ولإيراد القَصص في القرآن مقاصد عديدة تستحق التفكر والتدبر، منها: إثبات صدق نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأن هذا القرآن الذي يتلوه هو وحي من عند الله تعالى، فقَصص القرآن من أنباء الغيب، يتلوها نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس يتعلم من بشر، وقد نشأ في قوم لا يعلمون شيئًا عن هذه القَصص، فلا بد أن يكون هذا وحيًا من عند الله.
أما بعد:
في سورة الأعراف يأمر الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل أهل الكتاب عن قصة يعلمونها، فقال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
وفي سورة البقرة يخاطب الله تعالى أهل الكتاب مباشرة بشأن هذه القصة فقال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
وفي سورة النساء يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا).
فمن هم أصحاب السبت الذين ورد ذكرهم في هذه الآيات؟! وما اعتداؤهم الذي كانوا يعتدونه في يوم السبت، والذي بسببه لعنهم الله، فعذبهم بعذاب بئيس، ثم مسخهم قردة خاسئين؟! وكيف جعلهم الله عبرة لغيرهم وموعظة للمتقين؟! أي: ما وجه العبرة والعظة في قصتهم؟! هذا هو موضوع الخطبة -إن شاء الله-.
أصحاب السبت هم طائفة من بني إسرائيل كانوا يسكنون في قرية تقع على ساحل البحر، وكان عملهم الذي يتكسبون منه هو صيد الحيتان، فكانوا يخرجون للصيد كل يوم إلا يوم السبت؛ لأن شريعتهم في التوراة تحرم عليهم العمل يوم السبت، فكانوا يلتزمون بشريعتهم تلك كشأن سائر المؤمنين من اليهود، وقد ابتلاهم الله بأن الحيتان تأتيهم يوم السبت حتى يرونها طافية على الماء قريبة من الساحل، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم، فلم يصبروا على هذا الابتلاء، وإنما خالفوا شريعة الله بحيل خبيثة، فمنهم من خرج يوم السبت واصطاد حوتًا، ولكنه لم يخرجه من الماء، وإنما حزمه بحبل مربوط بوتد على الشاطئ، حتى إذا جاء يوم الأحد، سحب الحبل وأخرج الحوت. ومنهم من حفر حفرة على الشاطئ متصلة بقناة إلى البحر، فإذا دخل الحوت إلى هذه الحفرة في يوم السبت وضع حاجزًا على فوهة القناة حتى لا يستطيع الرجوع إلى البحر مرة أخرى، فإذا جاء يوم الأحد أخرجه من الماء. وكانوا يفعلون ذلك سرًا في بادئ الأمر، حتى كثر صيدهم للحيتان، وباعوها في الأسواق، فانتشر ذلك الأمر بينهم حتى جاهروا بالصيد بعد ذلك بمثل هذه الحيل.
قام بعض الصالحين من اليهود من أهل هذه القرية بواجب الوعظ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وبينوا أن صيد هذه الحيتان يعتبر اعتداءً على شريعة الله في التوراة التي تحرم العمل بالصيد في يوم السبت، ولكن المعتدين في السبت ظلوا يصيدون بمثل هذه الحيل بحجة أنهم لا يخرجون الحيتان من الماء إلا في يوم الأحد, وظل الواعظون يعظونهم ويخوفونهم عقاب الله، وعندئذ رأت طائفة أخرى من الصالحين من أهل هذه القرية أن الوعظ لا يُجْدِي، وأن السكوت أولى، فقالوا للواعظين: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، فقال الواعظون: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: إننا نعظهم لتكون موعظتنا هذه عذرًا لنا أمام الله في أننا وإن كنا لم نغير هذا المنكر بأيدينا، ونمنعهم بالقوة من الصيد في يوم السبت، فقد نهينا عن هذا المنكر بألسنتنا، وبهذا نقيم عذرنا عند الله، وأيضًا موعظتنا هذه قد تجعلهم يتقون الله فيقلعون عن هذا المنكر.
ولكن المعتدين في السبت رغم وعظهم وتذكيرهم بأمر الله نسوا ما ذكروا به، وظلوا على اعتدائهم، فأخذهم الله بعذاب بئيس، لم ينج منه إلا الذين ينهون عن السوء، وهم الواعظون الناهون عن المنكر.
وبرغم حلول العذاب البئيس لم ينته المعتدون ولم يتوبوا إلى الله، بل عتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله لهم: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). فمسخهم الله قردة ولعنهم، وجعل هذه العقوبة نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لمن عاصرها في وقت وقوعها، فرآها بعينه أو سمع بها، وأيضًا لمن أتى بعدها وعلم بها، وجعل الله هذه العقوبة أيضًا موعظةً للمتقين، ليعلم الناس جميعًا سوء عاقبة الاعتداء على شريعته وانتهاك أوامره ونواهيه.
لقد تضمنت هذه القصة عظاتٍ وعِبَرًا، ينبغي أن نقف عندها لنتدبرها ونتفكر فيها، فإن القصص في القرآن إنما ورد للعبرة والعظة والتفكر، قال تعالى: (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
ولإيراد القَصص في القرآن مقاصد عديدة تستحق التفكر والتدبر، منها: إثبات صدق نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأن هذا القرآن الذي يتلوه هو وحي من عند الله تعالى، فقَصص القرآن من أنباء الغيب، يتلوها نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس يتعلم من بشر، وقد نشأ في قوم لا يعلمون شيئًا عن هذه القَصص، فلا بد أن يكون هذا وحيًا من عند الله.
ولهذا فقد ارتبط إيراد القَصص في القرآن بإثبات الوحي في أكثر من موضع في كتاب الله، فبعد أن ذكر القرآن جانبًا من قصة مريم -عليها السلام- قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، وبعد أن ذكر القرآن جانبًا من قصة نوح -عليه السلام- قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)، وبعد أن ذكر القرآن جانبًا من قصة يوسف -عليه السلام- وإخوته الذين أجمعوا أمرهم على المكر به قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)، وبعد أن ذكر القرآن جانبًا من قصة موسى -عليه السلام- وكيف تزوج امرأةً من أهل مدين كما في سورة القَصص قال تعالى: (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، أي: لم تكن -يا محمد- مقيمًا في أهل مدين حتى تعرف تفاصيل أخبار موسى هذه لترويها بهذه الصحة والدقة، ولكن إنما عرفتها عن طريق الوحي.
لهذا فإن من دلائل نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا القرآن وحي من عند الله إيراد مثل هذه القصص، كما قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ). أرأيت كيف يرتبط إيراد القصص في القرآن بإثبات الوحي؟!
لهذا فإن ورود قصة أصحاب السبت في القرآن يدل على أنه كتاب مُوحى به من عند الله؛ لأن هذه القصة يكتمها اليهود ولا يفشونها، وإلى الآن -أي: عام 1431هـ- يجد الباحث العربي مشقة في تتبع أثرها في كتبهم، خاصة إذا علمنا أنه حتى الآن لا توجد ترجمة عربية كاملة للتَّلمود، وهو من أهم الكتب الدينية عند اليهود، وتأتي قدسيته عندهم في المرتبة الثانية بعد التوراة. انظر: الموسوعة العربية العالمية: التلمود.
أما أسفار -أي: كتب- العهد القديم عند أهل الكتاب، ومن هذه الأسفار التوراة، فقد ورد في عدة مواضع منها اعتداء اليهود في السبت، بعبارة: تنجيس السبت، أو تدنيس السبت. ولكن لم ترد في هذه الأسفار قصة أصحاب السبت على النحو الوارد تفصيلًا في القرآن.
لهذا فإن استهلال قصة أصحاب السبت بقوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)، بما يتضمنه ذلك من تحدٍ لهم بعلمهم بهذه القصة علمًا موروثًا عن أسلافهم، يؤكد لليهود بأن هذا القرآن وحي من عند الله. هذا من أهم مقاصد إيراد هذه القصة في القرآن.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ثم أما بعد:
ومن مقاصد إيراد قصة أصحاب السبت في القرآن التحذير من سلوك مسلك المعتدين في السبت، وهذا التحذير للمسلمين ولغير المسلمين.
أما غير المسلمين من أهل الكتاب -يهودًا كانوا أم نصارى- فالقصة تذكرهم بسوء عاقبة أسلافهم بسبب عصيان أمر واحد من أوامر الله، فكيف بهم إذا عصوا جميع أوامر الله التي جاء بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- إن لم يؤمنوا به ويتبعوه؟! ولهذا فقد اقترنت قصة أصحاب السبت بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالقرآن، وذلك في سورة النساء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً).
أما المسلمون: فتحذيرهم بقصة أصحاب السبت يشمل أمورًا عديدة، منها:
بيان سوء عاقبة استعلان المخالفة الجماعية لشيء من شريعة الله.
بيان سوء عاقبة التكسب من الحرام.
بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه هو سبيل النجاة، خاصة عند استعلان المعاصي.
بيان أن الله تعالى قد يعجل بالعقوبة على بعض المعاصي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وغير ذلك من الأمور التي يتعظ بها المتقون، فقصة أصحاب السبت قد جعلها الله تعالى موعظة للمتقين.
ويضيق هذا المقام الآن بتفصيل موعظة المتقين بهذه القصة، ولعلنا نذكر هذه المواعظ تفصيلًا في لقاءات أخرى إن شاء الله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)، أي: إذا عزمت على أمر علقه على مشيئة الله، وقل: عسى أن يوفقني ربي إلى أمرٍ خيرٍ وأرشدَ مما عزمتُ عليه.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك الغنيمة من كل بر، والسلام من كل إثم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي