حقيقة إيمانية يجب على كل مسلم أن يصدِّق بها، فلا يكون مؤمناً بدونها: إن القلم قد جرى فكتب في اللوح المحفوظ كل شيء كان، وكل شيء يكون، وكل شيء سيكون، فكله مكتوبٌ مسطورٌ في كتابٍ مكنونٍ، فلا يقع في الأرض ولا في السماء إلاَّ ما قضاه الله وكتبه في ذلك الكتاب، وما يصيب الدنيا من خيرٍ أو شرِّ إلا وهو معلوم مقدَّر قبل خلق السموات والأرض.
الحمد لله...
أما بعد: تدبر أخي الحبيب وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " رواه مسلم.
حقيقة إيمانية يجب على كل مسلم أن يصدِّق بها، فلا يكون مؤمناً بدونها: إن القلم قد جرى فكتب في اللوح المحفوظ كل شيء كان، وكل شيء يكون، وكل شيء سيكون، فكله مكتوبٌ مسطورٌ في كتابٍ مكنونٍ، فلا يقع في الأرض ولا في السماء إلاَّ ما قضاه الله وكتبه في ذلك الكتاب، وما يصيب الدنيا من خيرٍ أو شرِّ إلا وهو معلوم مقدَّر قبل خلق السموات والأرض.
ففي سنن أبي داود عن عُبَادَة بْن الصَّامِتِ -رضي الله عنه- أنه قال لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ. فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ! وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي". وروى أحمد والترمذي نحوه. وصححها الألباني.
عباد الله: إن المؤمن الذي يؤمن بأقدار الله، إذا أصابه شيء من أقدار الله -تعالى- مما يكره، تعلق بخالقه، والتجأ إليه، فهو الذي قدَّرها عليه، وهو -عز وجل- قادر على أن يرفعها عن عبده، فإن الله -تعالى- يقدِّر الأمر على العبد؛ يمتحن صبره، ويختبر إيمانه، وينظر صنيعه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2]، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
فإن آمن بقضاء الله، -تعالى- ورضي بقدره، وصبر وتصبر، واحتسب أجره عند ربه، وأحسن الظن بربه، واعتصم به والتجأ إليه، ولاذ برحمته، أعطاه الله من الأجر والفضل ما لا يحصى، وكشف عنه البلاء والمحنة، (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
إن عباد الله الصالحين من الأنبياء وغيرهم، كيف يتلقون أقدار الله -تعالى-؟ (وأيُّوبَ إذْ نادَى ربَّه أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وذِكْرَى لِلعَابِدِينَ) [الأنبياء:83-84].
ويونس -عليه الصلاة والسلام- يبتلعه الحوت، (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88].
في صحيح مسلم عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَد فِي الْأَرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
أيها المسلمون: إن العبد المؤمن إذا أصابه البلاء من الله راجع نفسه واتهمها، وعلم أنه ما أصابه الذي أصابه إلا بذنب اقترفه، وعبادة قَصَّر فيها، (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79]، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
فعلى العبد المؤمن أن يراجع نفسه ويحاسبها: كيف أنا مع فرائض الله؟ كيف أنا مع بيوت الله؟ كيف أنا مع نوافل العبادات؟ كيف أنا مع كتاب الله؟ كيف أنا مع ذكر الله؟ كيف أنا مع والدي؟ كيف أنا مع جيراني؟ كيف أنا في معاملاتي؟ كيف أنا في كسبي؟ كيف أنا في نفقتي؟...
وما يزال العبد يسائل نفسه ويحاسبها ويعاتبها، ويحدث من أمره توبة وندماً، ويستغفر ربه ويطلب عفوه، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
ينطرح المؤمن بين يدي ربه مستسلمًا منيبًا، ويعاهد نفسه ويعاهد ربه أن لا يعود لما كان عليه من التقصير والتفريط، ويحسن ظنه بربه الغفور الغفار، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
يروى أنه حاصر جيش من جيوش الإسلام حصناً فطال الحصار، وتأخر النصر، فأمر الأمير قواد جيشه أن ينظروا في الجند، فلعل ذنباً وقع فيه بعضهم، وعبادة قصر فيها بعضهم، فنظروا فإذا هم على عبادة وطاعة، غير أنهم ينقصهم السواك، فأمرهم القائد بأن يقطعوا أغصان الأشجار فيجعلوا منها مساويك فيستنوا بها، ففعلوا، فرآهم العدو فقالوا: إن المسلمين يسنون أسنانهم ليأكلوكم، فدبَّ الرعب في قلوبهم، ففتحوا الحصن، وسَلَّمُوا للمسلمين.
وروي أن محمد بن سيرين ركبه دين فقال: "إني لأعرف الذنب الذي حمل به عليّ الدين ما هو، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس". قال أبو سليمان الداراني: "قَلّت ذنوبُهم فعرفوا من أين يُؤْتَوْن، وكثُرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نُؤْتَى".
عباد الله: إن بعض الناس إذا وقع عليه البلاء تسخط وجزِع، وأساء الظن بربه، وربما استعان بما فيه معصية الله في تجاوز تلك المحن، أو كفر به، كمن يستعين بسحرة أو كهنة ومشعوذين، وهذا وأضرابه منافٍ لمقام التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، رُوِي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن صبرت جرَت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جَزِعت جَرَت عليك المقادير وأنت مأزور".
وفقني الله وإياك لحسن الإيمان، ونسأله -جلَّ وعلا- العون والسداد، ونستغفره من خطيئة وزلل، إنه هو الغفور البَرُّ الرحيم.
الحمد لله...
أما بعد: إن الإيمان بأقدار الله -تعالى-، والتسليم لقضائه -عز وجل-، والرضا بما كتبه -جلَّ وعلا-، لا يعني عدم اتخاذ الأسباب الصحيحة في معالجة النوازل، والسعي في تلافي آثارها أو تخفيفها، والمبادرة إلى أسباب الوقاية منها.
بل إن اتخاذ الأسباب في ذلك كله هو أصل التوكل على الله -تعالى-، ومنبع الإيمان بأقدار الله، فإن الحبيب نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الهجرة لم يركن إلى عصمة الله له من الناس، بل اتخذ أسباب السرية في الاستعداد والتحرك، والتخفي في الخروج والمسير، والتمويه في الطريق، مع اللجوء الصادق إلى ربه، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].
ونقرأ ونسمع في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل، عن هذا البلاء الذي يمتحن الله به قلوبنا، ويبتلي إيماننا، ودَبَّ في القلوب خوف الموت، وخشية المرض، حتى بلغ ببعض الناس إلى الوسوسة.
والجدير بالمؤمن أن يأخذ الأمر بإيمان وتوكل على الله، فلا نهوِّن من شأنِ ذلك المرض لدرجة التهاون وعدم المبالاة، ولا نهوِّله لدرجة الهلع والجزع؛ بل نجعل ذلك طريقًا لمراجعة النفس، ومعاتبتها، ومحاسبتها، والإقبال على الله -تعالى- والتضرع إليه، والالتجاء به، مع اتخاذ وسائل الوقاية من ذلك المرض، وأهمها العناية بالنظافة التامة في كل شيء، وعدم مخالطة المرضى بذلك المرض المخالطة المباشرة إلا مع اتخاذ الوسائل الوقائية، ومتابعة الإرشادات الصحية الصادرة من جهات الاختصاص.
نسأل الله -تعالى- أن يقي البلاد والعباد الشرور كلها...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي