فالهدية تسل سخيمة القلب، وتذهب غوائل الصدور، وكم أعادت الهدية من ودٍّ قد ذهب، وكم جمعت من صفاء تفرق؟ بها يطفأ الغضب، وتطرد وساوس الشيطان. والهدية بمعناها ودلالتها قبل أن تكون بنوعها وقيمتها؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت". وقال ...
الحمد لله شرع لعباده أسباب الإلفة وحثَّهم على ما تزيد به المودة...
وأشهد أن ألا له إلا الله وحده لا شريك له...
أما بعد:
فما أكمل سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حثَّ على مخالطة الناس، والصبر على أذاهم، ورغَّب في التودد إليهم، والسعاية في حاجتهم.
فنصف العقل التودد إلى الناس.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في تودده للناس الاهتمام بالهدية؛ قولاً وفعلاً؛ فعند البيهقي وحسنه الألباني: "تهادوا تحابوا".
وكان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم- يهدون إليه الطعام وغيره، فيقبل منهم، ويكافئهم أضعافها، وكانت الملوك تهدي إليه، فيقبل هداياهم، ويقسمها بين أصحابه ويأخذ منها لنفسه.
أهدى له المقوقس ملك مصر جاريتين وبغلة شهباء وحماراً؛ فقبل هديته.
وأعطى حسان بن ثابت إحدى جاريتين.
فالهدية تسل سخيمة القلب، وتذهب غوائل الصدور، وكم أعادت الهدية من ودٍّ قد ذهب، وكم جمعت من صفاء تفرق؟
بها يطفأ الغضب، وتطرد وساوس الشيطان.
والهدية بمعناها ودلالتها قبل أن تكون بنوعها وقيمتها؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أهدي َّ إلى ذراع أو كراع لقبلت".
وقال عليه الصلاة والسلام: "يا نساء المسلمات: لا تحتقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة".
والفرسن، هو: العظم قليل اللحم.
فالاقتصاد في الهدية سبب لدوامها، وشعور بالإحساس والاهتمام من المهدي بما لا يحرج المهدي إليه.
وربما حملت المبالغة في الهدية على ترك خير أو منع بر فهو لا يستطيع أن يحضر مناسبة فلان؛ لأنه لا يستطيع أن يهديه.
والمرأة في البيت تجاهلت مناسبة لإحدى قريباتها؛ لأنها لن تهديها إلا هدية بالقيمة الفلانية وهي لا تجد ذلك، وتخشى لو أهدت كذا أن تعاب به لأن أولئك القوم لا يعجبهم إلا كذا، ويرون مقامهم أكبر من كذا فعادت الهدية لما خرجت عن مقصودها الشرعي إلى تقصير وقطيعة، ولو علمت السُّنة من المهدي والمهدي له لكان خيراً للجميع.
عباد الله: وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبول الهدية لا سيما هدية الطيب؛ ففي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرد الطيب".
وعند الترمذي من حديث ابن عمر بسند حسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا ترد: الوسائد، والدهن -يعني الطيب- واللبن".
ولما للهدية من أثر على صاحبها في حفزه على الخير، ومنعه من السوء حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على حفظ حق الناس منها فربما قسم على أصحابه، وحفظ حق الغائب؛ ففي صحيح البخاري أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قسَّم أقبية بين أصحابه، ولم يكن مخرمة بن نوفل حاضراً، فلما جاء مخرمة ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أحس النبي -صلى الله عليه وسلم- به استقبله أول ما جاء، وقال: "يا أبا المسور خبَّأنا لك هذا".
مبادرة في الخير وقطعاً لما قد يلقيه الشيطان في نفسه.
ولهذا عظَّم الشارع الرجوع في الهدية فبعد أن يمتلك المهدى له فلا يحقُّ للمهدي أن يرجع في هديته مهما كانت حاله فرجوعه في الهدية من كبائر الذنوب، ودليل على رداءة نفس، وقلة مبالاة؛ قبَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- من يرجع في هديته، وشبهه بالكلب يقيئ ثم يرجع قيئه، تنفيراً من هذا الفعل.
أيها الآباء: إن مما شدد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- التفضيل بين الأولاد في الهدية، أو العطية بغير سبب لهذا التفضيل.
أمَّا ما كان لسبب كالنفقة عليهم فإنهم ينفق عليهم كل بحسبه فالكبير له ما يحتاجه والصغير دون ذلك، والبنت لها ما يخصها وما تحتاجه مما يناسب حالها.
وأما ما لم يكن له سبب فلا بدَّ أن يعدل بين أولاده، ولا أعدل من قسمة الله، فيعطي الولد الذكر ضعفَ ما يعطي الأنثى سواء من مال، أو أراض، أو عقار، أو هدايا محضة، أو غيرها.
وقد سمَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- التفضيل في هذه الأمور جوراً امتنع عن الشهادة عليه؛ ففي الصحيحين جاء النعمان بن بشير ليشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- على عطية أعطاه أحد أبنائه دون الآخرين، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل ُّ ولدك أعطيته مثل هذا؟
فقال: لا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".
وفي لفظ: "لا أشهد على جور أشهد على هذا غيري".
وفي لفظ: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء، قال: بلى، قال: فلا إذن".
فلا تأخذنكم العاطفة على شيء من التفضيل حتَّى وإن كان بعضهم أبر من بعض، حتى وإن كان بعضهم مقيماً عندك أيها الأب في بلدك أو معك في البيت.
أيها الآباء الأولياء: عمَّا قريب ينهي أبناؤنا دراستهم، وتطوى صحائف امتحاناتهم ويتطلعون إلى هدايا نجاحهم فتوددوا إلى أبنائكم بما تهدونهم تدخلون به سروراً عليهم، وتشجعونهم للمضي في جميل أخلاقهم، وحسن اجتهادهم، فأحسنوا الاختيار وتجنبوا ما فيه ضرر عليهم في أبدانهم، أو أخلاقهم، وخير هدية ما كان أبقى من كتاب نافع أو وسيلة تعليمية تقضي على فراغهم وتزيد في إدراكهم.
وكذا من الألعاب المباحة التي تقرب بعضَهم إلى بعض وتزيد في ألفتهم.
واحذروا ما كان فيه ضرر عليهم مما فيه صور سيئة، أو الألعاب والآلات الموسيقية.
وكذا ما كان فيه خطر عليهم فالدراجات والدبابات لا تكون هدايا للسفهاء يجوبون بها الشوارع، ويغيبون بها عن ملاحظة آبائهم.
والسيارات لا تعطى المراهقين يهلكون بها أنفسهم، ويكونون سبباً لإلحاق الضرر بغيرهم، فتنقلب فرحة النجاح إلى ألم وحسرة عليه وعلى ذويهم.
فاتقوا الله في أبنائكم، ولا تخضعوا لشدة إلحاحهم فهم أمانة عندكم تسألون عنهم في الدنيا، وتسألون عنهم يوم القيامة، فعظوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً، وبينوا أن منعهم عنهم ليس بخلاً منكم، ولا كرهاً لحالهم، وإنما هو خوف عليهم وحماية لهم مما يسوءهم.
بارك الله لي ولكم...
الحمد لله على إحسانه،...
أما بعد:
فلعلك بعد هذا أدركت أن شأن الهدية في الدين شأن عظيم؛ فتمش فيها على شرع رب العالمين.
وإياكم من تقليد الكافرين أو محاكاتهم في هداياهم وعاداتهم، فالمناسبات الدينية للكافرين من النصارى، وغيرهم، لا يجوزوا للمسلم أن يشارك فيها بهدية تدل على رضاه بما هم عليه من الكفر.
وكذا الهدايا التي لا يعرف لها المسلم معنى في دينه، ولا سابقة في عرفه، وإنما تسربت إلينا من خلال الانفتاح الإعلامي، والتقليد للرجل الغربي؛ فباقة الزهور تحمل هدية للمريض، تقاليد واردة إضاعة في أموالنا أنكرها علماؤنا، ولا معنى لها في ديننا.
وخير منها جرة عسل فيه شفاء للناس، أو ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم، أو شريط يقضي بسماعه فيه وقته.
ومما يجهله بعض الناس أن يهدي الإنسان لموظف على رأس العمل، ويكون سبب إهدائه كونَه على هذه الوظيفة، ولو أنه تخلَّى عن وظيفته لم يهده كمن يهدي للقاضي، أو مدير الشركة، أو رئيس القسم، وكذا مدراء المدارس والمدرسين، ونحوهم من الموظفين اللذين لهم مرتبات من الدولة، فإنَّ هؤلاء لا يجوز لأحد أن يهديهم شيئاً لا من المال، ولا من الأشياء العينية؛ كساعة، أو قلم، أو كتاب، ولا من الطعام بشرط أن يكون سبب الإهداء هو هذا المنصب الذي هو فيه، ولا يجوز لمن أهدي له شيء من ذلك قبوله، حتى ولو زعم أنه واثق من نفسه، ولن تؤثر هذه الهدية على عمله.
وبهذا تعرف أن َّ الهدايا التي يقدمها الطلبة للمعلمين في آخر العام، أو الطالبات لمعلماتهن أنها من هدايا العمال التي يجوز إعطاؤها، ولا يجوز لمعلم قبولها، وقد تصل بعض هذه الهدايا أن تكون من الرشوة التي لعن الله آكلها ومعطيها.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك، فهو غلول" [رواه أبو داو].
ويشهد لهما ما في الصحيحين عن أبي حميد قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً على الأزد، يقال له: ابن اللتبية، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له".
وإنه يتأكد على إدارة المدرسة أن تؤكد على منسوبيها من المدرسين ألا يقبلوا شيئاً من الهدايا من طلابهم، واستباقاً للإحراج، ودفعاً للمحذور أقترح: أن تشعر الإدارة طلابها بمنع هذه الهدية في وقت مبكر لا ترفعاً عنها، ولكنها لحرمتها شرعاً ويستوي في هذا الحكم أن يكون الطالب متخرجاً، أو بقيت له علاقة في المدرسة، وقد ثبت أن هذه الهدايا فيها من المفاسد الشيء الكثير فقد كانت محل تنافس مذموم بين الطلبة!.
أيهم يهدي معلمه أكثر، وأيهم يبدع في اختيارها وتنميقها وتحسين تغليفها، ولا يخفى أنَّ هذه قد تكون مثقلة لكاهل الأب ومزاحمة لدخلة المحدود لا سيما إذا تعدد أبناؤه المهدون.
وربما أهدى أحد الطلبة معلمه مجاملة ومجاراة لزملائه وقلبه على غير هذه الهدية، ووده إلى غير هذا المعلم.
وقد تورث روحاً من الغيرة بين المعلمين بحيث هذا أهدي له، وهذا لم يهد له، فلعلها تبذر التحاسد بينهم، وتدب بسببها روح الاختلاف فيهم.
وإن كنا نرغب في مكافئة المحسن وتشجيع المتفاني في عمله، فلا يستوي المدرس والموظف الناصح في عمله الذي راقب الله قبل أن يراقب الناس، لا يستوي هو ومن جعل عمله هماً يسعى إلى إلقائه عن كاهله بأي صفة كانت: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص:28].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فًإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنهم قد كافأتموه".
فمكافئة المحسن من هؤلاء تكون بالدعاء له، والثناء عليه بحسن صنيعه، والكلمة الصادقة لها أثر في التشجيع قد يفوق ما تبذله من مالك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي