قل جاء الحق وزهق الباطل

أحمد بن عبد السلام مارسو
عناصر الخطبة
  1. عداوة أبي جهل للنبي -صلى الله عليه وسلم- .
  2. قصص في تصدي أبي جهل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ودفاع الله عنه .
  3. بعض الكونية في الصراع بين الحق والباطل .

اقتباس

ينتفش الباطل كثيراً، ويطفو على السطح، حتى يظن الناس أن لا مكان للحق، ويزداد ظنهم حتى ليكاد أن يبلغ حد اليقين، حين يجدون هذا الباطل مسلحاً بسلاح العلم، مسلحاً بسلاح الإعلام الحديث، مسلحاً بعد ذلك أو مع ذلك بوسائل الإفناء الكثيرة مما يورث اليأس في النفوس. هنا يتحرك الحق، هناك يتمثل الحق ناموساً ربانياً يـ...

الخطبة الأولى:

دارت معاني كلمة: "الحق" في القرآن الكريم على الثبوت، والوجوب، والنصيب، ونقيض الباطل، والاستحقاق والجواز.

كما أن الحق اسم من أسماء الله -تعالى-، قال تعالى: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ)[الأنعام: 62].

والذي سنتحدث عليه، هو: الحق الذي ينقض الباطل، ونموذجنا في تمثيل الحق رسول الله، وممثل الباطل أبو جهل.

ترى لماذا تلك العداوة التي لا تقف عند حد، ولرجل وصف عندهم بالأمانة والعفة والنزاهة، حتى وصفوه قبل بعثته بالأمين؟ أبغضاً في محمد؟ كما كانوا يقولون.

(وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31].

أجحداً ونكراناً بأن الله خالق السموات والأرض؟

ولئن سألتهم: (مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [العنكبوت: 61].

أم ماذا إذاً؟ أكراهية لسماع القرآن؟

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26].

كل هذا لم يكن.

إن ابن إسحاق يروي عن ابن شهاب الزهري: أن الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها.

قال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به.

ثم خرج من عنده حتى أتي أبا جهل فدخل عليه ، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؟

أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه[الروض الأنف (3/197)].

هذه هي القضية، قضية الحرص على الجاه والمنصب، قضية التسابق والتكالب على عرض الدنيا الزائل.

إنه لم يغب الحق عنهم ساعة، بل كانوا يعرفونه ولكنهم كانوا كارهين لهذا الحق: (بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ)[المؤمنون: 70].

اجتمع زعماء قريش في دار الندوة وأرسلوا للرسول، فجاءهم سريعاً، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.

فقالوا له أشياء، وطلبوا أن يحقق لهم مطالب هي مما يرجع فيه الأمر لله -سبحانه وتعالى-، وهي التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً)[الإسراء: 90-63.

قال الرسول: ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل: (قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً).

ثم قام عنهم حزيناً كاسفاً لعدم هداية قومه، فأنزل الله عليه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلٍ ءايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)[الأنعام: 33-37].

عندها قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهدكم لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك، أو امنعوني، فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله كما كان يغدو، وكان الرسول بمكة قبلته إلى الشام فكان إذا صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام فقام الرسول يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل.

فلما سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى دنا منه، فرجع منهزماً، ممتقعاً لونه، وقد يبست يداه على حجره حتى قذف من يده.

وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.

فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ذلك جبريل -عليه السلام- لو دنا لأخذه".

وفي رواية أخرى: "فنكص أبو جهل على عقبيه، فقالوا: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندق من نار وهولاً شديداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو دنا لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" [رواه أحمد والترمذي وصححه النسائي].        

وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير -وهذا لفظه- من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: "يا محمد ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له الرسول وانتهره، فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما -والله- إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فنزل قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)[العلق: 17 - 18].

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته، وكانت نهايته في غزوة بدر".

إذا كان لأبي جهل دوره في الصد عن الهدى ومحاولة طمس أنوار الحق، وانتهى ذلك بقتله في غزوة بدر، فإننا نجد في كل عصر ومصر "أبا جهل" الجديد، نجده في مجال السياسة وفي ميدان الحروب في حقول التعليم وفي بيوت الطب وفي كل ميدان من ميادين الحياة.

وعصرنا هذا فيه من أمثال أبي جهل كأشخاص أو منظمات أو تحالفات تسلقوا إلى الحكم عن طريق المخاتلة والمكر أو الحيلة والدسيسة.

وعندما تربعوا على قمة الحكم وسلمت لهم مقاليده، تحكموا في مصائر الشعوب وأقدارها

وهم كالذين من قبلهم، قالوا مثل قولهم، فعلوا مثل فعلهم، تشابهت قلوبهم: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

فكانت النتيجة: أن انتصر الحق، وزهق الباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

إن من سنن الله: البقاء للأصلح: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ)[الرعد: 17].

ينتفش الباطل كثيراً، ويطفو على السطح، حتى يظن الناس أن لا مكان للحق، ويزداد ظنهم حتى ليكاد أن يبلغ حد اليقين، حين يجدون هذا الباطل مسلحاً بسلاح العلم، مسلحاً بسلاح الإعلام الحديث، مسلحاً بعد ذلك أو مع ذلك بوسائل الإفناء الكثيرة مما يورث اليأس في النفوس.

هنا يتحرك الحق، هناك يتمثل الحق ناموساً ربانياً يحدث كل يوم.

إن الظلام إذا اشتدت حلكته في الجزء الآخر من الليل آذن ذلك بقرب طلوع الفجر.

وإن من سنن الله كذلك: سنة رد الفعل.

ذلك أن لكل فعل رد فعل أكثر منه قوة وأسرع في الاتجاه مما يؤدي -بإذن الله- دائماً إلى زهق الباطل وبقاء الحق، يقول الحق -سبحانه-: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مّنَ الملائكة مُسَوّمِينَ)[آل عمران: 125].

"ما ضاع حق يطلبه صاحبه".

وإن من سنن الله: سنة الاستخلاف، أو العاقبة للمتقين، أو التمكين، أو استبدال الخوف بالأمن، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].

وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وسلم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي