محطات من حياة الإنسان: البعث

عبد العزيز بن الطاهر بن غيث

عناصر الخطبة

  1. من أشراط الساعة
  2. أهوال القيامة
  3. قيام الناس من قبورهم
  4. أحوال الناس في مبعثهم
  5. تفاوت أنوار الناس يوم القيامة

وبعد: في الجمعة الماضية تركنا الإنسان في قبرِه، منعَّما إن كان مؤمنًا صادقًا، ومعذَّبًا إن كان كافرًا فاجرًا، متمنِّيًا قيام الساعة إن كان صالحًا، يهتِف: رب أقِمِ الساعة ربّ أقم الساعة، أما إن كان طالحًا فاسدًا فإنه يتمنى أن لا تقوم الساعة قائلاً: رب لا تقم الساعة؛ لأنه يعرف ماذا يعني أن تقوم الساعة، ويعرف ما ينتظره عند قيامها: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الجاثية:27].

وكلامنا اليوم عن حال الإنسان مع البعث وحالته عند قيام الساعة.

والساعة -عباد الله- قد بيّن لنا الله سبحانه أن لها أشراطًا لا بد أن تأتي قبلها، يقول سبحانه: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ [محمد:18]، فقوله سبحانه: ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ أي: علاماتها، ومن هذه العلامات بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو القائل فيما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد: "بعثت أنا والساعة كهاتين". وقرن بين السبابة والوسطى، ومن علاماتها انشقاق القمر إلى غير ذلك من علاماتٍ ظهرت وستظهر وتكون إيذانًا بحلول الساعة.

ويسبق الساعة ويصاحبها أمور عظيمة تحدث في الكون، أخبر عنها الله سبحانه في كتابه في كثير من السور والآيات القرآنية التي صوّرت تلك الأحداث تصويرًا رهيبًا مرعِبًا يقضّ المضاجع ويذهب بالأفئدة والألباب لمن تفكّر فيها وتدبّرها، يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عمر: "من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)﴾ [سورة التكوير]، (وإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ…) [سورة الانفطار]، (وإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ…) [سورة الانشقاق]".

إذا تصورنا وتدبرنا هذه السّور والآيات وغيرها علمنا أن انقلابًا عظيمًا سيحدث في الكون بين يدي يوم القيامة، واختلالاً سيكون بأمر الله في نواميس ومكونات هذا الكون، يقول سبحانه: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)﴾ [التكوير:1 – 14]، ويقول سبحانه: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5)﴾ [الانفطار: 1 – 5]، ويقول تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)﴾ [الزلزلة:1 – 5].

أحداث عظيمة لمخلوقات عظيمة، الباري -جل في علاه- الجبار المتكبر يتكلّم عن هذه المخلوقات العظيمة وكأنها لا شيء، وكأنها ذرات لا وزنَ لها، ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرتْ﴾، الشمس هذا الجِرم العظيم التي يتّسع لأكثر من مليون جِرم بحجم الأرض كما يقول علماء الفلك، والتي إن اقتربت منا فوق الحدّ المطلوب احترقنا، وإن ابتعدت عنا فوق الحد المطلوب تجمدنا، هذه الشمس العظيمة تُلفُّ ويذهب ضوؤها ونورها بقدرة الله -عز وجل-، وهذه الكواكب العظيمة المنتشرة في السماء تنتثر وتتطاير وتتساقط، والبحار التي تغطي أكبر جزء من الأرض تتفجّر على بعضها وتسعّر وتلتهب وتصبح كتلة من النار، إلى غير ذلك من الظواهر التي يشيب لهولها الولدان: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل:17]، بل لك -يا عبد الله- أن تتصور عظمة يوم القيامة حين تعلم أن هذه الجبال الصماء العظيمة تصير في ذلك اليوم كالصوف المتناثر قِطَعًا: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة:5]، بل يصفها الله سبحانه بأنها على عظمتها تحمل وتدك، يقول سبحانه: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة:14]، بل إنها في نهاية الأمر تنسف وتسوَّى بالأرض، يقول سبحانه: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)﴾ [طه:107-105].

هذه أمور لا بد -عباد الله- أن نتدبّرها، ولا بد أن نعيَها، لا بد أن نتمثّلها؛ حتى يذهب غرورنا، وحتى تنتهي غفلتنا.

مثّـل لنـفسـك أيهـا المغـرور *** يوم القيــامة والسمـاء تمـور إذ كوّرت شمس النهـار وأدنيـت *** حتى علــى رأس العبـاد تصير وإذا النجوم تسـاقطت وتنـاثرت *** وتبدلـت بعـد الضيـاء كدور وإذا الجبـال تقـلعـت بأصولهـا *** فرأيتهـا مثل السحــاب تسير وإذا البحـار تفجـرت نيـرانـها *** فرأيتهـا مثـل الجحـيـم تفور وإذا العشـار تعطلـت وتخربـت *** خلت الديـار فمـا بها معمـور وإذا الـوحوش لدى القيامة أحشرت *** وتقول للأمـلاك: أيـن نسيـر وإذا الجليـل طـوى السمـا بيمينه *** طي السـجل كتابَـه المنشـور وإذا السمـاء تكشّطت عـن أهلها *** ورأيـت أفلاك السمـاء تمـور وإذا الصحـائف نـشرت وتطايرت *** وتهتكت للـعـالميـن ستـور وإذا الجـحيـم تسعـرت نيـرانها *** ولها على أهل الـذنوب زفيـر وإذا الجنـان تزخرفت وتطيّــبت *** لفتى على طول البـلاء صبـور وإذا الجنيـن بـأمّـه متـعلّــق *** يخشى القصاص وقلبـه مذعـور هـذا بلا ظلم يـخـاف جنـاية *** كيف المصر على الذنـوب دهور

هذا هو يوم البعث الذي يقوم فيه الناس من قبورهم مستجيبين سائرين إلى أرض المحشر: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ [طه:108]، وعند أهل التفسير أن الداعي هنا هو إسرافيل، وهو المقصود أيضًا في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق:41].

يتبع الناس الداعي إلى أرض المحشر؛ لينال المؤمن جزاءه وينال الفاسق جزاءه، ويبيّن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حال كثير من الناس عند البعث، يقول فيما أخرجه مسلم عن جابر: "يبعث كل عبد على ما مات عليه"، هذا اختصار لحال كثير من الناس عند البعث، خاتمته في الحياة يستقبل بها يوم بعثه، فإن مات على هيئة حسنة وهو يفعل أمرًا طيبًا بعث على ذلك، وإن مات وهو يمارس موبقة من الموبقات بعث على ذلك، يقول -صلى الله عليه وسلم- عن رجل مات وهو محرم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، ويقول -صلى الله عليه وسلم- عمن مات مجاهدًا في سبيل الله فيما رواه أحمد عن أبي هريرة: "والذي نفسي بيده، لا يُكلَم -أي: لا يُجرح- أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يُكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وجرحه يشخب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك".

هذا عن بعض أهل الطاعات، كما أن لبعض أهل المعاصي هيئات يبعثون عليها، يقول الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة:275]، ورد عن معظم الصحابة أن هذا القيام هو قيامهم من قبورهم، يقول ابن كثير: "أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان به"، وورد عند القرطبي أن آكل الربا يبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقيتًا عند جميع أهل المحشر، كما أن السارق من المال الخاص أو العام يبعث بما سرق أو بما غلّ يحمله على عنقه يوم القيامة، يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن أنيس: "من غل بعيرًا أو شاة أتى يحمله يوم القيامة".

هذه بعض أحوال يوم القيامة وبعض حالات الإنسان في ذلك اليوم، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الأمر جدّ ليس بالهزل، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)﴾ [الحج:1، 2].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

ذكرنا -إخوة الإيمان- حال أهل الخير وأهل الشرّ عند البعث، وهذه أمور فصّلها الله سبحانه وفصّلها رسوله -صلى الله عليه وسلم- لكي نعلم أن الأمور ستسير عند الحساب على العدل والقسطاس، وأن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فقد يحيف قاضي الدنيا، وقد يظلم، وقد تذهب الحقوق إلى غير أصحابها في الدنيا، أما في الآخرة فلن ترى إلا صورة عملك ممثلة أمامك، بل حتى أهل الخير يتفاوتون في أنوارهم عند البعث، ورد عن ابن مسعود كما في المستدرك أن منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط به الظلمة من كل ناحية.

ومن أراد النور في ذلك اليوم فعليه بالنور في الدنيا، والنور في الدنيا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فبقدر عمل الإنسان بكتاب الله وتقيّده بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون زيادة ولا نقصان بقدر ما تغمره الأنوار أو تنحسر عنه، يقول سبحانه: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ [التحريم:8]، ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد:13].

هذا هو البعث، وهذا يومه، ولقد أقسم الله أن الناس سيبعثون من قبورهم رادًّا على زعم الكافرين أنهم لن يبعثوا فقال سبحانه: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7]، فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا ساعات العمر فيما يرضي الله -عز وجل-.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه…  


تم تحميل المحتوى من موقع