أيها المؤمنون: استمِعوا لقصة هذا الشاب، وهو يتحدّث عن الشقاوة التي يعيشها، قال: أبي لم يحاول مطلقًا أن يترك السيجارة، وأتت المحاولة فقط عند اكتشاف إصابته بمرض السرطان، واستطاع أن يتركها للأبد بموته بعد عام واحد فقط من معرفته بذلك، وأنا أفتقده الآن كثيرًا. ولعل المنظَر المؤلم الذي يتكرّر كثيرًا حينما يكون الأب ممسكًا بالسيجارة ليستمتع بها في حضرة زوجته وأطفاله في البيت، أو السيارة، من...
وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: فإنها هي الجسر الموصل لرحمة الله -تعالى-.
إخواني وأحبابي: حديثنا اليوم هو استكمال لحديث الجمعة الماضية الذي كان عن التدخين، وآثاره على الفرد والمجتمع.
واليوم سنتحدث عن العلاج الذي يجعل المدخن يقلع عن التدخين، ويزيد الذين لا يدخّنون بعدًا عنه، فلا يقعون فيه.
أيها المؤمنون: استمِعوا لقصة هذا الشاب، وهو يتحدّث عن الشقاوة التي يعيشها، قال: أبي لم يحاول مطلقًا أن يترك السيجارة، وأتت المحاولة فقط عند اكتشاف إصابته بمرض السرطان، واستطاع أن يتركها للأبد بموته بعد عام واحد فقط من معرفته بذلك، وأنا أفتقده الآن كثيرًا.
ولعل المنظَر المؤلم الذي يتكرّر كثيرًا حينما يكون الأب ممسكًا بالسيجارة ليستمتع بها في حضرة زوجته وأطفاله في البيت، أو السيارة، من المناظر التي تدلّ على مدى ما وصلت إليه أنانيّة ذلك الأب، وقد أهلك نفسه وأسرته دون أن يشعر.
ومن العجيب الذي فيه العبرة لكلّ مدخن أن المواطن الأمريكي مروّض الخيول، والذي يظهر في دعايات التدخين، واستُؤجر عام 1975م في مجلّة "مارلبورو" ودعاياتها المنتشرة في المجلات الأسبوعية العديدة ليظهر بدور المدخن الوسيم والقويّ لمارلبورو كان يدخن علبة ونصف علبة من السجائر يوميًا لمدة خمسة وعشرين عامًا.
أصيب بسرطان الرئة عام 1990م، فصَبّ جام غضبه على من تسبّب في ذلك، وهي الشركة المصنّعة للمارلبورو التي استأجرته، فأصبح مقاتلاً ضدّ التدخين حتى إنه ظهَر في اجتماع عام لحاملي أسهم هذه الشركة.
وأمام الإعلام حذّرهم من أعمالهم، وأنهم يقودون العالم إلى الموت، وطلب منهم أن يحدّوا من الدعايات الكاذبة للتدخين.
وفي إحدى المقابلات، قال هذا الرجل: "العادات كثيرة، لكن هل سمعتم أن العادة تقضي على صاحبها؟! إن عادتي قضت عليّ".
خاض هذا الرجل معركة شرسة مع التدخين، وكان من كلماته: "انتبهوا واهتموا بالأطفال من هؤلاء المخادعين، وبينوا لهم بأن التبغ سيقتلكم، وأنا مثال حي لإثبات ذلك".
توفي عام 1992م بسبب التدخين.
وهذا شاب من أسرة طيبة كان شابًا محافظًا، دخل في المرحلة الثانوية، تعرّف على مجموعة من رفقاء السوء الذين أوقعوه بعد محاولات عديدة في وحل التدخين، بدأ يدخّن خفية، ثم اتّضح أمره لأهله فعاتبوه أشدّ العتاب، فقرّر ترك التدخين إرضاء لأمه، ولكن شياطين الإنس لم يدعوه، بل حاولوا معه مرات وكرات، حتى عاد مرة أخرى للوقوع في التدخين.
ولم يتوقّف به الحال عند هذا الأمر، بل تطوّر الأمر في هذه المرّة حتى وقع في الحشيش، ثم وقع في شراك المخدّرات، وأصبح من المدمنين على هذه السموم المهلكة.
وفي يوم من الأيّام عاد إلى البيت، وهو يبحَث عن قيمة المخدّر كالمجنون، فسأل أمه قيمةَ المخدر فرفضت إعطاءه، فما كان من ذلك المجرم إلا أن قتل أمّه بسكين، ثم قام بأخذ ما عندها من المال، وليس هذا فحسب، بل قام بأخذها إلى مكان مهجور وأحرقها، حتى يخفيَ جريمته الشنيعة، ولكن قُبِضَ عليه وأقيم عليه حدّ القتل، وكل هذا بسبب التدخين.
وقبل أن نذكر علاج التدخين يجدر أن نشير إلى نقاط مهمّة جدًا هي من أهمّ ما يقي المجتمع من هذه العادة القبيحة:
أولاً: لا بدّ من التربية الجادة المتكاملة التي تصنع شبابَ الأمة صناعة تجعلهم مؤهلين؛ لأن يكونوا عوامل بناء ورقي بالوطن والأمة، تربية إيمانية وأخلاقية وثقافية وبدنية وفكرية.
فإذا حصل ذلك فإنه لن يكون لحياة الضعف والترف والفراغ القبيح والوقوع في المفسدات وجود أبدًا.
وهذه التربية الجادة هي مهمّة كلّ مسؤول في بيته ومدرسته ومؤسّسته الشبابية، وعلى قدر نقص تلك التربية، أو انعدامها تشيع الفوضى الأخلاقية، ويكثر الفساد بين الشباب.
ثانيًا: لا بد من تكامل الأدوار في مكافحة التدخين من جميع المؤسسات الحكومية والأهلية، فيصبح الجميع كلهم ضد هذا الوباء الذي يحدق بأعز ما يملكه الوطن والأمة وهم الشباب، وإن من المقت العظيم أن تجد مؤسسة تحارب التدخين وتبذل في سبيل ذلك الأموال الطائلة في الوقت الذي تجد فيه مؤسّسة أخرى تسمح برواج الدخان ولا تعده ممنوعًا.
وهذا الذي أضر بنا كثيرًا، فالممنوع صحيًا ليس ممنوعًا تجاريًا، والمحرم شرعًا ليس محظورًا إعلامًا.
وهذا أساس البلايا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2].
ثالثًا: يجب أن تعطى هذه المسألة حقَّها كما أعطيت غيرها من القضايا، فتنشر الحملات، ويكثر التنبيه، ويزداد التحذير، ويشيع جو الهجر لكل من يعمل على ترويج مثل هذه السموم القاتلة، ويمنح المحلّ الذي لا يبيع الدخان وسامًا، ويكافأ الذي يقلع، ويحاسب المروج المقيت.
رابعًا: إن إبراز الإعلام لمن يقال عنهم أبطال ونجوم وإظهارهم على أنهم مدخّنون صار من أسباب وقوع بعض الشباب في وحل هذه البلية؛ لأنهم يبحثون عن الشهرة التي حصل عليها أولئك النجوم، فيرون أن من النجوميّة أن يكون الشاب مدخنًا، فينبغي أن لا يكون لأولئك التافهين تصدير في إعلامنا الذي هو مرآة حضارتنا وقيمنا.
أخي الحبيب: إنك إذا علمت خطر الوقوع في عادة التدخين القاتلة، فيجب عليك أن تبحث عن العلاج بنفسك ولا تنتظر أن يأتيك العلاج في خطبة، أو في صفحات مجلة، أو على شاشات إعلام.
وإن الموفَّق من وفقه الله للبدء عن البحث في علاج نفسه قبل أن يندم في وقت لا ينفع فيه الندم.
وهذه خطوات -يا رعاك الله-: هي في رأيي من أهمّ ما يجعل المدخّن يقلع عن التدخين -بإذن الله تعالى-:
أوّلها: قف مع نفسك وقفة صادقة، واعترف بأنك واقع في مشكلة تحتاج إلى علاج، فإن الاعتراف بالمرض بداية الشفاء -بإذن الله تعالى-.
والتكبّر وتهوين القضية هو مما يجعلك تتمادى فيما أنت فيه، واعلم أن سبعين بالمائة من المدخنين الأمريكيين حاولوا الإقلاع عنه لعلمهم بضرره.
فلا يكن أولئك أحرص منا ونحن المسلمون المتوكلون على الله.
ثم اعقد العزم على البداية الجادة في سبيل الإقلاع، واعلم أنك بهذا تكون قد صرت ضمن الباحثين عن الصحة والتوبة والحياة السعيدة.
وتذكّر دائمًا أن هنالك من ينتظر منك هذه اللحظة، فأبواك وزوجتك وأبناؤك يريدون منك أن تعلنها صراحة بأنك أقلعت، واجعل قول الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3].
نصب عينيك.
أحبابي وإخواني: لقد هيّئت المراكز الصحية المتخصّصة في مكافحة التدخين، ووضعت البرامج التي تساعد المدخن على الإقلاع.
وهناك من أنواع العلاج لدى تلك المراكز ما يعين الجسم على تقبّل البعد عن هذه العادة.
ولِتعلمَ خطوات العلاج فما عليك إلا الاتصال بتلك المراكز التي تشتكي من قلة المراجعين مع كثرة المحتاجين لها.
وإنّ مراجعة تلك المراكز لهي أهم من مراجعة كثيرٍ من المراكز التي تعالج أمراضًا أخرى.
وقد تركت الحديث عن أنواع من العلاج حتى لا نخوض فيما ليس لنا به علم، ومرجعها إلى المراكز الصحية.
ومما يعتبر من خطوات العلاج أن يشغل المرء نفسه بما يبعده عن التفكير في تعاطي الدخان والشيشة ونحوها، فيشتغل بالرياضة والقراءة ومؤانسة الأهل والتنزه معهم.
واعلم أنك غالٍ علينا وعلى أهلك وذويك، فلا تدع الفرصة لسيجارة تفقدنا حبيبًا طالما اشتقنا إليه.
اللهم اشف كل مريض، وعافِ كل مبتلى.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد:
فإنك -أخي الحبيب-: بإقلاعك عن التدخين تضيف رقمًا إلى عدد المقلعين، وتزيد عدد الآباء الناصحين، وتزيد عدد الأبناء الأوفياء الطيبين.
فكن عند حسن ظنّ أهلك ووطنك وأمتك بك، وخاطب نفسك شجاعًا، وقل لها: إن المطلوب والمنتظر مني أعلى وأسمى وأغلى من هذا العدو اللّدود، وإن استسلامي لسيجارة يمنعني من مقاومة أي عدو آخر.
واستمع إلى هذا الخبر الذي أورته الجمعية الخيرية لمكافحة التدخين، يقول الخبر: نجح مسن يبلغ من العمر 83 عامًا في الإقلاع عن التدخين نهائيًا، وذلك بعد أن دامت صحبته مع السيجارة لأكثر من 65 عامًا، يقول: بدأت التدخين عندما كان عمري 18عاما.
وكانت البداية مجرد طيش لا أكثر، ولكنني وبعد مدة لا تتجاوز العام وجدت نفسي مدمنًا للتدخين.
واستمرّ معي الحال إلى أن أصبحت أدخن 4 علب سجائر في اليوم.
ويؤكد أبو مسفر أنه قد عانى كثيرا من التدخين؛ فمن الناحية الصحية سبّب لي التدخين انسدادًا في أحد الشرايين، كما أنه يعاني أيضًا من ضيق التنفس.
ومن الناحية الاجتماعية، يقول: كنت لا أهنأ بالجلوس مع أقاربي في المناسبات ولا مع عائلتي في المنزل، فأضطر للخروج بعيدًا من أجل تدخين السيجارة.
وبعد 65 عامًا اكتشفت أنني لم أجنِ من التدخين سوى الهلاك والدمار للصحّة والمال، فقرّرت أن أقاطع السيجارة للأبد، واليوم وبعدَ الإقلاع عن التدخين شعرت بأنني ولدت للحياة من جديد.
وهذا رجل آخر يحدثنا عن سبب إقلاعه عن التدخين، فيقول: إنه كان يستحيي حين يكون في مناسبات كبيرة يعدّها له أقاربه حينما يقدم عليهم من سفره وفي أثناء المناسبة يضطر للذهاب إلى دورات المياه -أجلكم الله- ليتعاطى التدخين، فوقف مع نفسه وقفة وسألها: كيف يعدُّ هؤلاء الناس المناسبات إكرامًا لي وأنا قد أهنت نفسي بتعاطي الدخان في هذه الأماكن القذرة؟!
فقرر بعد ذلك الإقلاع عما كان سببًا في إهانته.
ثم إنا لا ننسى أهمّ علاج يعالج به المسلم أدواءه، ويزيل به همومه وغمومه، ويذهب به قلقه واكتئابه.
إنه دواء الأدواء، وسيد الدواء، إنه الالتجاء إلى الله -تعالى- والشكوى إليه سبحانه، وطلب الشفاء منه جل وعلا، فهو الشافي، وهو المعافي، وهو مجيب دعوة المضطرين: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل: 62].
وليكن قول الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2- 3].
نصب عينيك دائمًا، وروي مرفوعًا: "ما ترك عبد شيئًا لله لا يتركه إلا له عوض الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه"[أخرجه أبو نعيم في الحلية].
فتعالَ -أخي في الله-: وقف بين يدي ربك -تبارك وتعالى-، واسأله أن يمنحك القدرة على التخلّص من هذا الداء العضال، واطلب منه الشفاء من كلّ داء، واطلب ممن حولك أن يدعوا لك بخير الدنيا والآخرة، وليكن تقرّبك إلى الله -تعالى- بأنواع القرب والطاعات خير معين لك في التخلّص مما حلّ بك، فإنك بتقرّبك من الله -تعالى- يرعاك ويكلؤك ويحفظك من كلّ ما تكره وتبتعد عن الشيطان وأعوانه، ولا تدع أهل الفسوق يستولون عليك.
بل اترك مجالستهم واعتزل السهر والسفر معهم؛ فإن نفسك هي أغلى عليك منهم، ولا تكن لذة ساعة أثمن عندك من سعادة الدنيا والآخرة.
وفقك الله وشفاك، ونفعنا وإياك، وجعل الخير سبيلنا وسبيلك إلى نيل رضاه.
اللهم اشف إخواننا من كل ما ألمّ بهم، وعافهم مما ابتلوا به، وارزقهم سعادة الدنيا والآخرة، وردهم إلى أهليهم أصحاء سالمين يا رب العالمين، ونسأل الله -تعالى- أن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتوكلين عليه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
وصلوا -عباد الله-: على نبي الرحمة، وإمام المتوكلين والأمّة محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم -تعالى- بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، والصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي