إن تعامل المسلم الموحد لله -عز وجل- مع ربه، هو في غاية الدقة، وإليه المنتهى في الاحتراز، ولو جعلنا المقام في الحديث عن كيفية التعامل مع الله؛ لبقينا نتحدث حتى يُنفخ في الصور، وما انتهينا، لكن الحُر تكفيه الإشارة.
الحمد لله الذي لا يحيط بحمدِه حامد، ولا توفي قدرَه بليغُ المحامد، سبحانه فلا يعبدُه حقَّ عبادته عابدٌ، ولو قضى عمره قانتًا لله وهو راكعٌ أو ساجِد.
الحمد لله عظيمِ الشان، واسعِ السلطان، مدبِّر الأكوان، في مُلكه تسبح الأفلاك، وحول عرشه تسبح الأملاك، (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) [الإسراء:44].
حيِيٌّ سِتّير، وهو قوي قدير، كريمُ الاسم، عَليُّ الوصف، سبَّحت له السموات والأرض ومن فيهن، والطير قابضات وصفّ.
أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، العارف بالله حقًّا، والمتوكّل عليه صِدقًا، المتذلّل له تعبّدًا ورقًّا.
صلّى الله عليه وعَلَى آله الأطهار، وصحابتِه الأخيار، وسلّم تسليمًا ما تعاقب الجديدان: الليل والنهار.
أما بعد: فالإنسان في هذه الحياة ليس وحيداً؛ إذ لا بد له من التعامل مع ما حوله من البشر، والحيوان، بل وحتى الجماد.
ولكل صنف من المخلوقات طرائق في التعامل معه؛ فالبشر منهم الهين اللين، ومنهم القوي الشديد، ومنهم من هو بين هذا وذاك. وكذلك الحيوان والطير وغيرها من المخلوقات.
ألا ترون أن طرق تعاملنا مع السيارات التي نركبها -على سبيل المثال- اختلفت عما كانت عليه سابقا؟ فالمتقدم منها كان الفرد من الناس يقدر على إصلاح العطل اليسير منها، والآن لا يمكنه إصلاحها لما داخَلَها من كثير التقنيات، وعظيم الصناعات.
هذا -أيها المسلمون- مثال مما يلامس حياة هذا الإنسان، وسأنتقل بكم إلى مشهد آخر: هذا الإنسان الذي تعامل بكل دقة مع ما حوله، وما يراه، وقد زُوِّد بما يُعرّفه بذلك؛ كيف لو تعامل مع رب هذه المخلوقات، وفاطر السماوات، ومسير الكواكب النيرات، والأفلاك الهائلات، وخالق البحار الزاخرات، والجبال الراسيات، والأشجار المزهرات، والثمار اليانعات؟!.
فالق الحب والنوى جل شأنا *** وضياءِ الدجى ونورِ السراة
قابضٌ باسطٌ معزٌ مذلٌ *** لم يزل مرغما أنوف الطغاة
شافعٌ واسعٌ حكيمٌ عليمٌ *** بالنوايا والغيب والخاطرات
خافضٌ رافعٌ بصيرٌ سميعٌ *** لدبيب النمل فوق الحصاة
إن تعامل المسلم الموحد لله -عز وجل- مع ربه، هو في غاية الدقة، وإليه المنتهى في الاحتراز، ولو جعلنا المقام في الحديث عن كيفية التعامل مع الله؛ لبقينا نتحدث حتى يُنفخ في الصور، وما انتهينا، لكن الحُر تكفيه الإشارة.
أيها المحبون لله: حديثنا اليوم -بإذن ربنا القدير- عن خصلة واحدة، وسجية خالدة في تعاملنا مع خالقنا الجليل، هي: الحياء من الله!.
يا لله! الحياء خلق محبوب لله، إذا تعامل به الإنسان مع عبيد الله، فكيف إذا عامل به سيده ومولاه؟!.
لقد تعامل بهذا الخلق مع الله، ساداتنا رسل الله -صلى الله عليهم وسلم-؛ ألا ترونه -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إن موسى -صلى الله عليه وسلم- كان حيياً ستيراً، لا يُرى من جلده شيء؛ استحياء من الله".
ثم تتابع على هذا خير الخَلق بعد الأنبياء، وهم صحابتهم -رضي الله عنهم-، فأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ينادي في الناس، فيقول: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ -عز وجل-، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنِّي لأَظَلُّ حِينَ أَذْهَبُ إِلَى الْغَائِطِ فِي الْفَضَاءِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِي اسْتِحْيَاءً مِنْ رَبِّي -عز وجل-".
أيها المؤمنون: إن سألتم عن كيفية الحياء من الله، فقد أجابكم عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "استحيُوا من اللهِ حقَّ الحياءِ". قالوا: إنَّا نستَحِي يا نبيَّ اللهِ والحمدُ للهِ، قالَ: "ليسَ ذاكَ، ولكنْ من استحْيَا من اللهِ حقَّ الحياءِ، فليَحفَظْ الرأسَ ومَا وَعَى، وليحفظْ البطنَ ومَا حوَى، ولْيذكِرْ الموتَ والبِلَى، ومن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينَةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلكَ، فقدْ استحيَا من اللهِ حقَ الحياءِ".
ويحق لأحدكم أن يطلب إيضاح معنى الحياء أكثر من ذلك، فأقول له: قد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحد أصحابه بمثال يقرب له المعنى، فقال له: "أوصيك أن تستحي من الله - عز وجل- كما تستحي رجلا من صالحي قومك".
ولذا قال سفيان الثوري -رحمه الله- لجماعة: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بما لا يرضيه؟ قالوا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث لله.
أيها المسلمون: إذا كان الحياء يمنع صاحبه من فعل المستقبح والمستكره، بل والمستغرب أمام الناس؛ فمن باب أولى أن يكون ذلك الحياء مانعا له من فعل كل ما يبغض الله ويكرهه.
وليكن لسان حالك:
وإني لتنهاني خلائق أربع *** عن الفحش فيها للكريم روادع
حياء وإسلام وطبع وعفة *** وما المرء إلا ما حبته الطبائع
الحياء من الله، ليس مانعاً من معصية الله فحسب، بل هو دافع إلى طاعته -سبحانه- والبحث عما يرضيه؛ ألا يترك الإنسان الدافئ من فراشه في الشتاء؛ ليقوم فيصلي الفجر بين يدي ربه، في بيت من بيوته؛ استحياء من الله ألا يراه -جل جلاله- حين ناداه مناديه وهو نائم على فراشه فلم يجبه إلى بيت من بيوته؟.
ألا ينفق الإنسان طيّب ماله فيما يحب الله؛ حياء من الله ألا يطلع عليه بخيلا حين دعاه إلى ذلك؟.
ألا يبذل المجاهد في سبيل الله روحه؛ حياء من الله ألا ينصر دين الله، وقد باع من قبل نفسه لله؟ وقس على هذا الأمر الكثير.
بل وقد يكون للحياء من الله أثر أكبر من ذلك! يروي أحدهم قصة، فيقول: خرجنا في ليلة مخوفة، فمررنا بمكان فيه رجل نائم، قد قيد فرسه، فهي تركل عند رأسه، فأيقظناه، فقلنا له: تنام في مثل هذا المكان؟ قال: فرفع رأسه، فقال: إني أستحي من ذي العرش أن يعلم أني أخاف أحداً دونه، ثم وضع رأسه، فنام!.
أيها الأحبة في الله: الإمام القيم، محمد بن القيم -يرحمه الله-، أوجز لنا معاني الحياء، فقال: الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحي من نفسه.
(وأما ما يختص منها بالله)، فحياء الجناية: ومنه حياء آدم -صلى الله عليه وسلم- لما فر هارباً في الجنة، قال الله - تعالى-: " أفرارًا مني يا آدم؟! قال: لا يا رب، بل حياء منك".
وحياء التقصير: كحياء الملائكة، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: "سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك".
وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه.
وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه -عز وجل- حين يسأله حوائجه، استحقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها، ففي (أخبار بني إسرائيل): أن موسى -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رب إنه لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحي أن أسألك هي يا رب؛ فقال الله -تعالى-: " سلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك".
وقد يكون لهذا النوع سببان: أحدهما: استحقار السائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه. والثاني: استعظام مسؤوله.
وأما حياء المحبة فهو حياء المحب من محبوبه، حتى إذا خطر على قلبه (شيء مما يكره) في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به في وجهه، ولا يدري ما سببه؛ وكذلك يعرض للمحب -عند ملاقاته محبوبه ومفاجأته له- روعة شديدة، فإذا فاجأ المحبوب محبه ورآه بغتة، أحس القلب بهجوم سلطان عليه فاعتراه روعة وخوف. وأما حصول ذلك في غيبة المحبوب فظاهر لاستيلائه على قلبه حتى كأنه معه.
أما حياء العبودية فهو حياء ممتزج من خوف ومحبة، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
وأما حياء الشرف والعزة: فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان، حتى إن بعض الكرام لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياء منه.
وأما حياء المرء من نفسه فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتى كأن له نفسين يستحي بإحداهما من الأخرى؛ وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
يا رب نسألك حياء منك، نقبل به على طاعتك، ونمتنع به عن معصيتك، ثم نبلغ به الفردوس من جنتك، يا كريم يا ستير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي