العظة دواءٌ للغفلة، والنصيحة توقظ من الكبوة، من ظنَّ أنه غنيٌّ عن التذكير، فقد قتل نفسه بنفسه، والمترفع عن النصيحة يقود نفسه إلى كل نقيصة، لو استغنى أحد عن النصح والموعظة لكان أولى من يستغني عنها الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، لكنهم أدركوا أهميتها فطلبوها بصريح العبارة، طلبوها مطولة ومختصرة، لأنها حياتهم، وبها تقويم ما اعوج من سلوكهم، فكثُر في كلامهم: "أوصنا يا رسول الله".
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
حينما تكثر الصوارف، يتأكد التذكير، وحين ينشغل الناس بما خُلق لهم، يحتاجون من يردهم إلى خالقهم.
العظة دواءٌ للغفلة، والنصيحة توقظ من الكبوة، من ظنَّ أنه غنيٌّ عن التذكير، فقد قتل نفسه بنفسه، والمترفع عن النصيحة يقود نفسه إلى كل نقيصة، لو استغنى أحد عن النصح والموعظة لكان أولى من يستغني عنها الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، لكنهم أدركوا أهميتها فطلبوها بصريح العبارة، طلبوها مطولة ومختصرة، لأنها حياتهم، وبها تقويم ما اعوج من سلوكهم، فكثُر في كلامهم: "أوصنا يا رسول الله".
أيها الإخـوة: وقفات ثلاث مع عظات ثلاث، وعظ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من أصحابه؛ ففي مسند الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي أيوب -رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله: عظني وأوجز"؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قمت في صلاتك، فصلّ صــلاة المـُوَدِّع، ولا تَكَلَّم بكلام تعتذر منه غدًا، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس".
"إذا قمت في صلاتك"، أي شرعت فيها وقلت: الله أكبر، مؤذناً الدخول في الصلاة نفلها أو فرضها، "فَصَلِّ صــلاة المـُــوَدِّع"، أي قد انقطعت علاقته بكل شيء، فقد وَدَّع هواه وما تنازعه نفسه عليه، وَدَّع الدنيا بزهرتها وبهجتها، فلا همَّ له في ولد ولا زوجة، يظن أن هذه آخر صلاة له في الدنيا، فإن صلى صلاة الفجر، فقد لا تأتي صلاة الظهر إلا وهو في عِداد أهل الآخرة، وإن صلى صلاة الظهر، فقد تأتي صلاة العصر وهو ليس من أهل الدنيا، هذه صلاة المـُـــــوَدِّع فما ظنك بها!! ما ظنك بها!! هل تراه سوف يأتي إليها متأخراً، فهو لم ينهض من مجلسه لأنه ينتظر الإقامة، ثم إذا أقيمت الصلاة بدأ يسحب نفسه، يخطو بخطًا متثاقلة، ونفس متشاغلة، تقرأ في صورته قول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى).
من سوف يصلي صلاة المـُـــــوَدِّع ستكون الصلاة له همّاً قلبياً، وخاطراً إيمانياً، فهو يرقب وقتها كما يرقب قادماً قد شغفه حبه.
صلاة الموَدِّع، تكون بكمال الخشوع، وقوة الصلة بالله، وفي حديث حسن: "صلِّ صلاة المـُـــــوَدِّع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك".
أيها الإخوة: الصلاة أعظم الأعمال، فإذا صَلحَت صَلحَ كل شيءٍ للإنسان في الدنيا والآخرة، وفي أجواء الفتن التي نعيشها، وشدة الحاجة والأزمات، لا يحتاجُ الإنسان -إن كان مُتقِناً لصلاته- لغير الله، وبفضل الله يكون الفرج، وقال تعالى: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ).
الصلاة -يا عباد الله- إذا زيَّنها الخشوع، وترسخ في أقوالها وأفعالها الذُل والانكسار، والتعظيم والمحبة والوقار، نهت الصلاة حينئذ صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فيستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتنعدم رغبته في الشر.
بالخشوع يزداد إقبال المصلي على ربه فيكون اقتراب ربه منه، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي -رحمهم الله تعالى- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال الله -عز وجل- مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صَرَف وجهه، انصرف عنه".
فالخشـــوع -يا عبـاد الله- الخشوع أمرٌ عظيم شأنه، سريعٌ فقده، نادرٌ وجوده، خصوصاً في زماننا وحاضرنا، وحرمان الخشوع من أكبر المصائب، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من هذه الحال بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع".
وإن ما أصاب بعض المسلمين من ضعف في أخلاقهم، وانحراف في سلوكهم، وعصبية في مزاجهم، إلا لأن الصلاة غدت جثة من غير روح، غدت حركات مجردة بلا تَفَكر، ففي الطبراني وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً"، قال الصحابي الجليل حذيفة -رضي الله تعالى عنه-: "أولُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبَّ مصلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعاً".
أيها الإخوة: الوصية الثانية؛ أعظِم بها!! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَكَلَم بكلمة تعتذر منها غداً"، أي تتعذر بسببها مما قيلت له، وإنها وصية "حفظ اللسان"، ومراقبة ما يخرج من بين الشفتين، فالكلمة التي تخشى أن تُنتَقَد عليك، أو تُتهم بعدها بشيء أنت في غنى عنه، أمسكها واحبسها حتى لا تحتاج إلى أن تسعى في ترقيعها أو الاعتذار عنها، فأنت أمير الكلمة ما لم تخرج منك، وأنت مأمورها إذا خرجت منك، وشتان بين الأمير والمأمور!!
كم من كلمة قالت لصاحبها: "دعني"، وكم من كلمة أفسدت ودّاً بين المُتصافين، وكم من كلمة انشغل صاحبها بعد قولها في توجيهها وقال: أردت كذا، يستدرك، وما هو بمستدرك، طارت بها الآفاق، وسارت بها الركبان، فأزعجت من سَمِعها، ومَقَتَها من نُقِلت إليه (ومَقْتُ الله أكبرُ من مَقْتِكُم أنْفُسِكُم).
فأنت -يا من ابتُلي بكثرة المِزاح، وهذيان الكلام، وإطلاق اللسان- رِفقاً بنفسك، فهناك ملائكةُ مُوَكَّلون: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
إن بعضَ الناس، بعض الناس تأخذهم نشوة المجلس، ولذة الحديث، وإعجاب الحاضرين، فيَسْكر من حيثُ لا يشعُر، فتارة يَنْقُدُ في كلامه، وتارةً يُؤَيد، وأخرى يُحلل، وربما أفتى أو اعترض على فتوى، وفي طور من أطواره تجده القاصَّ المُحَدِّثَ للحاضرين، وإن اقتضى المقام زيادة مكذوبة في قصة ليُضْحِك بها الحاضرين، فلا حرج عنده، والحَيْطَةُ لدينه أبعَدُ ما تكونُ في لحظاتِ سُكْرِ الحديث، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ويل للذي يُحَدِّث، فيَكْذِب، لِيُضْحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له".
أما الغِيبَة، ولحوم الناس من العامة والصالحين والأُمراء، فهي ميدانٌ رحبٌ في حديثه، وكأنه أَتى ببراءة من إثم الغِيبَة، وأنها لم تعُد من كبائر الذنوبِ في حقه: (أَطَلَعَ الغَيْبَ أم اتخَذَ عِنْدَ الرحمن عهداً * كلا سَنَكتُبُ ما يَقُولُ ونَمُدُّ لَه من العذاب مَدَّاً)، فاللهم السلامةَ والعافية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فثالث الوصايا من النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له: "عِظني"، قال له -عليه الصلاة والسلام-: "وأجمع اليأس مما في أيدي الناس".
تأديبٌ نبوي للنفوس الجَشِعة، كي تتعلق بالله في أُمُورها كُلِها، في معاشها ومعادها، فلا يطمعُ العبدُ إلا في فضل الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَليَفرحوا هُوخَيرٌ مما يَجمَعون)، فَوَطِّن نفسك -يا عبــد الله- وَطِّنها على اليأسِ مما في أيدي الناس، فإن اليأس عِصمة، ومن أَيِسَ من شيء استغنى عنه، فَقَدِّر عدم وجوده أصلاً لتقطع قلبك عن خلق الله، فتسلم من عبودية الخلق ويتفرغُ قلبُك لعبادة الخالق، فتكونُ عزيزاً وإن قلَّ مالُك، شريفاً وإن قلَّ نَسَبُك، عَظِيماً وإن ضَعُفَ حَسَبُك، وإلا فإن التعلق بالناس ذُلٌّ وسقوط وهوانٌ في الدنيا قبل الآخرة، هذا إن تعلّق بالناس لسبب مُباحٍ في أصله، فكيف من تعلق بالناس لسبب مُحَرَّم!!
فالذين يظنون الشفاء عند الرقاة والمشعوذين، والسحرة والمنجمين، ما أطول ليلَهُم، وأَتْعِس بعيشِهم!! والذين يظنون مستقبلهم عند المسؤول الفلاني، فهم إليه ينظرون، ولرضاه ينشدون، ما أسود أيامهم، وأخطر قلوبهم!! هانت عليهم كلمات النفاق، وغضوا طَرْفاً في بَذْلِ الرِشوة، وسموها خدمات وأتعابًا، فما أحكمَ الله، حيث صار بعض الناس فتنة لبعض، والله المســتعان.
فاللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَّن سواك.
أيها الإخوة: توبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، واعتصموا بدينكم لعلكم ترحمون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي