إن الواجب على كل راعٍ أن يدرك حجم المسئولية التي تولاها، وعظم الأمانة التي يقوم عليها، وأن يعلم أنه مسئول عنها أمام الله -سبحانه-، وأن الله سائله عما تولاه، وسيقف بين يدي الله -جل وعلا- فيسأله سؤالاً دقيقاً عن أمانته، فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً...
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرسل رسله بالبينات والهدى، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ وَأَيَّدَهُ بِالسُّلْطَانِ النَّصِيرِ، الْجَامِعِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَلَمِ لِلْهِدَايَةِ وَالْحُجَّةِ؛ وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالسَّيْفِ لِلنُّصْرَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهادة خالصة أخلص من الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.
أما بعد:
عباد الله: نتحدث اليوم عن موضوع هام جداً، نذكر به الغافل، وننبه به الساهي، ونلفت إليه كل راعي، إنه موضوع تفقد الراعي للرعية، وسؤال المسئول عن السائلين، والحاكم على المحكومين.
ربما يتبادر إلى ذهن الكثيرين منا حينما يتحدث متحدث عن الراعي والرعية؛ أن الراعي هو الحاكم والرعية هم الشعب، ولكن لفظ الراعي أعم وأشمل من الحاكم، إذ أن الحاكم يدخل تحت مفهوم الراعي، ويدخل الوالد والمدير والمسئول وكل من تولى مهمة معينة أو تولى رعاية أمر معين فهو راعي، وعلى هذا فإن كل واحد منا لا بد أن يكون راعياً على شيء، وما منا أحد إلا وله مسئولية هو مسئول عنها، أو رعاية يرعاها، ولو لم يكن لأحدنا إلا نفسه يرعاها فإن هذه الرعاية هي أعظم الرعاية وأكبر المسئولية.
إن الرعاية هي حفظ الشيء، وتفقد أحواله، وإعطاؤه ما يصلحه ويحتاج اليه، وصرف عنه ما يؤذيه وما لا فائدة له فيه، ووقايته مما يعدو عليه أو يضره، وكل من جعل الله تحت يده شيئا من مخلوقاته فقد استرعاه ذلك الشيء وجعله في رعايته، وطالبه بأن يرعاه، وكلفه بالقيام به وصيانته، فصار مسؤولا عنه أمام الله -عزو وجل-.
إنها مسئولية خطيرة، وأمانة عظيمة، عجزت المخلوقات العظيمة عن تحملها، ونأت السموات والأرض والجبال عن القيام بها، وقام الإنسان الظلوم الجهول بحملها والتكلف بها، فمن كان عاقلاً مدركاً فلا يكثر من تحمل مسئوليات فوق ما يتَحمله، ولا يطلب من الأمانات والمسئوليات فوق ما عنده مما لا طاقة له به، فإن الحمل ثقيل، والحساب دقيق، والمسئولية صعبة، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب 72: 73].
وروى مسلم عَنْ أَبِي ذَرّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا" [مسلم (1825) ]، فهذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية والمسئولية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أبا ذر عن تولي الولاية وتحمل المسئولية، وأخبره أنها من حيث هي أمانة، والأمانة ليست سهله، وأخبره أيضاً أنه ضعيف لا يقدر على تحمل تلك المهمة، فينبغي للإنسان أن ينأى بنفسه عن تحمل الأمانات والمسئوليات، وخاصة في زماننا هذا الذي عمّ فيه الفساد، وانفجر فيه الفجور، وانتشر فيه الشر، وقل أن يسلم فيه مسئول من سلوك المسالك الخاطئة.
إن الواجب على كل راعٍ بالمفهوم العام والتعميم المتقدم أن يدرك حجم المسئولية التي تولاها، وعظم الأمانة التي يقوم عليها، وأن يعلم أنه مسئول عنها أمام الله -سبحانه-، وأن الله سائله عما تولاه، وسيقف بين يدي الله -جل وعلا- فيسأله سؤالاً دقيقاً عن أمانته، فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، فالواجب على كل واحد منا أن يقوم بواجبه، وينصح لرعيته، ولا يدخر جهداً في تفقد ما تولاه، وإعطائه ما يحتاج اليه، فإذا قصر في شيء من هذا فقد غش رعيته، ومن غش رعيته فحرام عليه رائحة الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" [مسلم (142) ].
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " [ البخاري (893) مسلم واللفظ له (1829) ].
أيها المسلمون: إن من أعظم الواجبات وأولى الأولويات على الراعي تجاه رعيته أن يتفقدهم، ويسأل عن أحوالهم، ويتلمس همومهم ومشاكلهم، ويلبي حوائجهم وطلباتهم، ويحفظ حقوقهم، ويتعاون معهم على أداء مسئولياتهم، وينصح لهم، ويكثر لهم الخير ويقلل لهم الشر، مع حفظ حقهم في الإجلال والهيبة، والتعظيم والتوقير، وأن يحذر من الوقيعة في أعراضهم، أو الجرأة عليهم بتنقصهم أو الدعاء عليهم، وعليه أن يرعاهم رعاية كاملة، ويقوم بهم على أحسن وجه وأكمل صورة.
من حق الرعية على الراعي أن يتفقدهم، ويتعرف على أحوالهم، إذ هو مسؤول عن الجليل والدقيق منها، فعليه أن يباشر بنفسه ما استطاع مباشرته من أمورهم، ويتابع متابعة دقيقة مالم يتمكن من متابعته بنفسه، حتى تكون أحوالهم معروفة عنده، لأنهم بحاجة دائماً إلى التفقد الكامل، و التقويم الدائب، والتوجيه المستمر، والمتابعة المتتالية، لكي يبرئ ذمته عند الله -سبحانه وتعالى- حين يسأله عنهم، يقول النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا، لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ " [أحمد (9573)].
إن الرعية التي ترعاها إن كانوا بشراً فإن البشر دائمو التقلب، ولهم مطالب متعددة، واتجاهات متنوعة، ويواجهون ابتلاءات شتى، وصعوبات مختلفة، ولهذا فهم بحاجة ماسة إلى الراعي الذي يرعاهم ويتفقدهم باستمرار ومتابعة، وإن كان ما ترعاه من غير البشرية فهم أيضاً بحاجة إلى التفقد والسؤال والمتابعة.
انظروا إلى نبي الله سليمان بن داود -عليهما السلام- وهو يتفقد راعياً من الرعاة الذين أوكل بهم وتولى مسئوليتهم، لم يكن رجلاً ولا بشراً، وإنما كان طيراً من الطيور غاب عن مملكته وفارق قومه، فقام سليمان -عليه السلام- بالسؤال والبحث عنه في إطار زيارته -عليه السلام- لعالم الطير في مملكته، يقول الله -سبحانه وتعالى- عنه (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) [النمل 20: 21]، فإذا كان هذا تفقده للطيور والحيوانات، فكيف سيكون تفقده للبشر الذين يعيشون تحت سلطانه ومسئوليته؟ فإذا لم تلهه مسئوليته، واتساع دائرة مملكته، وكثرة العوالم التي تتبعه، عن تفقد الطير، وتولى الإشراف عليها بنفسه، فإن غيرها من باب أولى، بل إنه -عليه السلام- قام في زيارته هذه بسؤال دقيق عن طائر معين وهو الهدهد، مما يعني أنه على علم تام وتفقد كامل بأحوال مملكته وأخبار رعيته، بشكل كامل ومفصل.
هذا هو التفقد المطلوب لأحوال الرعية، التفقد الذي لا يغفل شيئاً، ولا يهمل أحداً، ولو كان تافهاً أو صغيراً ،كالهدهد على صغره وصغر مكانته، فهو طير ضعيف وليس هو من الطيور الضخمة أو المميزة، يعيش في مملكة متسعة تحت إمرة سيدنا سليمان، ومع ذلك فإن نبي الله سليمان -عليه السلام- لم يغفل عن تفقده.
وهذا يعطينا درساً في دوام المباشرة لأحوال الرعية, وتفقد أمورهم كلهم, والتماس الإحاطة بجوانب الخلل عندهم، سواء كان في أفرادهم أو جماعاتهم، وصغيرهم وكبيرهم، وجليلهم وحقيرهم، وعدم الاكتفاء معهم بمجرد السؤال المجرد عن المتابعة، وإنما يجب أن يتفقدهم تفقداً متكاملاً وليس تفقداً عابراً، فإن سليمان -عليه السلام- لم يسأل عن الهدهد لمجرد أن يعرف هل هو حاضر أم غائب، وإنما سأل سؤال متابعة ومحاسبة، (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) [النمل : 21].
أما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد ضرب المثل الأروع والأعلى في تفقد الرعية ومتابعة المتبوعين، فقد كان بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- يتفقد أصحابه ويتابعهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، و الاقتصادية والصحية، ويتابعهم في الجهاد في سبيل الله، ويقف في مؤخرة الجيش ليحمل الضعيف ويعين المكلوم، ويتابعهم في أفراحهم وأحزانهم، ويتفقدهم ويعُودُهم ويسأل عنهم، ويرسل إليهم، مع ما عنده -صلى الله عليه وسلم- من الأشغال والارتباطات والهموم الكثيرة.
بل إن هذه الأشغال والارتباطات والهموم لم تمنعه -صلى الله عليه وسلم- ولم تشغله عن متابعتهم، والسؤال عنهم، فيتابعهم حتى في أحوالهم مع الأعمال الصالحة، وخاصة في زمن الفتن والابتلاءات، يقول زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه-: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَسْجِدَهُ فَقَالَ: "أَيْنَ فُلَانٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَيَتَفَقَّدَهُمْ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى تَوَافَوْا عِنْدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَآخَى بَيْنَهُمْ، ... إلخ الحديث" [ أحمد (1137) ].
وروى مسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ " [مسلم (2472) ].
وعن مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ -أي مات- فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَذَاكَ لَكَ" [النسائي (2088) ].
كما كان يتفقدهم -صلى الله عليه وسلم- في حالهم مع الأعمال الصالحة فيقول لهم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" [مسلم (1028) ].
والأمثلة والشواهد على تفقد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه كثيرة ومتنوعة جداً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
عباد الله: يجب على كل من استرعاه الله رعية أن يتفقدها، ويقوم عليها قياماً صحيحاً، فالحاكم تجب عليه مسئولية عظيمة، ورعايته هي أعظم الرعاية وأكبرها، لأنه مسئول عن الأمة بأجمعها، فإذا لم يتفقد رعيته، ولم يتولهم تولياً كاملاً، أو احتجب دونهم، أو شق عليهم، فإنه موعود بالعذاب الأليم والعقاب الشديد، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ" [مسلم (1828) ]، ويقول عليه -الصلاة والسلام-: "مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ، وَفَقْرِهِ" [أبو داود (2948) ].
انظروا إلى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- وهو يتفقد رعيته تفقداً عجيباً، فقد كان يبكي فيقال له ما الذي يبكيك؟ فيقول: "أخاف أن يسألني عن دابة عثرت ببغداد فيقول لي لم تسوي لها الطريق يا عمر". الله أكبر! تفقد دقيق جداً لرعيته حتى الدواب يحمل هم تفقدها، ويخاف أن يسأله الله عنها، مع أن عمر في المدينة، إلا أنه يخشى أن يسأله الله عن دابة عثرت في أرض بغداد في بلاد العراق، فرحمك الله ورضي الله عنك يا عمر.
وقصته أيضاً مع المرأة معروفة ومشهورة، يقول عبد الرحمن بن عوف: "خرجت مع عمر -رضي الله عنه- وأرضاه ذات ليلة، فمشينا حتى أتينا إلى خيمة, فسمعنا بكاء صبيٍ من وراء الخيمة, فقال عمر: هلم يـاابن عوف , فمضيت معه إلى بيت المال، فأخذ كيساً من دقيق, وكيساً من زبيب, وحمل شحماً، فقلت: أحمله عنك يا أمير المؤمنين! قال: أنت لا تحمل أوزاري يوم القيامة، وذهب بالكيس وبما فيه ودخل الخيمة ثم أشعل النار, وركّب القدر, وصنع العشاء للأم وللطفل، فقالت له: والله إنك خيرٌ من عمر بن الخطاب، ولم تعلم أنه عمر".
عباد الله: يجب على كل مسئول، أو مدير، أو مدرس، أو وكيل، أو غيرهم ممن تولى مسئولية، وأنيطت به مهمة، أن يتفقد رعيته، ويرعاهم ويتابعهم ،ويسأل عنهم، ويعيش معهم ليكون متابعاً لهم، قريباً منهم، فوالله ما حدث التسيب والضياع والانفلات اليوم لبعض الأبناء والطلاب والعمال إلا بسبب الإهمال من مسئوليهم ورعاتهم وآبائهم، تركوهم ولم يتفقدوهم ولم يسألوا عنهم فضلوا وأضلوا، وضاعوا وأضاعوا.
فعلى المسئولين والآباء والرعاة أن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم، ويتفقدوهم ويقوموا عليهم خير قيام، فإنهم أمانة في أعناقهم سيسألون عنهم أمام الله في يوم عظيم شديد، ولا يتعذر الواحد بكثرة المشاغل وزحمة الانشغالات فإن هذا لن يعذره عن مسئوليته، ولن يعفيه عن متابعة رعيته وتفقدهم، فإن تفقدهم أولى وأهم من كل مهمة دنيوية، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال : 27].
اللهم أعنا على ما تحملنا من أمانات ومسئوليات، ووفقنا للقيام بها خير قيام على الوجه الذي ترضى به عنا.
اللهم ولي علينا خيارنا، واصرف عنا أشرارنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي