نقف اليومَ مع خبَرِ طاعون عَمَواس، وما أدراك ما طاعون عَمَواس؟! نستذكر هذه المأساة، ونحن نرى اليومَ الأمراضَ المعدية قد تنوَّعت أسماؤُها، وتفاقمَ انتشارُها؛ ليعلمَ الأبناء ما قد ذاقَه الآباء، من المصائب والبلاء، ولعلَّ ذلك يهوِّن عليهم ما يرَوْنَه من مصائبِ عالَم اليوم.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- حَقَّ تَقْوَاهُ، فَمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ رَزَقَهُ وَكَفَاهُ، وَنَصَرَهُ وَآوَاهُ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: حَيَاةُ الْعِلَّةِ وَالِاعْتِلَالِ، قَدَرٌ مَكْتُوبٌ، وَكَأْسٌ مَشْرُوبٌ، وَزَائِرٌ ثَقِيلٌ غَيْرُ مَرْغُوبٍ، فَطَبِيعَةُ الْحَيَاةِ أَنَّ عَيْشَهَا مُنَغَّصٌ بِالْأَسْقَامِ، وَصَفْوَهَا مُكَدَّرٌ بِالْآلَامِ.
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا *** صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمَنْ يَتَأَمَّلْ حَيَاةَ الْبَشَرِ عَبْرَ حِقَبِ التَّارِيخِ يَرَ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْعَامَّةَ، وَالْأَوْبِئَةَ الْمُعْدِيَةَ، لَمْ يَخْلُ مِنْهَا عَصْرٌ مِنَ الْعُصُورِ.
فَتَعَالَوْا -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- نَقْطَعْ حُجُبَ الزَّمَانِ، وَنَسْتَنْطِقْ صَفَحَاتِ التَّارِيخِ؛ لِنَقِفَ مَعَ مَأْسَاةٍ غَيْرِ عَابِرَةٍ، ذَاقَتْهَا الْأُمَّةُ حِينًا مِنْ دَهْرِهَا، مَعَ وَبَاءٍ غَارَتْ مَوَاجِعُهُ، وَعَظُمَتْ فَوَاجِعُهُ، هُوَ أَوَّلُ وَبَاءٍ حَلَّ بِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَفَتَكَ بِخِيَارِهَا، وَأَفْنَى شَبَابَهَا وَشِيبَهَا، وَرَمَّلَ نِسَاءَهَا، وَيَتَّمَ أَطْفَالَهَا.
نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ خَبَرِ طَاعُونِ عَمْوَاسَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا طَاعُونُ عَمْوَاسَ!! نَسْتَذْكِرُ هَذِهِ الْمَأْسَاةَ، وَنَحْنُ نَرَى الْيَوْمَ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ قَدْ تَنَوَّعَتْ أَسْمَاؤُهَا، وَتَفَاقَمَ انْتِشَارُهَا؛ لِيَعْلَمَ الْأَبْنَاءُ مَا قَدْ ذَاقَهُ الْآبَاءُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ مَصَائِبِ عَالَمِ الْيَوْمِ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: سُمِّيَ هَذَا الطَّاعُونُ بِطَاعُونِ عَمْوَاسَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَرَضَ ابْتَدَأَ وُقُوعُهُ فِي بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ فِي فِلَسْطِينَ تُسَمَّى عَمْوَاسَ، كَانَ بِهَا مُعَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ أَيَّامَ خِلَافَةِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
تَبْعُدُ عَمْوَاسُ عَنِ الْقُدْسِ ثَلَاثِينَ كِيلُومِتْرًا، كَانَتْ تِلْكَ الْقَرْيَةُ مَعْرُوفَةً مَعْمُورَةً بِالسُّكَّانِ، مُنْذُ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَ رَمْسُهَا، وَطُمِسَ اسْمُهَا سَنَةَ أَلْفٍ وَتِسْعِ مِئَةٍ وَسَبْعٍ وَسِتِّينَ، يَوْمَ أَنْ قَامَتْ عِصَابَاتُ يَهُودَ بِهَدْمِ الْمَنَازِلِ وَإِجْلَاءِ السُّكَّانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْقَرْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرٌ وَلَا خَبَرٌ.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، كَانَ مَوْكِبُ الْفَارُوقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُوَدِّعُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مُيَمِّمًا وَجْهَهُ شَطْرَ الشَّامِ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ ذَاكَ مَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ، وَأَعْيَانُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، خَرَجَ الْفَارُوقُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ؛ لِيَتَفَقَّدَ الْأَمْصَارَ، وَيُنَظِّمَ الثُّغُورَ، وَيُتَابِعَ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عُمَرُ عَلَى الشَّامِ نَزَلَ بِسَرْغَ، وَهِيَ مِنْطَقَةٌ تَقَعُ بَعْدَ تَبُوكَ عَلَى حُدُودِ الْأُرْدُنِّ.
فِي هَذَا الْمَكَانِ اسْتَقْبَلَ أُمَرَاءُ الشَّامِ خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْأَرْضَ سَقِيمَةٌ، وَأَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ ظَهَرَ، فَجَمَعَ عُمَرُ رُؤُوسَ النَّاسِ وَشَاوَرَهُمْ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَلَّا يُخَاطِرَ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَى آخَرُونَ: إِنَّكَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ.
وَبَعْدَ صَمْتٍ وَتَفْكِيرٍ، قَرَّرَ عُمَرُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ أَتَى، فَنَادَى فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِي، فَأَصْبِحُوا عَلَى مَطَايَاكُمْ.
وَكَانَ أَمِيرُ الشَّامِ أَبُو عُبْيَدَةَ مِمَّنْ لَا يَرَى رُجُوعَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟! فَقَالَ الْفَارُوقُ الْمُلْهَمُ: "لَوْ غَيْرُكَ -يَا أَبَا عُبْيَدَةَ- قَالَهَا! نَعَمْ، فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ".
وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ غَائِبًا، لَمْ يَشْهَدِ اسْتِشَارَةَ عُمَرَ وَحِوَارَهُ مَعَ أَبِي عُبْيَدَةَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ".
فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَوْلَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَحَمِدَ اللَّهَ -تَعَالَى- ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَادَ أَمِيرُ الشَّامِ أَبُو عُبْيَدَةَ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ.
نَعَمْ، لَقَدْ تَفَرَّقَ الْأَخَوَانِ، الْمُبَشَّرَانِ بِالْجِنَانِ، وَمَا عَلِمَا أَنَّ هَذَا اللَّقَاءَ وَالْحِوَارَ هُوَ آخِرُ لِقَاءٍ يَجْمَعُهُمَا فِي دُنْيَا النَّاسِ.
وَنَشَرَتِ الْعِلَلُ أَجْنِحَتَهَا، وَاحْتَضَنَ الطَّاعُونُ أَرْضَ الشَّامِ، وَعَمَّ الْمَوْتُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَحَلَّتْ مَهْلَكَةٌ مَا عَرَفَتْهَا الشَّامُ فِي تَارِيخِهَا، حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ الْكَامِلَةَ كَانَتْ تَمُوتُ بِأَسْرِهَا، وَحَتَّى أُشْكِلَ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّامِ أَمْرُ تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، يَطْلُبُونَ حَلَّ هَذِهِ الْمُعْضِلَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ: أَنْ وَرِّثُوا الْأَحْيَاءَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَلَا تُوَرِّثُوا الْأَمْوَاتَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
كَانَ الرَّجُلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ يَلْقَى أَخَاهُ فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ مِنَ الطَّاعُونِ؟! وَيَلْقَاهُ عَشِيَّةً فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ عَنْهُ؟! لِأَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ لَمْ يُمْسِ، وَإِذَا أَمْسَى لَمْ يُصْبِحْ.
فَأَصْبَحَ الْمَوْتُ هُوَ حَدِيثَ النَّاسِ، وَانْتِظَارُ الْمَوْتِ هُوَ هَاجِسَ النَّاسِ، فَكَانَ النَّاسُ فِي الْمُصِيبَةِ سَوَاءً.
فَهَذَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ الشَّامَ قَبْلَ الطَّاعُونِ بِسَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا مَاتُوا جَمِيعُهُمْ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ.
كَانَ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مُجَاهِدٍ وَمُرَابِطٍ، مَاتَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا سِتَّةُ آلَافٍ.
وَصَفَ تِلْكَ الْحَالَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
أَفْنَى بَنِي رَيْطَةَ فِرْسَانَهُمْ *** عِشْرِينَ لَمْ يُقْصَصْ لَهُمْ شَارِبُ
وَمِنْ بَنِي أَعْمَامِهِمْ مِثْلَهُمْ *** لِمِثْلِ هَذَا عَجِبَ الْعَاجِبُ
طَعْـنٌ وَطَاعُونٌ مَنَايَاهُمُ *** ذَلِكَ مَـا خَطَّ لَنَا الْكَاتِبُ
وَفِي هَذَا الطَّاعُونِ فُجِعَ الْمُسْلِمُونَ بِفَقْدِ قَامَاتٍ يَعِزُّ وُجُودُهُمْ، مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ أَثَرٌ وَتَأْثِيرٌ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، لَقَدْ فَتَكَ هَذَا الطَّاعُونُ بِالْقَادَةِ الْعَسْكَرِيِّينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ، وَالزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ، وَمِنْ آلِ الْبَيْتِ الْمُقَرَّبِينَ: أَبُو عُبْيَدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ، وَسَادَاتِ الْأُمَّةِ، مَضَوْا إِلَى رَبِّهِمْ، مُتَأَثِّرِينَ بِهَذَا الْوَبَاءِ الْقَتَّالِ.
لَقَدْ كَانَتْ بِحَقٍّ فَاجِعَةً هَزَّتْ كِيانَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَأَحْدَثَتْ فِي جَسَدِهَا جُرْحًا غَائِرًا، لَا يَلتَئِمُ مَعَ الْأَيَّامِ.
أَمَّا حَالُ عُمَرَ مَعَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ فَلَا تَسَلْ عَنْ حَالِهِ. ضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، ازْدَادَ غَمُّهُ، وَطَالَ هَمُّهُ، وَكَثُرَ تَفْكِيرُهُ، وَدَامَ كَمَدُهُ.
مَا ظَنُّكُمْ بِحَالِ رَجُلٍ كَانَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ لَوْ ضَلَّتْ دَابَّةٌ فِي أَرْضِ مَمْلَكَتِهِ؟! فَكَيْفَ وَهُوَ يَرَى النَّاسَ تَتَخَطَّفُهُمْ مَصَائِبُ الْمَوْتِ؟!
لَقَدْ كَانَ الْفَارُوقُ أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَاسًا بِهَذَا الْبَلَاءِ، فَكَانَ هَاجِسُهُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ، كَيْفَ يَخْرُجُ بِالْأُمَّةِ مِنْ هَذَا الْمَأْزَقِ الْقَدَرِيِّ؟! كَانَ يَكْتُبُ إِلَى قَادَتِهِ بِالشَّامِ: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ أَرْضًا عَمِيقَةً، فَارْفَعُوا إِلَى أَرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ.
كَانَتْ أَخْبَارُ أَهْلِ الشَّامِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ عُمَرَ، وَلَكَأَنَّنَا –وَاللَّهِ- بِقَلْبِ الْفَارُوقِ يَتَقَطَّعُ أَلَمًا وَكَمَدًا، كُلَّمَا دَلَفَ سَمْعَهُ رَحِيلُ رَجُلٍ مِنْ رِجَالَاتِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ حِرْصِهِ عَلَى نَجَاةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ مِنْ هَذَا الْوَبَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ حِرْصًا أَكْثَرَ، وَخَوْفًا أَشَدَّ، عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَمِعْ إِلَى هَذَا الْمَشْهَدِ الْمُعَبِّرِ عَنْ صِدْقِ هَذَا الْحِرْصِ:
كَتَبَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كِتَابًا إِلَى أَبِي عُبْيَدَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَاءَ فِيهِ: "مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَبِي عُبْيَدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، أُرِيدُ أَنْ أُشَافِهَكَ بِهَا، فَعَزَمْتُ عَلَيْكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا أَلَّا تَضَعَهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ إِلَيَّ".
فَفَطِنَ أَبُو عُبْيَدَةَ لِمُرَادِ عُمَرَ، وَعَرَفَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ.
أَمَّا الْقَائِدُ الزَّاهِدُ الصَّالِحُ أَبُو عُبْيَدَةَ فَقَدْ رَأَى أَنَّ مُرُوءَتَهُ تَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ سَلِيمًا مُعَافًى، وَيَبْقَى جَيْشُهُ الَّذِي طَالَمَا قَاتَلَ وَجَاهَدَ مَعَهُ تَتَخَطَّفُهُ الْأَمْرَاضُ، وَيَفْتِكُ بِهِ الْوَبَاءُ.
فَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: "إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ، وَإِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي رَغْبَةً عَنْهُمْ، فَلَسْتُ أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيهِمْ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، فَخَلِّنِي مِنْ عَزْمَتِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَعْنِي فِي جُنْدِي".
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ كِتَابَ أَبِي عُبْيَدَةَ، خَنَقَتْهُ عَبَرَاتُهُ، ثُمَّ تَبِعَتْهَا دَمَعَاتُهُ، فَفَزِعَ النَّاسُ، وَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَمَاتَ أَبُو عُبْيَدَةَ؟! فَقَالَ عُمَرُ: لَا، وَكَأَنْ قَدْ.
وَحَصَلَ مَا كَانَ يَخْشَاهُ الْفَارُوقُ، فَأُصِيبَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبْيَدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالطَّاعُونِ، وَمَاتَ فِي إِثْرِ ذَلِكَ، وَحَزِنَتْ عَلَيْهِ النَّاسُ وَخَلِيفَتُهُمْ حُزْنًا شَدِيدًا طَوِيلًا، وَكَانَ الْفَارُوقُ يَقُولُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: لَوْ كَانَ أَبُو عُبْيَدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ بَعْدِي، وَلَمَا جَعَلْتُهَا شُورَى.
وَاسْتَخْلَفَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْدَ أَبِي عُبْيَدَةَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، الْعَالِمَ الشَّابَّ، أَعْلَمَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
فَخَطَبَ بِأَهْلِ الشَّامِ فِي هَذِهِ الْمَأْسَاةِ خُطْبَةً بَلِيغَةً مُؤَثِّرَةً، ذَكَّرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِالدِّينِ، وَعَدَمِ التَّأَسُّفِ عَلَى الْحَيَاةِ.
وَكَانَ مِنْ دُرَرِهِ الَّتِي قَالَهَا فِي مَقَامِهِ ذَاكَ: "يَأْتِي زَمَانٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْبَاطِلُ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ عَلَى دِينٍ، وَيُمْسِي عَلَى آخَرَ. وَيَقُولُ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ لَا أَدْرِي مَا أَنَا؟! لَا يَعِيشُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا يَمُوتُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيُعْطَى الرَّجُلُ مِنَ الْمَالِ -مِنْ مَالِ اللَّهِ- عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ الزُّورِ الَّذِي يُسْخِطُ اللَّهَ".
وَقَالَ أَيْضًا: "إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ".
فَانْتَقَلَ الْوَبَاءُ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ بَيْتِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، ثُمَّ سَرَتِ الْعَدْوَى إِلَيْهِ، وَلَمْ يَدُمْ طَوِيلًا، فَلَقِيَ رَبَّهُ فِي إِثْرِ ذَلِكَ، وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَحِينَ أَرَادَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- لِلْغُمَّةِ أَنْ تَنْقَشِعَ، وَلِلْوَبَاءِ أَنْ يَنْكَشِفَ، هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، فَكَانَتْ نِهَايَةُ هَذَا الْمَرَضِ بَعْدَ إِرَادَةِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَى يَدِ الدَّاهِيَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحِينَ تَوَلَّى أَمْرَ الشَّامِ بَعْدَ مُعَاذٍ رَأَى أَنَّ هَذَا الْمَرَضَ يَشْتَعِلُ وَيَنْتَشِرُ حَالَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ، فَأَصْدَرَ أَمْرَهُ بِأَنْ يَهْجُرَ النَّاسُ الْمُدُنَ، وَيَتَفَرَّقُوا فِي الْجِبَالِ وَالْمَنَاطِقِ الْمُرْتَفِعَةِ.
فَبَلَغَ عُمَرَ مَا صَنَعَ عَمْرٌو، فَأَعْجَبَهُ فِعْلُهُ وَمَا كَرِهَهُ، وَمَا هِيَ إِلَّا شُهُورٌ وَأَيَّامٌ، إِلَّا وَقَدِ ارْتَفَعَ الْبَلَاءُ، وَانْتَهَتِ الْعَدْوَى، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ بَعْدَ أَيَّامِ الْمَوْتِ، وَمَأْسَاةٍ غَائِرَةٍ لَا تُنْسَى.
ذَلِكَ -عِبَادَ اللَّهِ- شَيْءٌ مِنْ خَبَرِ هَذَا الطَّاعُونِ، وَطَرَفٌ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِيهِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِبْرَةٌ لِخَلَفِهَا؛ فَقَدْ عَلَّمَتْنَا مَوَاقِفُ السَّلَفِ وَأَحَوْالُهُمْ مَعَ هَذَا الْوَبَاءِ دُرُوسًا وَعِبَرًا، مِنْهَا:
الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَقْتَ الْمَصَائِبِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهِ، وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِهِ، وَالِاسْتِيقَانُ التَّامُّ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِلضُّرِّ وَلَا رَافِعَ لِلْبَأْسِ إِلَّا رَبُّ النَّاسِ.
وَمِنْ دُرُوسِهِمْ أَيْضًا: الصَّبْرُ عَلَى أَلَمِ الْمَوَاجِعِ، وَالتَّصَبُّرُ عَلَى لَأْوَائِهَا؛ احْتِسَابًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ؛ وَلِذَا كَانَ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَقْبِلُونَ هَذَا الطَّاعُونَ بِنُفُوسٍ رَاضِيَةٍ؛ لِيَقِينِهِمْ بِأَجْرِ الشَّهَادَةِ فِيهِ، كَيْفَ لَا وَقَدْ سَمِعُوا نَبِيَّهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ عَلَيْهِ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ".
وَمِنْ دُرُوسِهِمْ أَيْضًا: الْفِرَارُ مِنَ الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ، وَفِعْلُ الْأَسْبَابِ الْمُنْجِيَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَنَّ قَدَرَ الْخَوْفِ يُسْتَدْفَعُ بِقَدَرِ الْأَمْنِ؛ وَلِذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَنْعِ الذَّهَابِ إِلَى الْمَنَاطِقِ الْمَوْبُوءَةِ، وَمَنْعِ الْخُرُوجِ مِنْهَا لِمَنْ كَانَ فِيهَا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي عَصْرِنَا بِالْحَجْرِ الصِّحِّيِّ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ الْفِقْهِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْقُنُوتُ فِي الطَّوَاعِينِ؛ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمُ الْقُنُوتُ فِي مِثْلِ هَذِهِ النَّازِلَةِ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِهَا وَشِدَّةِ مَأْسَاتِهَا.
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ مَعَ هَذَا الْحَدَثِ: أَنَّ الْخِلَافَ يَكُونُ سَائِغًا، وَيَتَأَكَّدُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا، فَلِكُلِّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ.
أَمَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّصُّ وَعُلِمَ، فَالْوَاجِبُ الِامْتِثَالُ لَهُ، وَعَدَمُ التَّعَذُّرِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ.
فَهَذَا أَبُو عُبْيَدَةَ كَانَ لَهُ رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي رُجُوعِ عُمَرَ، مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُ فِرَارٌ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّصُّ مِنَ الْمَعْصُومِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْتَثَلَ وَاسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ دُرُوسِ الْمَأْسَاةِ أَيْضًا: أَنَّ الْمِحْنَةَ وَالْبَلَاءَ لَا تُجْعَلُ سَبَبًا لِعِصْيَانِ اللَّهِ، بِالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ؛ طَلَبًا لِلِاسْتِشْفَاءِ، أَوْ سَبِّ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَلَعْنِهَا، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ سَبِّ الْأَقْدَارِ، أَوِ التَّسَخُّطِ وَالْجَزَعِ مِنْهَا، فَهَذَا يُنَافِي الْإِيمَانَ، وَمَقَامَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْخَلِيفَةُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنْ صَبَرْتَ جَرَتْ عَلَيْكَ الْمَقَادِيرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزَعْتَ جَرَتْ عَلَيْكَ الْمَقَادِيرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ".
عِبَادَ اللَّهِ: صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي