكون موقفُك وهم يضربون بأوامرك عُرْض الحائط؟ أو يتراخون في التنفيذ؟ أو يقصِّرون في الأداء؟.
طبعاً أنت لا ترضى لنفسك أن تأمر؛ فلا تُطاع، وتنهى فتُعصى!.
فيا ليتَ شِعْري ما بالك ترضاه للخالق العظيم، ولله المثل الأعلى؟!.
فهل أعطيتَ كلامَ الله حقَّه؟
هل تجلس بين يدي كتاب الله خاشعًا ملتزمًا بأوامره مجتنبًا نواهِيَه؟
إنَّ القرآنَ في كلِّ بيتٍ، وربَّما في كلِّ جيبٍ، ولكنْ بقي أن يكون في كلِّ قلبٍ.
هلاَّ تخلقنا بأخلاق القرآن، وتأدبنا بآداب القرآن، سُئِلتْ عائشةُ -رضي الله عنها- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فقَالَتْ: "إِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ الْقُرْآنَ"[رواه مسلم].
عباد الله: لقد عاب الله على اليهود أنَّهم حُمِّلوا التوراةَ فلم يحملوها، ولم يعملوا بها، فضَرَب الله بهم مثلاً قبيحًا: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة: 5].
ما قيمةُ حَمْل الكتاب بلا انتفاع؟
ولَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ *** لَقَالَ النَّاسُ: يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ
زَوَامِلُ لِلأَسْفَارِ لا عَلْمَ عِنْدَهُمْ *** بِجَيِّدِهَا إِلا كَعِلْمِ الأَبَاعِرِ
لِعَمرُكَ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا *** بِأَحْمَالِهِ مَا فِي الْغَرَائِرِ
فيا أيها المسلمون: هيا إلى كتاب الله، نسمعه ونقرأه ونؤمن به، ونَعْرِض أنفسنا عليه، ونتدبر معانيه، ونعمل به، نحتكم إليه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طـه: 124-126].
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا...
اللهم أعنا على تدبره وإحلال حلاله وتحريم حرامه والإيمان بمحكمه ومتشابهه.
اللهم اجعل القرآن شفيعاً لنا يوم القيامة ومنجياً لنا من عذاب القبر.
اللهم وفق أمتنا إلى العمل بكتابك، وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريب مجيب الدعوات....
وصلِّ اللهم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي