إن المؤمن هو الأعلى!. هو الأعلى سندا ومصدرا، هو الأعلى ضميرا وشعورا وخلقا وسلوكا، هو الأعلى شريعة ومنهاجا، نعم، هو الأعلى سندا ومصدرا، فماذا تكون الأرض كلها؟! وماذا تكون هذه الدول والقيم السائدة في الأرض! أمام من كان من الله يلتقي، واليه يرجع، وعلى منهجه يسير، ماذا تكون هذه كلها أمام من...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، نستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضــل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له، وأن محــمدا عبد ورسوله.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَـــاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِـــيباً) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْـلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
آية أنزلها الله على عبــاده المؤمنين يوم أحد سلوانا لما أصابهم، تخفيفا لما أصابهم من قتل وهزيمة في الظاهر: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتم مُّؤْمِنِينَ).
لا يصيبكم الوهن في أبدانكم، ولا الحزن في قلوبكــم؛ لأنكم الأعلون بإيمانكم؛ لأنكم الأعلون بتوحيدكم، لأنكم الأعلون بعقيدتكم.
إنـــه الاستعلاء بالإيمان، الاستعلاء بالإيمان على قوى الأرض الحـائدة عن منهج الإيمان.
الاستعلاء على قيم الأرض التي لم تنبثق مـن أصل الإيــمان.
الاستعلاء على تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمـــان.
الاستعلاء على قوانين الأرض التي لم يشرّعها الإيمـــان.
إنه الاستعلاء مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفــقر المال والهزيمة في الظاهر[استعلاء الإيمان؛ لسيد قطب -رحمه الله- من كتاب "معالم في الطريق"].
يأمرهم ربهم مع ذلك بالاستـعلاء بالإيمان: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
آية سمعها خبيب بن عدي -رضي الله عنه- فصاغها موقفا يذكر إلى يوم القيامة، أسره المشركون وجعلوه على خشبة ليصلبوه، فقال: دعوني أركع ركعتين، فلما سلم، قال: والله لولا أن تقولوا أني أصلي جزعا من الموت لزدت منها، فقال له أحدهم: أيسرك أن محمدا عندنا تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: لا، والله ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
فقال رضي الله عنه مستعليا بإيمانه:
وما بي حذار الموت إنـــي لميت *** وإني إلى ربي إيابي ومرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ *** يبارك على أوصال شلو ممـــزع
فلست بمبد للعدو تخشعـــا *** ولا جزعا إني إلى الله مرجعـي
ولا جزعا إني إلى الله مرجعـي[زاد المعاد 3/219 ـ220].
لم يبد ويظهر أي جزع أو تخشع، كل ذلك استعلاء بإيمانه ـرضي الله عنه: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
تنزل هذه يوم الأحد على الصحابة وهم في وهن وحزن مما جرى بهم، ومع ذلك يأمر الله -سبحانه- بعدم الوهن والحزن لأنهم الأعلون بأيمانهم.
وما أشبه الليلة بالبارحة، تجتمع فلول الصهاينة والصليبين على ديار المسلمين؛ ففي العراق لهم موطئ، وفي فلسطين لهم موطئ، وفي الأفغان لهم موطئ، وفي الشيشان والصومال لهم موطئ، ومع ذلك يتصدى لهم رجال أشاوس قليلوا العدة والعدد والسلاح؛ ليثبتوا للعالم أنه لا علو إلا بالإيمان: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
إن المؤمن هو الأعلى!.
هو الأعلى سندا ومصدرا، هو الأعلى ضميرا وشعورا وخلقا وسلوكا، هو الأعلى شريعة ومنهاجا، نعم، هو الأعلى سندا ومصدرا، فماذا تكون الأرض كلها؟! وماذا تكون هذه الدول والقيم السائدة في الأرض! أمام من كان من الله يلتقي، واليه يرجع، وعلى منهجه يسير، ماذا تكون هذه كلها أمام من كان وليه الله: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 257][انظر: استعلاء الإيمان لسيد قطب -رحمه الله-].
إن المؤمن هو العلى ضميرا وشعورا، وخلقا وسلوكا؛ لأن إيمانه بالله -سبحانه وتعالى- جعله متنزها عن الخسة والرذيلة، مرتفعا عن الصفات والأخلاق المشينة: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش، ولا البذيء"[رواه الترمذي عن ابن مسعود، وصححه الألباني].
كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أن المؤمن هو الأعلى شعورا وضميرا؛ لأن إيمانه يجعله محبا الخير للناس، مريدا نفعهم في دينهم ودنياهم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[رواه البخاري ومسلم].
إن المؤمن هو الأعلى شريعة ومنهاجا؛ لأن مورده الذي يرد منه، موردا صافيا، ليس فيه شوب أو نقص، إنه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله علي وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".
إن المؤمن يجد رسوخا ويقينا في قلبه بكمال شريعته، واكتمال منهجه، ومن أجل ذلك إذا قاس شرائع الناس وقوانينهم وأعرافهم إلى شريعته وجدانها أمام شريعته الناضجة، ومنهجه الكامل كمحاولات الأطفال، وخبط العميان: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
إن المسلمين الأوائل وقفوا أمام المظاهر الجوفاء، وقوى الباطل المنتفخة، وقفوا أمامها موقف المؤمن المستعلي بدينه، الواثق بربه -سبحانه وتعالى-، أرسل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ربعي بن عامر -رضي الله عنه- إلى رستم -قائد الجيوش الفارسية- فدخل عليه قد زينوا مجلسه بالوسائد والبسط والحرير، فدخل ومعه سلاحه وبيضته على رأسه راكبا على فرس قصيرة فجعل يمشي وهو يخرق الوسائد بحربته حتى جاء أمام رستم وربط الفرس بإحدى الوسائد، فقال له رستم: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيقة الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
إن المؤمن الصادق لا يفارقه شعور بأنه الأعلى ومهما تبدلت الأحوال، وتغيرت الظروف، فلا يفارقه الشعور بأنه الأعلى، مهما كانت الغلبة والدولة للباطل فلا يفارقه الشعور بأنه الأعلى، مهما ضج الباطل وصخب، وارتفع صوته وريشه انتفش، فلا يفارقه الشعور بأنه الأعلى، وأن غلبة الباطل فترة وجيزة وتمضي، وأن للإيمان كرة لا مفر منها، وإنما دولة الباطل من المتاع القليل.
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196- 197].
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
مهام غرق المجتمع في الشهوات، وتلبس بلباس الملذات والمغريات، كان المؤمن في شغل عنه بطاعة رب البريات -سبحانه وتعالى-، كان المؤمن في شغل بطاعة الله، وعلى يقين بوعد الله له: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
مهما ضحك الضاحكون، واستهزئ المستهزئون، وسخر الساخرون، كان المؤمن على يقين أن نهايته ونهايتهم متمثلة في قول رب العالمين: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين:29- 36].
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وجعلني الله وإياكم من المؤمنين الصادقين، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب عظيم، وتجاوز كثير، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه احمده -تعالى- على عظيم فضله، وأشكره على جزيل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى مغفرته ورضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بع:
فيا أيها المؤمنون: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
إن علو المؤمن واستعلاءه بإيمانه ينبثق من يقينه بعلو دينه، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه[ورد في حديث رواه الدار قطني].
ومن لم يؤمن فجزاؤه الاستعلاء عليه: "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق؛ فاضطروه إلى أضيقه"[رواه مسلم].
فهذا جزاء من لم يؤمن أن يستعلى عليه، وأن يرغم إلى أضيق الطرق.
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
إن علو المؤمن واستعلاءه بإيمانه لا يجعل ذلك متكبرا على الخلق، متصفا بالعجرفة والبطر، بل إنه مع علوه بدينه ينظر إلى الناس نظر رحمة وعطف، ونظر رغبة في هديتهم إلى الخير، ورفعهم إلى الأفق والعلو الذي يعيش فيه، إن المؤمن لا ينسى قول ربه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
إن المؤمن لا ينسى قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدى الله بك رجلا واحدا؛ خير لك من أن يكون لك حمر النعم".
إن المؤمن يسعى دائما لهداية الناس، وحثهم على الطاعة والخير والفلاح، وإن المؤمن كالغيث، أينما حط رحاله نفع وانتفع الناس منه، فتجده من أحرص الناس على نفع الناس في أمور دينهم ودنياهم، فخير الناس أنفعهم للناس، كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إن المؤمن! باختصار -أيها المؤمنون- يراقب الله -عز وجل- في كل صغيرة وكبيرة، فكل أمر! أو قول! أو فعل! يعلم أنه يرضي الله فهو من السابقين إليه.
وكل أمر! أو قول! أو فعل! يعلم أنه يسخط الله فهو من السابقين عنه، لعلمه أنه موقوف بين يدي ربه -سبحانه وتعالى-، وأنه مجازى على كل صغير وكبير!.
(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم: 39-43].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي