كم وكم من القرون ومن الأمم ومن القرى أهلكها الله - جل وعلا -!! فمنها قائم إلى الآن، ومنها حصيد حصده الله -جل وعلا-، فلا تجد منهم باقياً ولا أثرًا ولا نفساً منفوسة، أين هم؟! ذهبوا إلى الله -جل وعلا-، وأهلكهم الله -تبارك وتعالى-، ودمرهم ولَمْ يُبْقِ منهم أحداً، وهل هذا ظلم من الله -جل وعلا-؟! قال الله تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود:101]، ما ظلم الله -جل وعلا- أحداً، بل هم الذين ظلموا أنفسهم...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة نذير لنفسي ولإخواني المسلمين، وهي بعضٌ مِن الأسباب التي بها يدمر الله -عز وجل- القرى ويهلك الأمم.
كم وكم من القرون ومن الأمم ومن القرى أهلكها الله - جل وعلا -!! فمنها قائم إلى الآن، ومنها حصيد حصده الله -جل وعلا-، فلا تجد منهم باقياً ولا أثرًا ولا نفساً منفوسة، أين هم؟! ذهبوا إلى الله -جل وعلا-، وأهلكهم الله -تبارك وتعالى-، ودمرهم ولَمْ يُبْقِ منهم أحداً، وهل هذا ظلم من الله -جل وعلا-؟! قال الله تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود:101]، ما ظلم الله -جل وعلا- أحداً، بل هم الذين ظلموا أنفسهم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
وكم أهلك الله -عز وجل- من القرى ومن الأمم بذنوبهم وبمعاصيهم وبهذه الأسباب التي سوف نذكرها في هذه الخطبة، قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إنهم كثر وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) [الإسراء:17]، الله -جل وعلا- لا تخفى عليه خافية، ولا يحابي أحداً على أحد، وهو العدل الذي إن أهلك أمة بسبب فإنه يهلك الأمم جميعاً بهذا السبب، وهذه هي مقتضى حكمته -جل وعلا-.
فاسمع -يا عبد الله- إلى هذه الأسباب التي سوف نسردها في هذه الخطبة سرداً، ولولا ضيق الوقت لفصَّلنا فيها.
وهذه الأسباب إن وجد منها سبب؛ فاعلم أن هذه القرية وهذا البلد وذلك المجتمع وهذه الأمة تنتظر الهلاك من الله -جل وعلا-، إنْ عاجلاً أو آجلاً.
السبب الأول: الظلم: إن الظلم من أعظم الأسباب التي يهلك الله -عز وجل- بها القرى، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
وكم يحصل في بعض الأمم وفي بعض القرى من الظلم، ظلم الناس لربهم -جل وعلا-، وظلم الناس بعضِهم بعضاً، تجد كثيراً من العمال والموظفين ومن الأجانب ومن المغتربين من يمكث عدة أشهر ولا يحصل من مسؤوله ومديره وكفيله على دينارٍ واحد، وكم جاءنا ممن يبكي بين أيدينا ويشتكي من كفيله الذي حرمه لقمة العيش لأولاده!
يقول بعضهم: مكثت ستة أشهر ولم يعطنِي ديناراً واحداً، ولو اشتكيت عليه لهدَّدني بالسفر وبالرجوع والطرد إلى بلادي.
وكم هو الظلم الذي يحصل في بعض البلاد لصغار الناس والموظفين والعمال والمواطنين الذين لا يستطيعون أن يحصلوا على بعض حقوقهم فضلاً عنها كلها، إنه الظلم -يا عباد الله-!
ومن أعظم الظلم ما يكون على المؤمنين الموحدين، وعلى الدعاة إلى الله -جل وعلا-، وعلى أولياء الرحمن، وإن وقع الظلم على هؤلاء فاعلم أن هذه القرية تحارب الله -جل وعلا-، وهذه القرية تنتظر بعث الله -تبارك وتعالى- يأتيها صباحاً أو مساءً، بياتاً أو هم قائلون، واسمع إلى قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) [الكهف:59].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله-: "إن الدول تزول مع الظلم ولو كانت مسلمة"، ولو كان أهلها مسلمين، ولو كانوا مصلين، ولو كانوا راكعين، ولو كانوا ساجدين، فإنهم يزولون؛ لأن فيهم الظلم.
عباد الله: إياكم إياكم والظلم! فإن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً.
السبب الثاني: الترف وكثرة النعم: تجد بعض الناس يلبس من الملابس، ويسكن من القصور، ويركب من المراكب، ويسكن في الأثاث الوثير الذي لا يعقله عاقل ولا يستحسنه إنسان عنده مَسْكَة مِن عقل، اسمع كيف يؤدّي الترف بكثير من الناس إلى الفجور والعصيان والفسوق، حتى إنه لَمَّا يسكن في قصره البهيِّ، ويركب مركبه الفاخر؛ ينسى دين الله -جل وعلا-، وينسى أوامر الله، ولا يرضى ولا يقبل أن يُؤمَر بمعروف أو يُنهَى عن منكر؛ قال الله -جل وعلا-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) [الإسراء:16] أي: إذا أردت أن تعرف أن هذه القرية أراد الله أن يهلكها فاسمع إلى هذه العلامة: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) [الإسراء:16] أمر الله المترفين بأداء الزكاة؟! بإقام الصلاة؟! بالستر والعفاف؟! أمر الله المترفين بالحكم بكتابه؟! وبطاعة نبيه -عليه الصلاة والسلام-؟! (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [الإسراء:16] أي: عارضوا أمر الله، وعاندوا شرع الله -جل وعلا-، لا تنظر إلى الفقراء، لا تنظر إلى المساكين، لا تنظر إلى الضعفاء؛ فهم أتباع الرسل، وهم يتَّبعون أمر الله، وإذا أردت أن تعرف أمر هذه القرية هل هو إلى زوال أو إلى بقاء فانظر إلى المترفَين، وانظر إلى الملأ الأعلى، وانظر إلى الأغنياء: هل هم على شرع الله؟! هل يقيمون حدود الله؟! (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء:16]، أتعرف ما هو القول؟! إنه قول العذاب وكلمة العذاب والعياذ بالله!
السبب الثالث من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفسادها: كفر النعم: تجد بعض الناس يُنعم الله عليه فلا يَشكر الله تعالى، ينعم الله عليه فينسى حق الله -عز وجل- عليه في هذه النعمة، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل:112]، وهما مقترنان، فكثير من الناس وكثير من الأمم لَمَّا أذاقها الله لباس الجوع ولم ترجع أذاقها الله لباس الخوف، وكثير من القرى لَمَّا أذاقها الله لباس الخوف فذهب الأمن وذهبت الطمأنينة ولم ترجع أذاقها الله لباس الجوع: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، إنه بسبب كفر النعمة -يا عباد الله-!
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) [إبراهيم:7]، يحصل الواحد منهم على الملايين، بل على المليارات ولا يؤدي زكاة أمواله، ولا يُعطِي النفقة من ماله، ولا يُطعِم المسكين، ولا يُنعِم على اليتيم، ولا يُؤدِّي حق الله -عز وجل- في أمواله.
السبب الرابع من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وهلاك المجتمعات: كثرة المنافقين الذين يتولَّون زمام الأمور، ويُنَصَّبُون ويتولَّون أمور المؤمنين: المنافقون الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ومحاربة أولياء الرحمن، ويحاربون الدعاة إلى الله والعلماء وطلبة العلم والمتدينين ويتظاهرون بالإسلام، ثم مع هذا يتولَّون أمور المؤمنين، ويتولَّون زمام شؤونهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله -أي: أُعطِي الزمام من لا يستحقه- فانتظر الساعة"، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12]، يتظاهرون بالإصلاح، بل يقوم بعضهم ويقول للناس: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، يا قوم: أخاف من الفساد، أخاف أن يهلكوا هذه الأمة، أخاف أن يمزقوا المجتمع، أخاف أن يظهروا فيها الفساد، أخاف أن يغيروا دينكم؛ ولهذا قتلتُهم، ولهذا سجنتُهم، ولهذا طردتُهم، ويتظاهر المنافق بأنه يحمي هذا الدين ويحمي حوزته، ويخطب في الناس ويزعم أنه يحافظ على دينهم وعلى كرامتهم. وهذه من علامات فساد هذه الأمة وزوالها ودمارها -يا عباد الله-!
السبب الخامس: أنك تجد أهل هذه القرية وأهل هذا المجتمع يوالون الكفار ولا يوالون المؤمنين: تجدهم يوالون أعداء الله -جل وعلا-، ويفتخرون بنصرتهم وبإعانتهم، ويحاربون أولياء الله -جل وعلا-، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال:73]، أي: إن الكفار هم الذين يتولى بعضُهم بعضاً، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) [الأنفال:73] أي: إلاَّ يوالي بعضُكم بعضاً، ويوالي عباد الله المؤمنين، ويوالي الدعاة والمصلحين، ويوالي أهل العلم وأهل التقوى وأهل الصلاح: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73]، فساد يعم الأرض والمجتمع، فساد يعم القرى، فتنة تدمر الشعوب وتمزق صفوفها؛ لسبب واحد وهو أنهم والَوا أعداء الله وتركوا عباد الله، النفقات والصدقات والمعونات والإعانات كلها لمن؟! للكفار من الشعوب، لأعداء الرحمن، أما المسلمون فإنهم يموتون من الجوع، ويَهْلَكون من العُري، يطلبون ديناراً واحداً فلا يصلهم، وتُقْطَع الطرق وتُمْنَع عنهم، ولاءً لأعداء الله وبراءً من أولياء الله.
السبب السادس: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن من أسباب هلاك الأمم ودمارها وفسادها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله -جل وعلا- يقول: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25].
وكلٌّ منكم -يا عباد الله- يعلم حديث سفينة المجتمع، التي أخبر -عليه الصلاة والسلام- بأن جميع مَن فيها من الصالحين والفُجَّار يَهْلَكون إذا ترك الدعاةُ إلى الله الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فقال: "إن أخذوا على أيديهم..."، أي: منعوهم، ولم يتركوهم يفعلون المنكرات، بل دخلوا عليهم في عقر دارهم، وأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، وتجرؤوا فقالوا للظالم: أنت ظالم، وقالوا لصاحب الخطيئة: أنت مخطئ، وقالوا لصاحب المنكر: يا صاحب المنكر: كف عن منكرك، إن تجرؤوا على هذا، قال: "نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم..."، قال هذا: ليس لي دخل، وقال ذلك: أخاف على أموالي وأهل بيتي، وقال الثالث: أخجل أن أتكلم، وقال الرابع: هذا بيد ولاة الأمور، وقال الخامس.. والسادس.. والسابع كذلك، ثم جلسوا في بيوتهم: "هلكوا وهلكوا جميعاً".
السبب السابع: فُشُوُّ الربا: إذا ظهر الربا في قرية.. في أمة.. في مجتمع؛ فاعلم -يا عبد الله- أنه في انتظار الحرب من الله -جل وعلا-، حربٌ بالكوارث، حرب بالسنين، حرب بالقحط، حرب بالديون، حرب بتسليط الأعداء على هذا المجتمع وعلى تلك القرية، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة:278]، ولو كان ديناراً، ولو كان درهماً، ولو كان فلساً واحداً، فكيف بالملايين من الربا؟! كيف بالبيوت التي تُغْنَى في كل يوم من الربا؟! كيف بالمعاملات التي تؤسَّس على الربا؟! كيف بإجبار الناس على الربا؟! (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279]، اعلموا وائذنوا وانتظروا حرباً من الله، ومَن مِنَّا يقوى على الحرب من الله؟!
عباد الله: إن الأمة والشعب والمجتمع يخافون من حرب الدول، وحرب ولاةٍ مِن أمثالهم، وحرب بعض القرى القوية، فكيف إذا كانت الحرب من الله -جل وعلا- تنـزل من فوق سبع سماوات؟! وكيف تظنون كيفية حرب الله؟!
إن الله -عز وجل- أهلك أمماً بصيحة من مَلَك. واللهُ -جل وعلا- أرسل الريح فدمرت قرى. واللهُ -تبارك وتعالى- لَمَّا أذن للماء أن يطغى طغى، فإذا به يغطي أمماً وشعوباً كانت بالأمس موجودة، أما اليوم فقد زالت من الوجود. واللهُ -جل وعلا- جنودُه ما يعلمها إلا هو. واللهُ -تبارك وتعالى- قوته لا تعدلها قوة. واللهُ -جل وعلا- إذا حارب قوماً فلا طاقة لهم بمحاربة الله.
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [البقرة:279] أي: بترك كل دينار من الربا، (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279]، كيف والمجاهرة في هذا الأمر موجودة! تفتح الصحف والجرائد فإذا بمؤسسات وشركات وأفراد ومنفذين يدْعُون شعوبَ الإسلام وعبادَ الرحمن إلى التعامل بالربا، ويسهِّلون لهم الأمر ويغرُونهم لمحاربة الله -عز وجل- ورسوله، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الأمر: "ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين"، أي: بالقحط، وبالدَّين، يصبح الإنسان وراتبه ألف دينار، لكن يأتي آخر الشهر وقد استدان من الناس. إلا أُخِذوا بالسنين -يا عباد الله-!
السبب الثامن: تخريب المساجد وهدمها: ومن أسباب زوال الأمم ودمار الشعوب وهلاك القرى: تخريب المساجد وهدمها؛ فإنك ترى هذه القرية وذلك المجتمع يدمرون المساجد ويخربونها ويهدمونها على رؤوس أصحابها. قال الشوكاني: والتخريب نوعان: تخريب حسي؛ أن تُهَدَّم المساجد وتُخَرَّب. وتخريب معنوي: أتعرفون ما هو التخريب المعنوي؟! أن تُعَطَّل عن أهدافها، فتُمْنَع المحاضرات، وتُمْنَع الدروس، وتُقْفَل أبوابها، ويُمْنَع الناس من الجلوس فيها، وذلك لغير مصلحة شرعية، قال الله -جل وعلا-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) [البقرة:114].
بل سمعنا عن بعض البلاد التي تزعم الإسلام وتتظاهر بشريعة الرحمن أنهم يقفلون المساجد حتى عن بعض الصلوات، فيقفل المسجد عن صلاة الفجر، فليس هناك صلاة الفجر، ومَن أراد أن يصلي الفجر فليصلِّ في بيته، ولا تذكر الله -عز وجل- في بيت الله، ويكفيك جريمةً وإثماً وعقوبةً أنك تتحلق مع اثنين أو ثلاثة لتقرؤوا القرآن في بيت الله -جل وعلا-! هذه جريمة أعظم حتى من الزنا! وأعظم حتى من الفواحش التي لا يؤخذ على أيدي الناس فيها!
السبب التاسع: ترك الجهاد في سبيل الله: فإذا تُرِكَ الجهاد في سبيل الله فاعلم أن القرى والأمم في طريقها إلى الذل والهلاك والدمار، قال الله -جل وعلا-: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195].
قال أبو أيوب في تفسـيرها، هذا الصحـابي الجليل يقول: "نزلت فينا معشر الأنصار، لَمَّا جاهدنا في سبيل الله، ونصر الله هذه الأمة وهذا الدين، قلنا: لو لجأنا والتفتنا إلى ضِياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها، فأنزل الله -جل وعلا-: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]".
بل قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا تبايعتم بالعِينة، واتبعتم أذناب البقر -أي: انشغل الناس بالربا وبالزروع- وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".
ذل وهلاك ودمار وفساد وبوار للمجتمعات إذا تركوا الجهاد في سبيل الله، إذا تركوا دينه ولم ينصروه، ورضوا بالزروع وبالتجارات وبالمحلات وبالشركات وبالأثاث وبالبيوت، رضوا بالدنيا وركنوا إليها، وتركوا جهاد المال واللسان والنفس؛ فإن الله -عز وجل- يسلّط عليهم ذلاً لا ينزعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: السبب العاشر من أسباب هلاك الأمم ودمارها: ظهور الفواحش فيها؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر هكذا -وحلق بالسبابة والإبهام-"، فقالت له إحدى زوجاته: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟! -فينا مصلون، فينا رُكَّع سُجَّد، فينا من يقرأ القرآن، فينا من يحضر حلق العلم والذكر- قال: "نعم. إذا كثر الخَبَث".
أتعرفون ما هو الخبث؟! قال ابن حجر -عليه رحمة الله-: الخبث هو الزنا، وأولاد الزنا، والفواحش، والفجور، أن ينتشر الزنا، حتى إنك تجد كثيراً من اللقطاء في الشوارع، طفل عند باب المسجد، طفل في أحد الشوارع، طفل في المستشفى لا يُعْرَف مَن أمه ولا مَن أبوه، بل تشتهر بعض البيوت بالفواحش والدعارة، وأسبابها من المغنين والمغنيات والمطربين والمطربات، والمطربون يُجْلَبون إلى هذه البلاد وغيرها من البلاد لنشر الفاحشة والدعارة، والغناء كما قال بعضهم: بريد الزنا.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "سيظهر في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ"، قالوا: متى يا رسول الله؟! قال: "إذا ظهرت القِيان -أي: إذا كثرت المغنيات- والمعازف، وشُرِبَت الخمور".
عباد الله: إن بلاد الغرب والشرق الآن تعاني من انتشار الزنا والفواحش، بل إن هذه البلاد تشتكي من مرض ابتلاهم الله -عزّ وجل- به، يسمى: مرض الإيدز؛ بسبب نشرهم للإباحية وللفجور وللدعارة، يقال: إن هذا المرض يقتل قتلاً بطيئاً، يصبح الرجل معه كالمجنون على الفراش، ثم يتلوث ولا يستطيع أن يُنجي نفسه، ثم يصبح يهذي ولا يعرف ما يتكلم به، ثم يُشَل الجسد، ويصبح معتوهاً مجنوناً، ثم يموت موتاً بطيئاً وهو على فراش الموت، لا يستطيع قريب ولا صاحب أن يقترب منه، وهذا المرض -يا عباد الله- يقولون في الإحصائيات: إنه سوف يأتي عام 2000م ويُقَدَّر مَن يصاب بهذا المرض بأربعين مليوناً، أربعون مليوناً يصابون بهذا المرض!!
واسمع -يا عبد الله- إلى هذا الحديث الجامع المانع لأسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفساد المجتمعات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -اسمع لهذه الخمس الجامعة المانعة التي تشمل هذه الأسباب السابقة كلها- قال: لَمْ تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها..."، حتى يصبح الأمر في الجرائد، حتى يصبح الأمر مِن الدعوة لأسباب الزنا، والحفلات الغنائية، وعروض الأزياء، والأغاني، والأفلام الماجنة، يصبح الإعلان فيها في كل ملأ، بل على الصفحات، وعلى البيوت، وعلى الجدران، إذا أعلنوا بها؛ قال: "... إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم"، وهل سمعنا بالإيدز من قبل؟! وهل سمعنا بهذه الأمراض من قبل؟! (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].
ثم قال: "... ولم ينقصوا المكيال والميزان" أي: يتعاملون بالربا، ويتعاملون بالغش، ويأخذون حقوق الناس ويظلمونهم، "إلا أخذوا بالسنين، وقلة المؤونة، وجور السلطان عليهم".
ثلاث عقوبات: الأخذ بالسنين، أي: القحط. وقلة المؤونة، يصبح الرجل عنده مال لكن لا يستطيع أن يحصل على شيء، وجور السلطان، أي: ظلم السلطان عليهم.
والثالثة: "... ولم يمنعوا زكاة أموالهم"، عنده ملايين ولا يخرج بعض الدنانير، ولا يخرج زكاة أمواله، بخيل، مقتر، ويمنع حق المسلمين وحق الفقراء، قال: "... إلا منعوا القطر من السماء"، ليس هناك مطر، ولا أريد أن أدلل لك على هذا الأمر، ولا أريد أن أخبرك أن الشمس قد طلعت، وأن أدلل لك بأن الجو الآن هو في النهار، لا أريد أن أخبرك بهذه الأدلة، فهذا أمر بَدَهِي، قال: "ولو لا البهائم لم يمطروا". قد يمطرون؛ لكن لأجل البهائم وليس لأجلهم.
والرابعة: "ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم"، يسلط الله -عزَّ وجلَّ- عليهم الأمم الظالمة والطاغية والكافرة؛ فتسلب ما في أيديهم، وتسلب أموالهم، وتنتهك أعراضهم، وتدمر بيوتهم، وتخرجهم من أراضيهم، ما هو السبب؟! إن السبب هو أنهم نقضوا عهد الله وعهد رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
وهل من عهد الله -يا عباد الله- أن نبني هذه البنوك الربوية؟! وهل من عهد الله وعهد رسوله أن نأتي بفِرَق ماجنة داعرة عاهرة لتطرب الناس وتزمر وتفعل الفواحش؟! وهل من عهد الله -يا عباد الله- أن ندعو الناس لأن يجلسوا وينظروا إلى النساء وهن عاريات إلى قريب من السوأتين وما حولهما ويسمونها عروض أزياء؟!
هل من عهد الله -يا عباد الله- أن نترك شريعة الله خمس أو ست سنين ولم نطبق منها شيئاً؟! هل هذا من عهد الله -يا عباد الله-؟!
قال -صلى الله عليه وسلم- آخر الحديث: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"، فتنة المجتمع، يضرب بعضُهم بعضاً، تصير فتنة، أحزابًا، وجماعات، ومذاهب، وقتالاً داخل المجتمع، ما السبب يا رسول الله؟! قال: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"، مَن الذي يريد الآن أن يمزق المجتمع؟! مَن الذي يريد الآن أن يشق الصفوف؟! مَن الذي يريد أن يظهر الفتن؟! قال: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"، الذي لا يريد أن يحكم بكتاب الله، الذي يضع العراقيل والمعوقات لأجل ألا يُحْكَم بكتاب الله، خذوا على يديه فإنه هو الذي يريد أن يمزق المجتمع، وهو الذي يريد أن يشق الصفوف، فهل يرضى الغيورون؟! وهل يرضى الرجال؟! وهل يرضى أولو الدين والعفة والمروءة أن يسمحوا لأولئك أن يأتوا بمغنين ومغنيات؟! أو أن ينشروا الفساد في المجتمع؟!
لا بد أن يقوموا فيأخذوا على أيديهم، ولا بد أن يقوم أولئك الظلمة الفجرة فيردُّوا عليهم ثم تكون الفتنة، (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة:49].
عباد الله: هذه هي أسباب هلاك الأمم ودمار القرى، واعلموا أن الله -جل وعلا- إذا أهلك فإن هلاكه شديد، وإن أخذه أليم، وإن عقوبته كبيرة ليست كعقوبة البشر.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر.
أقول هذا القول. وأقم الصلاة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي