1/أهمية الذكر وفضله 2/أهمية "لا حول ولا قوة إلا الله"3/معنى "لا حول ولا قوة إلا الله" 4/مواطن ذكر "لا حول ولا قوة إلا بالله" 5/فضائل "لا حول ولا قوة إلا الله" 6/حاجة العبد لربه وافتقاره إليه 7/بعض صفات المتقين7/المقصود بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا( 8/ الإكثار من ذكر الله
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلا ووهما، الباطن تقدسا لا عدماً، وسع كل شيء رحمةً و علماً، وأسبغ على أوليائه نعما عماً، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً وعجماً، وأزكاهم محتداً ومنمى، وأرجحهم عقلاً وحلماً، وأوفرهم علماً وفهماً، وأقواهم يقيناً وعزماً، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، وزكاه روحاً وجسماً، وحاشاه عيباً ووصماً، وآتاه حكمة وحكماً، وفتح به أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، فآمن به وعزره، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسماً، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو وتنمى، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر الصالحين: نواصل التطواف في رياض الذكر، حيث الإنس واليمن والبركة، حيث الأمن والإيمان والارتقاء، وحيث السكينة والنقاء، وحيث السعادة والزيادة والنماء، إلى منازل الأحباب نسير، وإلى رياض الأصفياء نطير، حيث نشر الذاكرون رواقهم ينبعث منه النور، ويحفه السرور، نقوي بالذكر النفوس التي ضعفت، ونتخلص به من الذنوب التي عمت، ونخرج به من حالة الحيرة والاضطراب، ونحصل من خلاله الإنس في عالم الاغتراب.
نتزين ب"سبحان الله"، ونتزي ب"الحمد لله"، ونتعلق بـ "لا إله إلا الله"، ونستعين ب"لا حول ولا قوة إلا بالله".
نكبر مولانا ونمجده، ونثني عليه ونحمده، ونحن بين هذا الذكر وذاك، نتقلب في رياض نضرة، ونقف على مواعظ مؤثرة، نأخذ من الزمان أجمل أوقاته، ونستعمل اللسان في أفضل حركاته وهمساته، ونسرح بالقلب في أرقى ميادين مناجاته، وتلكم –والله- الكياسة والفهم والرشد، والعزم والغنم، وغير ذلك ضياع وانفراط وغرم.
فيا فوز عبد عرف ذكر ربه، قد اطمأن قلبه: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
ويا خسارة من أغفل قلبه عن ذكر مولاه، قد انفرط أمره: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28].
معاشر الكرام: نتحدث اليوم عن ذكر جميل، وكلام جليل، قليل المبنى، عظيم المعنى، فيه من التوحيد والإجلال والتوقير للرب المتعال، وفيه من التوكل والاستعانة بالله -سبحانه- ما يريح البال، ويغير الأحوال.
إنها كلمة، لكنها من تحت العرش، وغرس وباب، لكن من غراس الجنة وأبوابها، وهي كنز لكنها من كنوز الجنة، إنها: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
هذه الكلمة، وذلكم الذكر العظيم الذي أوصى به سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من خمسة من أصحابه، بأحاديث متفرقة، وحثهم على الإكثار منه، فقد قال صلى الله عليه وسلم يوما لعبد الله بن قيس -رضي الله عنه-: "يا عبد الله بن قيس" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة؟" قلت: بلى يا رسول الله، فداك أبي وأمي، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" [رواه البخاري ومسلم].
وعن حازم بن حرملة قال: "مررت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاني، فقال: "ألا دلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" [رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
وهذا صحابي ثالث يوصيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ فعن قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أن أباه دفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمه، قال: فمر بي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد صليت، فضربني برجله، وقال: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟" قلت: بلى، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" [أخرجه الترمذي].
وعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: "أمرني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني ألا أسأل أحد شيئا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فإنهن من كنز تحت العرش" [رواه الحاكم وإسناده صحيح].
وتأملوا -رعاكم الله-: أن آخر الوصايا السبع وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، بالإكثار من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" ليشعره بأنه لا سبيل له إلى تحقيق الوصايا الست السابقة، من حب المساكين، وصلة الأرحام، وقول الحق، وغيرها، إلا بتوفيق الله وإعانته ومدده.
وهذا من معاني: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
قال الإمام النووي - رحمه الله -: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله -تعالى- واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر.
ومعنى الكنز هنا: أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس؛ كما أن الكنز أنفس أموالكم.
وقال أيضا: "هي كلمة استسلام وتفويض، وأن العبد لا يملك من أمره شيئا، وليس له حيلة في دفع شر، ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله –تعالى-".
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس، وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزا من كنوز الجنة، فأوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من كنز تحت العرش".
وقال ابن رجب -رحمه الله-: "فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك، إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
كلمة استعانة وتوكل، ولذا نجد الشرع أوصى بذكرها في مواضع الاستعانة بالله -سبحانه وتعالى-، فعندما تسمع الأذان، وتسمع: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" أي لا قوة لي، ولا قدرة لي، على الاستجابة لهذا النداء، إلا بإعانة الله وتوفيقه.
وهنا يبشرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببشرى عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله؛ من قلبه دخل الجنة"[رواه مسلم].
واغلبنا يغلب عن هذا الفضل العظيم، ونسأل الله أن يغلبنا على هذا الزمن، زمن الفتن والمشغولات والصوارف والملهيات.
أيها الأحباب الكرم: إذا خرج الرجل من بيته، فهو مدعو للاستعانة بالله، وهذا الذكر: "لا حول ولا قوة إلا بالله" له تأثير عجيب في حفظ المسلم؛ فعن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا خرج الرجل من بيته، فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال حينئذ: هديت ووقيت وكفيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟" [رواه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني].
وهذه الكلمة العظيمة من أسباب استجابة الدعاء؛ فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تعار من الله -يعني استيقظ فجأة- فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ثم قال: "اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته"[رواه البخاري].
ثم إنها سبب في مغفرة الذنوب، وإن كانت كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض أحد يقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" إلا كفرت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وهي -أيها الأحباب-: من الباقيات الصالحات التي قال الله عنها: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير والتهليل، والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال.
ولها أيضا تأثير عجيب في دفع الفقر".
ولها تأثير عجيب في دفع الشياطين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذه الكلمة بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الدرجات".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، يذكر أثرا في هذا الباب، يقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش استعظموا ذلك، فقال الله لهم: قولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فلما قالوها حملوه".
يقول ابن القيم: "ولقد لمست أثرها شخصيا في كثير من المواقف في عملي وحياتي الخاصة".
وهذه الكلمة هي كلمة استعانة لا كلمة استرجاع، وقد جرت عادة الناس أن يقولوها عند سماع فاجعة، أو خبر مفزع، أو عند رؤية ما يكرونه، قال شيخ الإسلام: "هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع ويقولها جزعا لا صبرا".
قال أهل العلم: "ليست هذه الكلمة كلمة استرجاع، كما يفعله كثير من الناس إذا قيل له: حصلت المصيبة الفلانية، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ولكن كلمة الاسترجاع أن يقول: "إنا لله وإن إليه راجعون" أما هذه الكلمة فهي كلمة استعانة إذا أردت أن يعينك الله على شيء، فقل: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
أيها الأحباب: إنه لا سبيل لنا إلى طاعة الله إلا بعون الله وتوفيق الله، وما أقل الموفقين في زمن الفتن والشبهات والشهوات، قال بعض أهل العلم: "ذكر الله التوفيق في القرآن مرة واحدة في قوله تعالى: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88] قالوا: وذلك لقلة الموفقين".
نسأل الله أن يجعلنا منهم.
وقالوا: "أفضل ما يصعد من الأرض إلى السماء الإخلاص، وأفضل ما ينزل من السماء إلى الأرض التوفيق".
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله مسدي الإحسان، وفاتق اللسان بالبيان، يوفق لذكره أهل الاجتباء، ويختص برحمته من يشاء، نحمده على ما خصنا به من صنوف نعمائه، والإبانة من وحدانيته وأوّليّته، والدلالة على ربوبيته وأزليّته.
والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي، المرسل باللسان العربي، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سعدوا بقربه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.
أيها الأحباب الكرام: إن فضل هذا الذكر عظيم، ولا يظنن أحد -أيها الأحباب-: أنه في غنى عن توفيق الله ومدده، فما الأمر إلا بستره، ووالله ثم والله لو رفع الله عن العبد ستره طرفة عين ما قابلته أرض ولا سماء.
لذا، فإن أهل النجابة وأصحاب المعرفة الذين كشف الله لهم المعارف، فصاروا ينظرون بعيون بصائرهم؛ ليجدون في هذا الذكر قمة لذتهم: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
ما أجمله من ذكر، يقوله الصالح وهو يعترف لربه أنه لا قوة له على الاستمرار على الطاعة إلا بمدد ربه وعونه، ويقوله المفرط -وكلنا ذلك الرجل- وهو يرجو ربه أن يعينه، ويعترف له أنه عاجز عن الخروج من تفريطه إلا أن يعينه ربه، ويقوله العاصي الذي ألمته به الذنوب، واحتوشته العيوب، وهو يستعين الله على نفسه المخطئة العاصية المتمردة، يقوله المريض والمكروب والمهموم، والملهوف والفقير، والمطرود والمطارد.
أيها الأحباب: إن الإنسان إذا وكل إلى نفسه، وكل إلى ضياع وانهزام وانفراط وبوار.
وإن العبد إذا انقطع عنه مدد ربه ضل وذل، وكل ومل وقل.
لذلك، فإن لزوم هذا الذكر "لا حول ولا قوة إلا بالله" فيه استغاثة بالله، واستعانة به جل في علاه، وفيه إظهار للتذلل والعجز والفاقة.
أيها الكرام: لقد أخبرنا الله في كتابه: أن المتقين معرضون لمس الشيطان، ومكره وإغوائه، وإضلاله وإذلاله، ولكنه بين أنهم إذا تعرضوا لمحاولة شيطانية؛ لجئوا إلى رب البرية، ذاكرين متذكرين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)[الأعراف: 201].
وقرأ الكسائي وأبو عمرو وابن كثير: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ).
قال الإمام الشاطبي:
وقل طائف طيف رضى حقه ويا *** يمدون فاضمم واكسر الضم أعدلا
قال الخطيب الشربيني في السراج المنير: "أي: أصابهم (طيف) أي: شيء ألمّ بهم (من الشيطان تذكروا) عقاب الله وثوابه (فإذا هم مبصرون) الحق من غيره، فيرجعون".
ومن ثم، فلا تغتر -أخي الكريم- بالتزامك، ولا تغتر بمحافظتك على الصلوات، ولا بحجك، ولا باعتمارك، ولا بأي شيء من أعمالك، ولكن الجأ إلى ربك، وتضرع إليه، وابك عليه، وقل كما كان يردد المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
فرب لحظة واحدة يرفع فيها عنك الغطاء تذل فيها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وأكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فإذا كان هذا المتقي الورع قد يمسه طائف من الشيطان، فما بال من دونه، كيف يكون حال من لا يحضر الجماعات؟ وما بال من لا يعرف صحبة الأخيار؟
فلا شك أن هؤلاء على خطر عظيم: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)[الأعراف: 201].
إن شأن المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، وهذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم من عوام الناس ودهمائهم، الفرق هو أن المتقين إذا زلوا أو اخطئوا أو وقعوا تذكروا ورجعوا، إنهم لا يستمرون في المعصية والخطأ، بل بمجرد التذكر يكون الرجوع والإنابة والاستغفار.
أما غيرهم -فالله المستعان- يعبون من الحرام، وكأنهم يشربون كأس الماء البارد في حر الصيف، لا يبالون بذنب، ولا يبكون على خطيئة، يأكلون الربا ويستمرئونها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية".
يغدرون ويخنون ويظلمون ويتجبرون ولا يبالون!..
ليس المتقي ذلك الذي لا يخطأ، ولا يزل أبداً، لكن المتقي من إذا زل رجع، وإذا أخطأ تذكر.
أما غيرهم فإنهم يعصون ولا يرجعون ولا يتوبون.
أيها الأحباب: إن مس الشيطان عمى، والتذكر والرجوع إلى الله إبصار، إن مس الشيطان ظلمه، والاتجاه إلى الله نور، إن مس الشيطان فتور ونكوص وقعود عن العمل، والتذكر عزم وجد واجتهاد وعمل.
إن مس الشيطان نهى عن المعروف وأمر بالمنكر، والتذكر أمر بمعروف ونهي عن منكر.
إن مس الشيطان إيذاء للمؤمنين، ومحاربة للأولياء المتقين، والتذكر نصرة للمؤمنين ودعوة وجهاد وبذل في سبيل رب العالمين
. إن مس الشيطان مقاومة لدينه، وملاحقة لأتباعه، والتذكر نشر لدينه وبذل في سبيله، وتحمل من أجله وانتظار لثوابه وغفرانه. إن
مس الشيطان تخويف وتثبيط وتيئيس، والتذكر إقدام وشجاعة وثقة بالله.
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ)[الأعراف: 201].
ما معنى: (طَائِفٌ)؟
الطوف والطواف والطيف بالشيء هو الاستدارة.
وفي هذا إشارة: إلى أن الشيطان سواء كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس يدور ويطوف حول هذا المتقي، وحول هذا المؤمن سواء كان فرداً أو كان مجتمعاً، ليجد منسماً ينفذ من خلا له؛ لأن المؤمن فرداً كان أو مجتمعاً أبوابه ليست كلها مفتحة بل الأغلب عليها الأقفال؛ لأنه مؤمن ومتقي، لكن الشيطان يشم قلب المؤمن، ويتعرف على مواطن الضعف فيه ويطوف حوله، ويدرس جميع الجهات والجوانب، حتى يجد مدخلاً ولو صغيراً فيدخل، فإذا دخل صار أيضاً يطوف في قلب المؤمن، وأيضاً في قلب المجتمع الذي يمكن أن نسميه، دراسة لأحوال لمجتمع فينظر أو قل فينظرون ماذا يناسب من وسائل الشر والفساد والرذيلة فينشر في وقته المناسب؛ بدءوا بنشر الدخان، وانتهى بالمخدرات، ولا ندري ماذا يكون بعده.
بدءوا بالشاشة الصغيرة، واغلبه كما يقال برامج دينية أو علمية، وانتهينا بعده بالدشوش التي يعرض فيها الزنا علانية أمام الصغار والكبار والنساء، وقل مثل ذلك في النواحي الاجتماعية والعادات، والأخلاق، والتعاملات المالية وغيرها، تبدأ باليسير حتى تصل إلى العظائم، إذن هي عملية -طائف من الشيطان- ودوران حول الفرد والمجتمع، ودراسة وتخطيط، ثم تنفيذ وعمل.
ثامنا: طائف من الشيطان لا ينحصر في لون، فقد يكون فعل معصية، وقد يكون ترك واجب، وقد يكون عداوات بين المسلمين، وقد يكون بأن يزين الشيطان لأصحاب الملل والنحل تحقير المخالفين، ويصور لهم طريقاً إلى الحرص على طلب العلم وحب أهله –زعموا – ثم يبدءون بتخطئة مخالفيهم بل وتبديعهم حتى ولو كانوا علماء أجلاء، وينقضي عمر ابن آدم وهو في بحر الأماني يسبح، وفي سبيل الغواية يخوض -يعده الشيطان ويمنيه المحال- والنفس ضعيفة تتغذى بوعده، وتتلذذ بأباطيله، ويفرحون كما يفرح الصبيان، لو أوذي هذا أو قطع رزق هذا، أو ضيق على أطفال هذا والله المستعان.
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ)
تذكروا ماذا؟
قيل: تذكروا أن هذا من عدوهم الشيطان.
وقيل: تذكروا ما أمر الله به وما نهى عنه.
وقيل: تذكروا عقاب الله لمن عصاه، وثوابه لمن أطاعه.
وقيل: تذكروا وعده ووعيده.
والصحيح: أن الآية تعمها كلها وغيرها، كما تفيده قاعدة حذف المفعول.
ثم إن الآية واضحة الدلالة على تنازع دواعي الخير والشر في نفس الإنسان، وانك أخي المسلم دائماً في صراع مع نفسك ومع الشيطان سواء جنيا أو إنسياً، وإن هذه المعركة لا تنتهي إلا بموت أحدكما، والشيطان قد كتب له الخلود إلى يوم يبعثون فما بقي إلا أنت.
فتأهب -أخي المسلم- لهذه المعركة، وكن على استعداد وحذر، وابحث عن جنود صالحين يصفون تحت رايتك في هذه المعركة، ويعينونك على نفسك وعلى شيطانك، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً: (لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)[الأنفال: 42].
فيا غافلا عن الذكر ما أبعدك! ويا مشغولا عن ربه ما أصرفك! أتبعد عن منازل الأحباب، وقد عرفت فضلهم، وتجاوزهم إلى غيرهم، أما تحن لهم؟! أما ترى نعم ربك عليك في الحركات والسكنات والخلجات والخطرات؟ رعاك جنينا، ورباك سنين، وأعطاك مالا وبنين، فكيف تغفل عمن لا يغفل عنك؟ وكيف تنسى من لا ينساك؟!
فاذكر الله ولا تعجل، وداوم ولا تمل، وعليك ب"لا حول ولا قوة إلا بالله" ولا تجهل.
وإذا رأيت من نفسك خيرا فاحمد ربك واسأله التوفيق والمدد، وإن رأيت في غيرك الإساءة فلا تشمت، واسأله الرشد، واجعل نصب عينيك قول ربك: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ)[فاطر: 45].
تناولوا كؤوس الدمع يتجرعون، فلو رأيتهم في طريق الخضوع يتضرعون والقوم يقلقون ويضرعون في ستر عيوبهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
يعتذرون من زلل القدم، ويتمنون بعد الوجود العدم، وقد بعثوا رسالة الندم مع مندوبهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
قلبتهم الأشجان، وغيرتهم الأحزان، ينزعجون لما قد كان من سالف ذنوبهم : (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
أما الليل فسهارى، وأما النهار فأسارى، وكأنهم بالمحبة سكارى في شروقهم وغروبهم(يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
فانبته لعيوبك، وابك على ذنوبك، تنجو من خطوبك، وتشرب من مشروبهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191].
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي