فريق في الجنة وفريق في السعير

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. الناس في الآخرة صنفان مختلفان .
  2. رفعة منزلة المقربين المحبين .
  3. ما في الجنة من النعيم .
  4. بين أهل الجنة وأهل النار .
  5. خروج عصاة الموحدين من النار .

اقتباس

الناس في الآخرة صنفان مختلفان، لا يتفقان ولا يجتمعان، فشتان بين من منزله الجنة، وبين من منزله النيران، وإذا كان أهل الجنة في النعيم يتلذذون، فإن أهل النار في جهنم يعذبون، وفي النار يسجرون...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، سبحانه من استجار به أجاره، ومن استغاث به أغاثه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اهتدى به هداه إلى صراط مستقيم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه وتعالى-؛ فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسهل، وهي وصية الله للأولين والآخرين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100] فاتقوا لله ربكم، وأطيعوه في سركم وعلنكم، وراقبوه في جميع زمنكم.

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون، اتقوا ذلك بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا.

عباد الله: الناس في الآخرة صنفان مختلفان، لا يتفقان ولا يجتمعان، فشتان بين من منزله الجنة، وبين من منزله النيران، وإذا كان أهل الجنة في النعيم يتلذذون، فإن أهل النار في جهنم يعذبون، وفي النار يسجرون، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 13، 14]. وإذا كان أهل النار يتلاعنون في النار، ويدعون بالويل والثبور، فإن أهل الجنة إخوان متحابون: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].

وإذا كان أهل النار يشتغلون بالتنابز واللعن والخصام، فأهل الجنة يشتغلون بالحمد والثناء لربهم فيقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)  [الأعراف: 43]. وإذا كان أهل النار ينادَوْن بالتحقير والتأنيب ليدخلوا مع أمم مثلهم من الجن والإنس في النار، فإن أهل الجنة ينادَوْن بالترحيب والتكريم لدخول الجنة (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43].

وإذا كان أهل النار وجوههم مسودة مظلمة مغبرة، فإن وجوه أهل الجنة مسفرة ضاحكة مستبشرة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس: 38، 39]. وإذا كان لباس أهل النار ثياب قُطِّعت من نار وقطران، فإن لباس أهل الجنة من الحرير والسندس والإستبرق، وحليهم من الذهب والفضة واللؤلؤ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [فاطر: 33].

وإذا كانت فرش أهل النار من نار، ولحفهم من نار، ومن فوقهم ظلل من النار، فإن أهل الجنة فرشهم بطائنها من إستبرق، وسررهم مرفوعة، ولهم نمارق ووسائد مصفوفة، وبسط مبثوثة. نسأل الله الجنة وما يقربنا إليها من قول وعمل.

أيها الإخوة: وإذا كان طعام الكفار في النار الزقوم والضريع والغسلين، وشرابهم الغساق والصديد والحميم، فإن طعام أهل الجنة فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وشرابهم من خمر لذة للشاربين، وعسل مصفى، ولبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، ولهم فيها من كل الثمرات، أكلها دائم وظلها، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وقصور من ذهب وفضة، وغلمان وولدان للخدمة، وشباب بلا هرم، وصحة بلا مرض، ونعيم بلا بؤس، وحياة بلا موت، وخلود بلا فناء.

فيا لها من نعمة، ويا لها من مسرة، فهل من مشمر إلى الجنة؟! وهل من راغب في الحور الحسان اللاتي كأنهن الياقوت والمرجان؟! وهل من مسارع لتلك القصور الفاخرة، والمساكن العالية، والفواكه اللذيذة، والأنهار الجارية، وكثبان المسك والكافور، وحصباء الدر والياقوت، وصحاف الذهب والفضة، ولباس الحرير والديباج؟.

أيها المسلمون: يدعونا ربنا إلى أن نسابق للفوز بهذه المنازل العالية، فيقول -سبحانه-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21]. وليس بعد العمل الصالح إلا الجزاء الصالح، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!.

فيا سبحان الله، كم عند الكريم الرحيم لأوليائه من الكرامات (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف: 70-73]، تلك الدار -أيها الأحبة- التي أعدها الله لعباده المؤمنين فوق ما نتصور، وأعظم مما نتخيل، وأكبر مما نتوقع.

فمن حيث المساكن يُعطى أدنى مسلم في الجنة مثل هذه الدنيا عشر مرات، وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. وإذا كان هذا نصيب أدنى إنسان في الجنة، فكم يكون نصيب أعلى إنسان في الجنة؟ وكم جنات الرسل؟ وكم جنات سيد الرسل؟ وكم جنات المجاهدين؟! ومن حيث المساكن قصور فاخرة، وقصور معلقة، وخيام واسعة كثيرة، وللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة طولها ستون ميلاً في السماء.

وطعام أهلها أشكال وألوان، فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفيها من كل فاكهة زوجان، فيها فاكهة ونخل ورمان، وجنات من أعناب ونخيل، قطوفها دانية: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، فأين المشمرون لمثل هذا؟! وأين المسارعون إليه؟! وأين المتسابقون للفوز به؟! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال اللهُ تَعَالى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا اُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]" [أخرجه البخاري: 3244 ، ومسلم: 2824].

أيها الإخوة: وأعظم نعيم المؤمنين في الجنة يتمثل في رؤية وجه الله الكريم، أن ينظر أهل الجنة إلى وجه ربهم الأعلى، ورؤية الله حق وثابتة ومعتقد أهل السنة والجماعة. ولا يستطيع أيّ إنسان في الدنيا بل لا يتمكن من رؤية الله -سبحانه- لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه، أما في دار البقاء فتكون قوة بصر المؤمنين في غاية القوة؛ لأنها دائمة فقويت على رؤيته والنظر إليه كما قال -سبحانه-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23]، ولذا فأعظم نعيم في الجنة رؤية المؤمنين لربهم، ورضاه عنهم.

أيها المسلمون: وثبوت الرؤية في الآخرة لا يعني الإحاطة بالله -سبحانه-، فالله -جلَّ جلاله- هو الأكبر، وهو الكبير المتعال، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، وأنه لعظمته -سبحانه- لا يُدْرَك بحيث يُحاط به، والإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، وهو -سبحانه- أعظم من أن تدركه الأبصار أو تحيط به: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103]. فالمؤمنون ينظرون إلى الله ويرونه، ولكن لا تحيط أبصارهم به لعظمته وكبريائه وجلاله، وبصره يحيط بهم لأنهم خلقه، وجميع المخلوقات كالذرة بالنسبة إليه، والله بكل شيء محيط.

عباد الله: والجنة وما فيها من النعيم كرامة من الله لأهل طاعته، ورضى الله عند العبد أكبر من الجنة وما فيها من النعيم كما قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].

وهذا الرضا جزاء على رضاه عنهم في الدنيا ورضاهم عنه، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال، وهو الإيمان بالله والأعمال الصالحة: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة: 7، 8]، فرضوان الرب عنهم أكبر من كل ما وُعدوا به، وأيسر شيء من رضوانه -سبحانه- أكبر من الجنات وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

أيها المسلمون: ولا يسأم الإنسان من تكرار الكلام الجميل الراقي، لذا أكرر فأقول: إن من أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، والفوز برضوانه، ووالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه. وإذا تجلى لهم -سبحانه-، ورأوا وجهه عياناً، نسوا ما هم فيه من النعيم، وذهلوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. وأي نعيم؟، وأي لذة؟، وأي قرة عين يداني ذلك؟! وهل طابت الجنة وقامت إلا بذلك؟!

أيها الأحبة الفضلاء: إن من عرف الله -جل جلاله-، وشهد مشهد حقه عليه، ومشهد تقصيره وذنوبه، وأبصر هذين المشهدين بقلبه؛ علم وجزم بأن دخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، والنجاة من النار بعفو الله، فالعمل الصالح -أيها الإخوة- سببٌ لدخول الجنة، لكنه غير مستقل بحصوله، وليس العمل عوضاً عن الجنة، بل دخول الجنة برحمة الله، وقد جمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أحَداً الْجَنَّةَ عَمَلُهُ". قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ" [أخرجه البخاري: 6467، ومسلم: 782].

عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- بمنه وفضله وكرمه يقرّب الجنة للمتقين كما قال -سبحانه: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق: 31-33]، فوصف الله أهل الجنة بأربع صفات:

إحداها: أن يكون العبد أواباً أيّ رجاعاً إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، كلما أذنب ذنباً استغفر الله منه، جعلني الله وإياكم منهم.

الثانية: أن يكون حفيظاً لما ائتمنه الله عليه وافترضه، حافظاً لما استودعه الله من حقه ونعمته، مبتعدًا عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ الممسك عما حرم الله عليه، والأواب المقبل على الله بطاعته.

الثالثة: أن يكون ممن يخشى الله بالغيب، لكمال معرفته بربه وقدرته، وكمال علمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ومعرفته بكتبه ورسله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده. فمن عرف هذا خشي الرحمن بالغيب.

الرابعة: أن يكون منيباً إلى ربه، راجعاً عن معصيته، مقبلاً على طاعته.

وجزاء من اجتمعت به هذه الصفات أن يقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 34، 35]، فيدخلون الجنة دخولاً مقروناً بالسلامة من الآفات والشرور، مأموناً فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم ولا كدر ولا تنغيص، وذلك يوم الخلود الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات، ولهم فيه كل ما يشاءون ويحبون من الملاذ والشهوات، ويزيدهم فوق ذلك أفضل نعيم وأكمله، وهو التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، والفوز برضاه، والتلذذ بسماع كلامه.

أيها المسلمون: إن الله -تبارك وتعالى- هو الرحمن الذي لا أرحم منه، الكريم الذي لا أكرم منه، ومن رحمته وكرمه أن أرسل رسله بدينه وشرعه الذي يصلهم بربهم، ويسعدهم في دنياهم وأخراهم.

نسأل الله الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وخذوا من دنياكم لأخراكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وتواصوا بالحق، وليعنْ بعضكم بعضاً.

عباد الله: وإذا رأت النار يوم القيامة أهلها؛ اشتد سعيرها، واشتد زفيرها، وسمع لها أصوات شديدة، وتغيظت على أهلها، وغضبت عليهم؛ لغضب خالقها، وزاد لهبها وحرارتها بحسب زيادة كفر أهلها وشرهم، قال الله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان: 11، 12].

وتظل جهنم على هذا الحال، يُلقى فيها من كفار الإنس والجن، وتقول: هل من مزيد كما قال -سبحانه-: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30]، والله -عز وجل- قد وعد النار ليملأنها من الجنة والناس أجمعين كما قال -سبحانه-: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13]، فلا تزال النار تطلب الزيادة حتى يضع رب العزة قدمه عليها، فينزوي بعضها إلى بعض، هذه النار الواسعة لا تمتلئ حتى يضيّقها الجبار -سبحانه- على من فيها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ" [أخرجه البخاري: 4848، ومسلم: 2848].

أما الجنة فلا يضيقها -سبحانه-، بل ينشئ لها خلقاً فيدخلهم إياها؛ لأن الله يدخل الجنة من لم يعمل خيراً قط؛ لأن ذلك من باب الإحسان، وأما العذاب بالنار فلا يكون إلا لمن كفر بالله وعصاه، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَبْقَى مِنَ الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَبْقَى، ثُمَّ يُنْشِئُ اللهُ تَعَالَى لَهَا خَلْقًا مِمَّا يَشَاءُ" [أخرجه مسلم: 2848].

أيها المسلمون: ومن رحمة الله بخلقه، أنه لا يخلد في العذاب إلا المشركون، أما عصاة الموحدين فيخرجون من النار عندما يأذن العزيز الغفار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قال: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً" [أخرجه البخاري: 44، وأخرجه مسلم: 193]، نسأل الله السلامة والعافية.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يُعَذَّبُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا فِيهَا حُمَمًا ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرَّحْمَةُ فَيُخْرَجُونَ وَيُطْرَحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ قَالَ فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَاءَ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حِمَالَةِ السَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" [أخرجه أحمد برقم (15268)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2451)].

أيها الفضلاء: ومن رحمة الله بعباده الصالحين أنه يورث أهل الجنة منازل أهل النار في الآخرة، قال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ لَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) [المؤمنون:10] [أخرجه ابن ماجه: 4341، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 3503] جعلني الله وإياكم ممن يرثون الفردوس هم فيها خالدون.

أيها الإخوة: عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، اللهم نجنا من النار ومن حرها، وجنبنا سوء أحوال أهلها، واجعلنا من الناجين يوم القيامة.

اللهم إنا نعوذ بك من النار ومن حال أهل النار، ومن حر النار، ومن عذاب النار، ومن الخزي والبوار، ونسألك يا الله، يا أرحم الراحمين ! أن تجيرنا من النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، ولحومنا على النار وأبشارنا على النار، وحرمنا يا مولانا على النار! وآباءنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي