الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن والغرف المزخرفة ما لا يدركه الوصف ولا يحصيه العدّ, ولديه من البساتين الزاهرة والفواكه اللذيذة والثمار الدانية اليانعة والأطعمة الفاخرة والرياض المعجبة, والطيور المطربة, والأنهار الجارية ما يأخذ القلوب ويفرح النفوس...
الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار، ومحلاً للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، داراً لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، وداراً لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فيا عباد الله: إياكم والتسويف والتواني عن صالح الأعمال، فقد قرب الرحيل إلى دار لا ينفع فيها مال ولا بنون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
عباد الله: أسألكم وأسأل نفسيَ الخاطئة: لماذا فسدت أحوالنا، وكثرت ذنوبنا، وقست قلوبنا، وضعفت نفوسنا؟! لا شك أن مرد ذلك في بعض صوره للجهل بالعواقب، فمن عرف عِظم الجزاء أكثر من العمل، ومن علم شدة العقاب اجتنب الخلل والزلل.
عباد الله: إن مما يعين العبد في سيره إلى الله تعالى تلمُّح أجره العظيم الذي يدخره للصالحين من عباده في الجنة، وإن التفكر في هذا مما يدفع العبد ويستحثه على الإكثار من الصالحات.
وتدبر معي -أيها الحبيب- في نعيم أهل الجنة، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا جميعاً من أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن نعيم أهل الجنة نعيم يفوق الوصف، ويقصر دونه خيال أي بليغ أديب مرهف الحس والمشاعر، وأرجو أن نعلم ابتداءً أن أهل الجنة في الجنة متفاوتون في النعيم، محال أن يكون أهل الإيمان بتفاوت إيمانهم ويقينهم في درجة واحدة، بل كل ينزل منزلة ودرجة في الجنة على حسب إيمانه ويقينه في الدنيا، قال الله -جل وعلا-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:19-21]، فكما فضل الله -عز وجل- أهل الدنيا في الدنيا بالدرجات، كذلك فضل الله عز وجل أهل الآخرة بالدرجات العالية.
أيها المؤمنون: إن الحديث عن الجنة شيِّق ومحبّب إلى النفوس المؤمنة، الجنة تلك الأمنية الغالية التي يسعى إليها الساعون من المؤمنين على مر العصور، الجنة التي كانت في قلوب السلف الصالح شعلة تحركهم لضرب أعلى أمثلة البطولة في الجهاد والتضحية، الجنة تلك الغاية الكريمة التي ترنو إليها العيون الحالمة، وتهفو إليها الأرواح والنفوس المؤمنة في كل زمان ومكان يستعذبون العذاب من أجل الحصول عليها.
إنها أعظم مرغوب عند المؤمن، ودخولها والانتهاء إليها أمل يتراءى له في رحلة العمر التي تستغرق حياته كلها. وما أكثر ما كانت حافزاً إلى الخير والحق مهما كان في الطريق من المخاطر والعقبات والأشواك، بل لو كان فيها الموت المحقّق.
عباد الله: إن من أعظم نعيم أهل الجنة أنه دائم بلا انقطاع، مستمر بلا زوال، فإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ تلقتهم الملائكة, وبشرتهم بما في الجنة من النعيم المقيم بشرى لم يسمعوا بمثلها قط, فلهم في الجنة نعيم بلا بؤس, وصحة بلا سقم, وأمن بلا خوف, وحياة بلا موت، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35].
وكمال النعيم واستمراره بلا انقطاع هو ما بيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكده في الحديث الصحيح فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يُنَادِي مُنَادٍ، إِنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا" وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأسُوا أبَدًا". فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43]" [أخرجه مسلم: 2837]. ومن طريف ذلك أنهم لا ينامون؛ حتى لا يفوتهم النعيم، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله: هَلْ يَنَامُ أهْلُ الجَنَّةِ؟، قَال: "لا، النَّومُ أَخُو المَوْتِ" [أخرجه البزار برقم (3517) -كشف الأستار- وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: 1087].
أيها المسلمون: إن الله -تبارك وتعالى- يكرم أولياءه في الجنة بملك كبير من الجنان والقصور والخدم, تعظمهم الخدم, ولا تدخل الملائكة عليهم إلا بإذن, وكل أهل الجنة ملوك, لأنهم كانوا في الدنيا عبيداً للملك, فلما قدموا عليه مَلَّكهم وخلدهم، قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [الإنسان: 20، 22]، وهذا ما وعدهم به ربهم من فضله وإحسانه، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
عباد الله: لا تظنوا أن هذه المنزلة السامية والمكانة الرفيعة في الجنة مقصورة على الأنبياء وحدهم، بل يرفع الله إليهم بفضله صالح المؤمنين من عباده، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِالله? وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" [أخرجه البخاري : 3256، ومسلم: 2831].
أيها الأحبة: إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن والغرف المزخرفة ما لا يدركه الوصف ولا يحصيه العدّ, ولديه من البساتين الزاهرة والفواكه اللذيذة والثمار الدانية اليانعة والأطعمة الفاخرة والرياض المعجبة, والطيور المطربة, والأنهار الجارية ما يأخذ القلوب ويفرح النفوس. وبالإضافة إلى نعيم المكان ولذته، فعنده نعيم المصاحب، فعنده من الزوجات الجامعات لحسن الظاهر والباطن, والحور العين, والخيرات الحسان, ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
ولا يكدر عيشه شيء، فلا يتعب نفسه، بل يُخدَم خدمة الملوك على الأسرة، فحَوْلَه من الخدم المؤبدين, والولدان المخلدين, ما به تحصل الراحة والطمأنينة, وتتم لذة العيش, وتكمل الغبطة. وعلاوة على ذلك كله الفوز برؤية الرب الرحيم, وسماع كلامه, ولذة قربه, والابتهاج برضاه، فسبحان الملك الحق المبين, الذي لا تنفد خزائنه, ولا يقل خيره, فكما لا نهاية لأوصافه, فلا نهاية لبره وإحسانه وإكرامه. نسأل الله من واسع فضله وجنته.
أيها المباركون: في الجنة ظلال ظليلة ممدودة, لكنها لا تحمي من حر ولا شمس, إذ لا حر ولا شمس هناك كما قال -سبحانه-: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) [الإنسان: 13، 14]، وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) [النساء: 57]، وقال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35].
ومن جمال هذه الظلال الوارفة كِبَر حجمها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة:30]" [أخرجه البخاري: 4881، ومسلم : 2826].
أيها الإخوة: ويتميز أهل الجنة بعظم أجسادهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُّحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ الله، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ" [أخرجه البخاري: 3326، ومسلم: 2841].
أيها الإخوة: النعيم في الجنة قسمان: أعلى النعيم وأعظمه نعيم برؤية الخالق -عزَّ وجلَّ-, وسماع كلامه, وحلول رضوانه, وهذا أعلى النعيمين, وهو نعيم القلوب والأرواح. والآخَرُ نعيم بالاستمتاع بما في الجنة من اللذات والشهوات، مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, وهو نعيم الأبدان.
فسبحان من تفضل على عباده بهذا وهذا، قال الله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35]، وقال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23]، وبيّن ربنا عظيم نعيمهم وجليل منازلهم وكريم صفاتهم، فقال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 22، 26]، فهل نتنافس في الصالحات لنفوز بالجنات؟! أم نتسابق لحطام الدنيا الزائلة؟! نسأل الله السلامة والعافية.
عباد الله: ولا شك أن أعظم نعيم لأهل الجنة هو النظر إلى وجه الله تعالى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قال يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ" [أخرجه مسلم : 181] فيا لها من نعمة ما أجلها! وما أعظمها! نسأل الله ألا يحرمنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.
ومن نعيم أهل الجنة -أيها الفضلاء- أن الله الكريم يُحِلّ عليهم رضوانه فيأمنون أنهم في رضوانه فلا يسخط عليهم بعدها أبدًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ، رَبَّنَا! وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ! وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدًا" [أخرجه البخاري برقم (6549)، ومسلم: 2829].
وإن لذة رؤية وجه الملك -سبحانه- سهلة ميسرة لمن شاء الله له ذلك النعيم، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- : يَا رَسُولَ الله! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟". قَالُوا: لا يَا رَسُولَ الله! قال: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟" قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ الله!، قال: "فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ" [أخرجه البخاري برقم (806)، ومسلم برقم (182)].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- والزموا أوامر ربكم، وتعلموا أحكام دينكم، وما ينجيكم من عذاب ربكم، تدخلوا جنة ربكم، وتنالوا عنده الدرجات العالية.
عباد الله: لا شك أن في الجنة من النعيم واللذات والشهوات، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر، ولكن الجنة هي سلعة الله الغالية التي لا بد من البذل والعمل للفوز بها، فلا ينال الناس الجنة إلا بالعمل الصالح وقبل توفيق الله لهم وقبوله منهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف: 69-73]، وتأمل سبب ميراثهم الجنة؟ بعملهم الصالح.
وقال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان: 51-56]، فبدأ الله في وصفهم بأنهم عباده المتقون، فهل نتقي اليوم لنربح على الله غدًا؟!.
وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الجنة أعدها الله للصالحين من عباده، وليس لمن اتبع هواه وأغضب ربه وسيده ومولاه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر"، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]. [أخرجه البخاري: 3244، ومسلم: 2824].
أيها الإخوة الكرام: وإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ ورأوا ما أكرمهم به ربهم وما أتحفهم به؛ يلهجون بالثناء على ربهم وشكره، قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 74]، وقال سبحانه: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10].
وعندها لا يسمعون باطلاً ولا كلامًا سيئًا بل يسمعون سلامًا وتحية وكلامًا جميلاً، قال الله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة: 25، 26]، بل ويسلم عليهم ربهم بذاته، سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس: 58] يسلم عليهم سلامًا سبحانه، وقال سبحانه: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) [الأحزاب: 44] نسأل الله من أمنه وفضله ومغفرته، ونسأله الدرجات العلا من الجنة.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي