الحسد مطية الكسالى، ومركب الحالمين، الذين عزَّ على نفوسهم أن يختص الله بالنعم أفرادا دونهم؛ كأنهم شاركوا الله في القسمة، ونازعوه في الحكمة، فهؤلاء أشقى الناس.
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ *** فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها *** حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
الحاسد لا...
إن الحمد لله، الحمد لله حمدا لا منتهى له، وكيف ينتهي الحمد والعبد عاجز عن إحصاء نعم المولى -سبحانه وتعالى-، فضلا عن أن يحصي آلائه، وفضلا عن أن يحمده عليها، لك الحمد ربي بكل اللغات على كل الحالات، لك الحمد يا ربي الحمد الذي لا ينتهي ولا ينفد ولا يبيد، لك الحمد عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، لك الحمد حتى ترضى، وإذا رضيت وبعد الرضا.
اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه، وعلى آله وصحابته وعترته، كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
النبي -عليه الصلاة والسلام- في معرض التحذير، لا في معرض التبشير، يقول لأمته: "دب إليكم داء الأمم قبلكم".
داء الأمم، هو الداهية الدهياء، التي فتكت فيهم، فما هو داء الأمم الذي دب في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
إنه؛ الغل والحقد، والحسد والبغضاء.
ولو لم يكن من داء الأمم إلا صفة إبليسية لكفى، فإن أول من حقد وحسد، وأضمر الضغينة: إبليس -عليه لعائن الله- حسد آدم على ما منَّ الله -عز وجل- به عليه: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء: 61-62].
الغل والحقد والحسد؛ أسوأ المناقب؛ أخرجت إبليس من الجنة إلى الأرض وأهبطته.
والغل والحقد والحسد، هو دافع أول جريمة قتل على وجه الأرض، حين جاء أحد ابني آدم يتوعد أخاه بالقتل، مع أن أخاه كان يرفع شعار: "سلمية سلمية": (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة: 28].
ومع هذا أكب عليه، وقتله.
إن الغل والحقد والحسد، وأمراض القلوب، لا يمكن أن تجتمع في قلب يحتوي عليه الإيمان؛ لأن بينهما تضاد وتنافر، فالقلب المفعم بالإيمان، طارد للغل، طارد للحسد، لا يرضى أن يشاركه في ذات المكان، ونفس الظرف، وهذا مصداق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما أخرج النسائي: "ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد" [حسنه الألباني -رحمه الله تعالى-].
الحاقد والحاسد والكائد ألعوبة في يد الشيطان، وأحبولة يحركه كيف يشاء.
"إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"
من خلال الحاقد والحاسد والكائد.
مرض عضال، وداهية دهياء، وداء أعيا من كان قبلنا.
الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله *** إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعلل
إنه شاغل النفس، وشاغل الفكر، ومعكر صفو الحياة، قال رجل لعمرو بن العاص: "والله لأتفرغن لك" أي كيدا وحسدا وبغضا، فقال له عمرو -رضي الله عنه-: "إذاً تقع في الشغل".
اصبر على كيد الحسو *** د فإن صبرك قاتله
فالنــارُ تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
إن الحسد والبغض الذي يحمل على التلون والنفاق تلقاه فيعجبك منظره، يقول فتسكر لسحر كلامه، كالمنافق تماما: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون: 4].
لكنه يخفي بعد ذلك قلبا حقودا، يلبس جلد الضأن على قلوب الذئاب.
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً *** ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف أنه بك واثقٌ *** وإذا توارى عنك فهو العقرب
الحسد مطية الكسالى، ومركب الحالمين، الذين عزَّ على نفوسهم أن يختص الله بالنعم أفرادا دونهم؛ كأنهم شاركوا الله في القسمة، ونازعوه في الحكمة، فهؤلاء أشقى الناس.
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ *** فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها *** حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
حسدوا النعمة لما ظهرت *** فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة *** لم يضرها قول أعداء النعم
نعم، هو الداء العضال لا ينفعه كيماوي السرطان، ولا ينفع معه عقار، إنه الداء العضال، قال أحدهم:
وداريتُ كلَّ الناسِ لكنَّ حاسدي *** مداراتُه عزَّت وعزَّ منالُها
وكيف يُداري المرءُ حاسدَ نعمةٍ *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالُها؟
الحاسد لا لا يقنعه شيء، ولا يرضيه شيء، لا يرضيه أن تكون في اليمين ولا في اليسار، ولا يرضى حتى منك الحياد.
أَعطَيتُ كُلَّ الناسِ مِن نَفسي الرِضا *** إِلّا الحَسودَ فَإِنَّهُ أَعياني
لا أَنَّ لي ذَنباً لَدَيهِ عَلِمتُه *** إِلّا تَظاهُرَ نِعمَةِ الرَحمَنِ
يَطوي عَلى حَنَقٍ حَشاهُ لِأَن رَأى *** عِندي كَمالَ غِنىً وَفَضلَ بَيانِ
ما إِن أَرى يُرضيهِ إِلّا ذِلَّتي *** وَذَهابُ أَموالي وَقَطعُ لِساني
الحسد أبو الخبائث، وبوابة الموبقات.
الحسد يحمل صاحبه على تتبع العورات، يحمل صاحبه بأن يكون ذبابا يقع على الجروح والهانات.
الحسد يحمل صاحبه على النفاق على الظن السيئ، على الوشاية، على النميمة، على الوقيعة، على الإيقاع بالمؤمنين، يحمل صاحبه على اجتزاء الكلم، وأخذ بعض المفردات دون بعض، على نحو قول الأول:
ما قال ربك ويلٌ للأولى سكروا *** بل قال ربك ويل للمصلينا
إنه يحمله على تتبع العورات، والإيقاع بالمسلمين، وهذا ليس مقابله المحسود، وإنما مقابله الله -تعالى-؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ورد عنه أنه قال: "من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".
وما أعظم المصيبة اليوم التي يقع فيها متتبعو العورات، ومتصيدو الفتن؛ ليقعوا بإخوانهم، إلا أن المقابل، هو الله.
من عدل الله -تعالى-: أن سحر الحاقد والحاسد ينقلب على صاحبه، إذا جاء موسى، وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر، نعم ينقلب على صاحبه، فيكون سبة عليه، ويكون نكالا، ووبالا عليه.
إذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** لم يعرف طيب عُرق العود
لا نجاة يوم القيامة إلا بسلامة الصدور، لا نجاة يوم القيامة إلا بغسل القلوب من الغل والحقد والحسد، وسلامة الصدر للمؤمنين: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
قد سلم من الغل والحقد والحسد.
لا نجاة يوم القيامة إلا بسلامة الصدور.
والحقد والتباغض -عياذا بالله-؛ كما أخرج إبليس من الجنة، فإنه موجب النار؛ لما تمثل به.
عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما أخرج أبو داوود في سننه بسند صحيح أنه قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار".
لما كان الغل والحقد والحسد من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ نزه عنه أهل دار البقاء، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47].
ولذلك دعاء الصالحين، مناجاة العابدين، أنهم يقولون: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)[الحشر:10].
ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: "واسلل سخيمة صدري".
لذلك كان أفضل الناس في الدنيا أهل سلامة الصدور.
نعم، أفضل الناس في الدنيا الذين لا يحملون غلا، ولا حقدا، ولا حسدا، قال صلى الله عليه وسلم يوما: "أي الناس أفضل؟" ثم أجاب: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان" قال الصحابة: يا رسول الله صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد".
مخموم القلب، هو القلب الذي كنسه صاحبه، عن كل غل وحقد وحسد.
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ *** أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ
إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ *** لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ
وفي الذكر الحكيم: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ)[الأنعام: 120].
أتدرون ما باطن الإثم؟
إنه سوء الطوية، وفساد الصدور، ومرض القلوب -عياذا بالله-.
جاء التوجيه النبوي: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".
بل جاءت الشرائع النبوية كلها تحافظ على سلامة الصدر: "لا يخطب رجل على خطبة أخيه، ولا يبيع رجل على بيع أخيه، لا يشتري رجل على شراء أخيه، لا يتناجى اثنان دون الثالث".
أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بتسوية الصفوف، كل الشرائع جاءت للحفاظ على هذه الوحدة، وصفاء القلب.
أيها العبد أيتها الأمة: صف صدرك، يغفر ذنبك: "تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرؤ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يصطلحا".
لقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يسد منافذ الشيطان، لا يسمح لأحد أن يتغلغل إلى صدره، وأن يوغر قلبه على أحد، كان إذا خرج إلى أصحابه، يقول: "لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر" [كما عند أحمد في المسند].
التصفية، تصفية الصدور أكبر الحسنات، ومفتاح تفتح به أبواب الجنة الثمانية، أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- أنه يطلع عليهم من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فطلع عليهم رجل هو من أغمار الناس، لم يكن أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا من العشرة المبشرين بالجنة، رجل من أغمار الناس، تنطف لحيته من الوضوء، ثم أخبرهم في مجلس آخر أنه يطلع عليهم من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فإذا بالرجل نفسه، استنهض هذا بعض الأصحاب أن يتحايل ليبيت عند هذا الرجل، لينظر إلى صلاته، إلى عبادته، إلى إنفاقه، إلى جهاده، إلى قراءته، إلى بذله، إلى عطائه، فلم يجد شيئا، فأفشى بالسر، وقال: إنما بت عندك حيلة، أخبرني بالذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر بك، ويخبر أنك من أهل الجنة؟.
قال: "ليس عندي مزيد عمل، ليس عندي كثير صلاة، اللهم إلا أن لا أبيت وفي صدري شيء على مسلم".
التصفية أكبر الأعمال، وأجل القرب، يقول صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين، هي الحالقة".
لا أقول تحلق الشعر، وإنما تحلق الدين.
إن الذين يوغرون الصدور، يسيرون بين الناس بالنميمة، ويستخدمون وسائل حديثة، تصبح لهم بها سيئات جارية، كما أن لعباد الله الصالحين حسنات جارية، هؤلاء قد أتوا بالحالقة التي تحلق الدين، وتحلق كل شيء.
لا حصانة لأحد أن يوغر صدور المؤمنين مهما كان هذا الواحد، مهما كانت سابقته في الإسلام، لا حصانة لأحد، ولو كان صاحب رسول الله، ورفيقه في الغار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم" يعني أصحابه من أهل الصفة: "لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك".
فأتاهم أبو بكر فقال: "يا إخوتاه أغضبتكم؟" قالوا: "لا يغفر الله لك يا أخي" [والحديث في صحيح مسلم].
معيار الأفضلية عند الأصحاب كان بسلامة الصدور، لا بكثرة العبادات، ولا بتنوع الطاعات، وإنما بسلامة الصدور، يقول إياس بن معاوية بن قرة -رحمه الله-: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرا، وأقلهم غيبة".
أنا مدعو لئن أفتش هذا في نفسي، وأنت أيضا مدعو لتفتش هذا في نفسك، هل ينطبق عليك هذا المعيار؟ سلامة الصدر وقلة الغيبة؟
إن من المدخرات التي يرجوها العبد في القيامة والشدائد؛ سلامة الصدر.
من منا لا يعرف أبا دجانة، صاحب العصابة الحمراء، الذي أعطاه النبي -عليه الصلاة والسلام- في أحد سيفه، وهو الذي يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول *** أضرب بسيف الله والرسول
من منا لا يعرفه؟!
أبو دجانة حين احتضر وحضرته الوفاة، لم يتذكر موقفه في أحد، ولا أنه صاحب العصابة، ولا أنه أخذ سيف رسول الله، وإنما تذكر شيئا آخر، قال: "من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً".
سنة الصالحين، طريقة الأولياء، ليس الصلاح في المظاهر، إنما الصلاح في المخابر، فكم ممن يبدي صلاحا، ويتظاهر بالصلاح، هو أدوى الأدواء.
هذا أحمد بن حنبل ضرب وسجن، وأوذي بسبب وشاية بعض من يلبس جبة الصلاح، من أهل العلم، والمنتسبين له، فلم يجد في قلبه غلا على أحد، وصفح عن كل أحد، وقال مرة لواحد منهم: "أنت في حل"، كل من ذكرني في حل إلا مبتدع، وصفح عن المعتصم الذي ضربه وجلده، وهو إمام أهل السنة، وصاحب المسند، وحافظ حديث رسول الله، وعى قلبه ألف ألف حديث عن رسول الله، ومع ذلك ضربه المعتصم في فتنة القول بخلق القرآن، لكن أحمد بن حنبل حين فتح المعتصم عمورية لم يجد في صدره شيئا، وعفا عنه، وقال: "اخبروا أبا إسحاق أنه في حل، رأيت الله -تعالى- يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النــور: 22].
قال أحمد رحمه الله: "ما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك!".
حدثتنا كثيرا عن الغل والحقد والحسد، وبغضتنا فيه، حدثتنا عن سلامة الصدور، ورغبتنا إليها، هل دللتنا عن خريطة الطريق حتى نحرج من خطبتنا بخلاصة الخلاصة؟
نعم، إليكم خارطة الطريق:
من العلاجات النافعة والأدوية الناجعة: الإقبال على كتاب الله، لا يمكن أن يحوي صدرك كتاب الله -عز وجل-، ثم يكون في صدرك غل أو حقد على أحد: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9].
هذا القرآن شفاء لأدواء القلوب، وأوجاع الصدور، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ) [يونس: 57].
من العلاجات أن تتعهد صيام ثلاثة أيام، فإن الله يذهب عنك، وَحَرَ الصدر، ثبت عن المطيبة الأفواه بالصلاة والسلام عليه: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ"[أخرجه النسائي في سننه].
من العلاج: الصدقة، ابذلها طيبة بها نفسك، يطهرك الله ويزكيك، قال عز وجل لنبيه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [التوبة: 103].
من العلاجات: ملازمة الدعاء، نبيكم -صلى الله عليه وسلم- طهر قلبه، وزكى فؤاده، فهذا جبريل يجري أول عملية قلب مفتوح على وجه الأرض لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فاستل المضغة السوداء التي في قلبه، وغسله على طست من ذهب، بماء زمزم، مع ذلك كله يقول صلى الله عليه وسلم: "واسلل سخيمة صدري".
وعباد الله الصالحون يقولون: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر: 10].
من العلاجات: التهادي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يرشد إليه، ويقول: "تهادوا تحابوا".
من العلاجات: إفشاء السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: "والله لا تدخلوا الجنة، حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟".
اجعل السلام شعارا، اجعله نطقك إذا أقبلت وإذا أدبرت، وإذا فرق بينك وبين أخيك شجرة، أو جذع، ليس ما يقوله العامة: "كثرة السلام يسقط المهابة" ليس صحيحا، بل هو مخالف لصريح السنة: "أفشوا السلام بينكم".
قد يمكث الناس دهرا ليس بينهم ودٌ *** فيزرعه التسليم واللطف
اللهم اسلل السخائم من صدورنا، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
اللهم اكفنا شر الحاقدين، والحاسدين والكائدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، قد أفلح المستغفرون.
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
إذا دب داء الأمم من قبل في الأمة اشتغلت عن المهمات والأوليات.
إذا اشتغل القلب بالغل والحقد والحسد، وتتبع العورات، وتدبير المكائد، فإنه سينشغل عن الحنان والعطف، والرأفة والرحمة، لمن يستحقها.
وإذا ما سلم القلب، وسلم الفؤاد والصدر، فإنه سيتحرك بالآيات والمواعظ، ويتحرك أيضا بتفطر القلب لحال إخوانه في الشام، وفي غيرها.
مجزرة تتلو مجزرة، ومذبحة تتبعها مذبحة، كلما وقعت مجزرة أنست التي قبلها، ظلمات فوقها فوق بعض.
لقد أصبح مستساغا، دارجا أن نرى صور الدم، وتناثر الأشلاء، وتفجير البيوت، وتهجير المسلمين: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرا منها..
والله -عز وجل -قد علم أنه لا سبيل لنا إلا السبيل الذي لا يمكن أن يصدنا عنه أحد، ولا أن يحجبنا عنه أحد، وهو سبيل: الدعاء، أن نتوجه إليه بقلوبنا، وأفئدتنا، وجوارحنا، أن نأتيه صغارا وكبارا، رجالا ونساءً، فننطرح على بابه، ونسأله أن يرفع عن إخواننا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي