إنّ من أولى الأولويات اليوم أنْ نعطى الأولوية للقرآن الكريم بالدعوة به وبمنهاجه وأسلوبه، فهو كلام الله الذي تقشعر منه الجلود، وتتأثر به جميع المخلوقات، يتأثر به الإنس والجن، ويتأثر به الحيوان والحجر والشجر، نظراً لِما أودعه الله -سبحانه وتعالى- فيه من أسرار وبراهين وحجج دامغة...
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، الذي أنزل على عبده ورسوله كتابًا، مَن تمسك به فاز بالسعادة في دنياه وأُخراه، ومَن أعرض عنه أخزاه وأرداه، وبثوب الهوان كساه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والصاحبة والولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور القرآن والإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء : 88] لقد تحداهم الله في هذه الآية توبيخاً لهم وتبكيتاً بهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، فتحداهم بأقل من هذا التحدي، تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [هود : 13]، ثم تحداهم بأقل من ذلك، وهو أن يأتوا بسورة فقط من مثله، فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة : 23]، ففي المرة الأولى تحداهم أَنْ يَأْتُوا بِقرآن مِثْلِه فلم يستطيعوا، فتحداهم في المرة الثانية أن يأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فلم يستطيعوا، فتحداهم في المرة الثالثة أن يأتوا بِسورةٍ واحدة فقط مِنْ مِثْله فلم يستطيعوا.
فلو اجتمع الخلق كلهم، إنسهم وجنهم، وتظاهروا وتعاونوا وكان بعضهم لبعض عوناً ونصيراً على الإتيان بمثل هذا القرآن فلن يستطيعوا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَكُمْ، وَلَو اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ما جاءُوا بِهِ", فقالوا عند ذلك، وهم جميعا: ... يا محمد ما يعلِّمك هذا إنس ولا جان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدكمْ في التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ"، فقالوا: يا محمد، إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا تقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله -عزّ وجلّ- فيهم وفيما قالوا ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [ جامع البيان ( 17/547) ].
إنه القرآن المعجز حبل الله المتين، من اهتدى بهديه فاز فوزاً عظيماً في الدارين، ومن طلب الهدى في غيره خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، فهو المعجزة الباقية، والعصمة الواقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، هو شفاء لما في الصدور، وحكم عدلٌ عند اشتباه الأمور، كلام جزل فصلٌ ليس بالهزل، نور لا يخبوا ضياؤه، ولا يُخمد سناؤه، وبحر لا يدرك غوره، كل كلمة منه لها عجب، ولها في وقعها طرب، عجيب في إشاراته، بديع في انتقالاته، فيه قصص باهرة، وحكم زاهرة، ومواعظ زاجرة، وأدلة ظاهرة ، إذا دعا جذب، وإذا زجر أرعب، وإذا رغب شوق، وإذا وعظ أقلق، وإذا أخبر صدق، إذا وعد أبهج، وإن كان وعيداً أزعج، فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وأنزله بأبدع معنى وأعذب أسلوب، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : 16].
إنه القرآن أبهر الناس بإعجازه، وفصاحته، وبراعة إيجازه، فدانت له القلوب، وتأثرت به النفوس، وخضعت له المشاعر، وانقادت لسماعه الأسماع، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- كان في الجاهلية خصماً عنيداً وعدواً لدوداً للإسلام، وللنبي -صلى الله عليه وسلم-، فما الذي غيّره؟ ومن الذي حوله ؟ إنه القرآن عند ما قرأ: ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه 1: 8]، فتأثر عمر، ورق قلبه، ولان صدره، حتى عرف الصحابة تأثير القرآن في وجهه فطمعوا في إسلامه، فاسلم متأثراً بالقرآن، وببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له.
وهذا النجاشي ملك الحبشة، رجل أعجمي ليس بعربي، سمع جعفر الطيار حينما قرأ عليه: (كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم 1: 6]، فلما سمع النجاشي هذه الآيات العظيمات بكى حتى أخضلت لحيته بدموعه، ثم قال إن هذا -أي القرآن- والذي أنزل على عيسى -يقصد الإنجيل- يخرج من مشكاة واحدة .
وإن تعجب فأعجب من أبي جهل، وأبي سفيان، وغيرهم من صناديد قريش، وأئمة الكفر، كانوا يتسللون في ظلمة الليل إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسمعوه وهو يرتل القرآن ترتيلاً، ولهذا فإنهم عند ما تأكدوا أن لسماع القرآن تأثيراً كبيراً على النفوس والقلوب، قالوا للناس كما قال الله عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : 26].
حتى الجن تأثروا بالقرآن، وأثّر فيهم القرآن، واسمع: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن : 1، 2] ويقول الله عنهم: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : 29 ، 30].
أيها الناس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاثة عشر سنة لم يحمل فيها السيف، ولم ينزل فيها الأمر بالجهاد بعد، فكان -صلى الله عليه وسلم- يجاهد المشركين بالقرآن، والحجة والبيان باللسان، يجاهدهم بالدعوة، والتوجيه، والإرشاد، والتبصير، والوعظ، والتذكير بالقرآن، كما أمره ربه بذلك فقال له: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان : 52]، فهذه الآية العظيمة مكية، نزلت والنبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، فعُلم أن المقصود بالجهاد هنا هو جهاد الكلمة والحجة، إلى أن نزل الأمر بالجهاد بالسيف واليد والسنان في المدينة، مع مواصلة الجهاد باللسان والحجة والبيان، يقول حسان -رضي الله عنه-:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب *** وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا
تأملوا هذه الآية التي يخاطب الله فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ) ففي هذا لفتة عظيمة وإشارة مهمة، إلى أن الكافرين لن يتركوا لك هذا القرآن، وإنما سيثيرون لك الشبهات، ويقومون باختلاق الحجج الباطلة لمعارضة القرآن ورد آياته، فأمره أن يبذل كل جهده، ويتحرك بكل ما يستطيع لرد هذه الشبهات، ودحض هذه الحجج الباطلة، فقال له: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) فاستخدم كلمة "الجهاد" هنا ليحثه ربه على أن يبذل جهده كله، ويستخدم كل مجهوده في الذود عن القرآن، ورد شبهات الكافرين والمنافقين حوله.
فلماذا صار جهاداً وجهداً؟ لأن هناك كفرة ومنافقين لن يتركوا له أدلة القرآن وحججه الباهرة، وإنما سيقومون بإثارة الشبهات حول آياته، وسيعارضون هذه الحجج والبينات، فطالبه ربه أن يتحرك في أكثر من محور، وأكثر من جهة بكل جهده، ليذود عن القرآن شبه الكافرين والمنافقين، هذا من ناحية، والناحية الأخرى أن يقدم هدايات القرآن وأدلته وحججه لمن يريد الهداية، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعمل على الجهتين يبين ويفسر ويوضح لمن يريد البيان، ويبحث عن الهداية بالقرآن، ويرد ويدافع ويدفع الشبه التي تثار حول القرآن، وهذا يدل على مبلغ الخوف والذعر الذي تضطرم به نفوس الكافرين والمنافقين من تأثير هذا القرآن العظيم عليهم، فخوفهم من القرآن جعلهم يعارضون ويشوشون، ويختلقون الشبهات حوله، يظنون أنهم بمعارضتهم لآياته سيصدون الناس عنه، وما علموا أنهم يضرون أنفسهم، ويتسببون في نشر هذا النور، فإن من الناس من هو باحث حقاً عن الحقيقة، فإذا سمعها تأثر بها، وعرف أنها الحق من عند الله -تبارك وتعالى-، وكم من الناس في آفاق الدنيا قديماً وحديثاً ما تأثروا إلا بالقرآن، وما دخلوا في الإسلام إلا بسبب القرآن، وما لا نت قلوبهم إلا بآيات القرآن.
فما أحوجنا اليوم ونحن في هذا العصر الذي تقارب فيه العالم، وسهل فيه التواصل والاتصال مع الآخرين إلى هذا الجهاد العظيم، بهذا الكتاب العظيم، من خلال الدعوة إلى الله به، ورد شبهات المنافقين والكافرين بالحجة والبرهان من خلال آياته، والعمل على نشر الحق والخير الذي تحتويه هذه الآيات البينات، ومنع المنكرات الفعلية والقولية في المجتمع من خلال الكلمة الصادقة، والحجة القاطعة، والأدلة الباهرة التي يحتويها هذا الكتاب المبين، وهذا هو الجهاد بالقرآن كما سماه الله -سبحانه وتعالى-.
إنّ من أولى الأولويات اليوم أنْ نعطى الأولوية للقرآن الكريم بالدعوة به وبمنهاجه وأسلوبه، فهو كلام الله الذي تقشعر منه الجلود، وتتأثر به جميع المخلوقات، يتأثر به الإنس والجن، ويتأثر به الحيوان والحجر والشجر، نظراً لِما أودعه الله -سبحانه وتعالى- فيه من أسرار وبراهين وحجج دامغة، ويكفي أن الحق -سبحانه وتعالى- جعله روحاً، والروح هي سر الحياة في كل شيء، فإذا غابت الروح حلّ الموت محلها، يقول الإمام الشوكاني -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] : أي: "جاهدهم بالقرآن واتلُ عليهم ما فيه من القوارع والزواجر، والأوامر والنواهي".
أيها الناس: إن من أعظم الأعمال الصالحة في هذا العصر عصر المعلومات والتكنولوجيا، أن يعمل الإنسان بالقرآن: بتفسيره للناس ونشره بينهم، وتوضيح أحكامه لهم، وتنزيل فقهه في واقعهم، وتوضيح آياته وحججه لهم، ورد الشبهات التي تثار ضده، فهذا من أعظم الأعمال وأكبر الطاعات، ومن فعل هذا فهو مجاهد في سبيل الله بنص القرآن العظيم كما قال الله: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) [الفرقان: 52].
فما أعظمها من منقبة، وما أجمله من شرف وفخر لمن دعا إلى الله تعالى بالقرآن، وقام بتوضيحه للناس، كما كان أئمتنا الأولون وسلفنا السابقون يجاهدون بالقرآن، ويدعون الناس بالقرآن، فحازوا السبق، ووصلوا إلى أعلى القمة بالقرآن، رفعهم الله به، وعزهم ورفع شأنهم وقدرهم عندما اشتغلوا بتوضيح آياته، وبيان أحكامه، وإظهار معجزاته، وإذا كان هذا في تلك العصور التي كان من الصعب فيها تناقل المعلومات ونشر العلم، فإننا اليوم بفضل الله نعيش في زمن صار العالم فيه كأنه بلدة واحدة، فيستطيع الواحد منا بضغطة زر أن ينشر القرآن بأي لغة من اللغات التي يريد، كما يستطيع الواحد منا اليوم أن ينشر تفسير القرآن بين الناس بسهولة بالغة وبعدة لغات، ويستطيع كل فرد منا أن يشتري ولو كتاباً واحداً حول معجزات القرآن، وبلاغته، وأحكامه، وحججه البالغة، ثم يودع هذا الكتاب في شيء من المكتبات العامة والعالمية، ليطلع عليه ملايين البشر، ويقرأه الآلاف منهم.
يستطيع كثير من الشباب أن يضعوا نسخاً إلكترونية من الكتب المؤثرة التي تتحدث حول القرآن وتدافع عنه في المجموعات والصفحات والمواقع، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : 19]، ويقول: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) [الأنبياء : 45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه كان غفاراً.
الْحَمد لله الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على جَمِيع الْأَدْيَان، وأيده بِالْآيَاتِ الظَّاهِرَة والمعجزات الباهرة وَمن أعظمها الْقُرْآن، وَأقَام لَهُ جُنُودا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار يجاهدون مَعَه بِالحجة والبيان، والسَّيْفِ والسهم والسنان، صلى الله وسلم وبارك على نبينا العدنان، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن المرء مهما بلغ من الفصاحة، والخطابة، والأساليب، فليعلم علم اليقين أنه لن يؤثر في الناس بكلامه، ولا بخطاباته، ولا بأساليبه الرنانة، وأقواله المؤثرة، مالم يستخدم في خطبه وخطاباته القرآن، ويحرك الناس بآيات القرآن، ويزلزل قلوبهم بمواعظ القرآن، ويوجه عقولهم بحجج القرآن وأدلته.
إن أعداءنا يئسوا من غزونا عسكرياً وحربياً، وعلموا وتأكدوا أن هزيمتنا بالحروب المباشرة والحملات الصليبية عن طريق المواجهة الحربية مستحيلة، ولن تغير فينا شيئاً، بل تزيدناً إصراراً وتمسكاً بديننا، وإحياء للجهاد في سبيل الله في واقعنا، ففكروا أن يغيروا الأسلوب، ويبدلوا الطريقة، وذلك عن طريق الغزو الثقافي والفكري لتبديل ديننا، وتحريف شريعتنا، وبث الشبهات حول مصادرنا، والتشكيك فيها، فتأثر بذلك خلق كثير من أبناء جلدتنا، وبني جنسنا، فلذلك فإن أعظم الجهاد اليوم هو جهاد التعليم والتوجيه عن طريق هذا الكتاب العزيز بالبلاغ المبين، بدون تحريف لآياته، ولا تأويل فاسد لمعانيه وأحكامه كلها، (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52].
يقول سيد قطب -رحمه الله- في (ظلال القرآن): "إن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان، وتأخذ على النفس أقطارها، ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد، فلا عجب أن يأمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يطيع الكافرين، وألا يتزحزح عن دعوته، وأن يجاهدهم بهذا القرآن، فإنه يجاهدهم بقوة لا يقف أمامها كيان بشري ولا يثبت حيالها جدال أو محال".
أيها الناس: لقد جعل الله لهذا النوع من الجهاد سهماً من الزكاة لأهميته، وهو سهم "وفي سبيل الله"، ويكون هذا السهم لخدمة هذه المعركة العظيمة معركة الكلمة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" [النسائي (4209) ]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ" [ أبو داود (2504) ].
فلابد من مواجهة هؤلاء الذين يريدون أن يمسخوا عقل الأمة، ويغيروا هويتها، ويميعوا فكرها، ويضيعوا شبابها ومستقبلها، بهذا النوع من الجهاد جهاد الحجة والبيان عبر القرآن، لأن هؤلاء المنافقين لن ينفع معهم إلا هذا الجهاد، فإذا كان الجهاد بالسيف يكون للكفار الواضحين، فإن الجهاد بالبيان يكون لهؤلاء المنافقين المارقين، الذين يطعنون في الإسلام، ويشككون في صلاحية أحكامه لهذا الزمان، ويزعمون أن شرع الله لا ينفع مع هذا القرن وهذه العصور المتأخرة، يقول الله -سبحانه وتعالى- في وصفهم وفضحهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء : 61]، ويقول -سبحانه- (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور 49: 50] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء : 60].
ولله در الشاعر العشماوي حين يقول فيهم:
كم شاعر جعل الإِلحاد منهجه *** تواثبوا نحوه بالشوق واعتنقوا
ساروا وفي دربهم وحلٌ فإِن وقفوا *** غاصوا وإن حرّكوا أقدامهم زلقوا
أبناء جلدتنا لكنهم هجروا *** وأهل ملتنا لكنهم مَرَقُوا
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها، وحاضرها ومستقبلها، وأضاعوا شباب الأمة وأوقعوهم في التيه الكبير والفساد العظيم، وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلاً تامًا، فتصدت لهم الأيادي المتوضئة، والألسن الذاكرة ولم يتركوهم ليفسدوا المجتمع، ويتطاولوا على المبادئ والأصول والثوابت، وهذا هو الجهاد العظيم، فما هو نصيبنا وحظنا من هذا الجهاد الكبير يقول الله -سبحانه وتعالى- في آيتين متطابقين من كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة : 73]، [التحريم : 9] ويقول: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان : 52].
ألا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بكم أيها المؤمنون من إنسه وجنه، فقال عز من قائل كريم حكيم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اكتب لنا بجمعنا هذا نصيبًا من الجهاد بالقرآن، وارزقنا فيه النية الصادقة والعمل الخالص.
اللهم وفقنا للدفاع عن دينك، وكتابك، ورسولك صلى الله عليهم وسلم.
اللهم أجعلنا أنصاراً لدينك، واختم لنا بالشهادة في سبيلك، ووفقنا لما تحب وترضى، وخذ بأيدينا إلى كل خير، وأبعدنا عن كل شر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي