واقعنا وضغط الواقع

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. المسلم ينطلق من أصول شرعية .
  2. المسلم وضغوط الواقع .
  3. مصيبتنا بالاستسلام للواقع .
  4. الضغوطات تميز المؤمنين عن المنافقين .
  5. صور من الاستسلام لضغط الواقع .
  6. أقسام الناس في التعامل مع الواقع .
  7. كيفية التعامل مع ضغط الواقع .

اقتباس

هناك من يقول أنه لا عذر اليوم من الواقع وضغوطاته، وأن الإنسان في هذا العصر إن لم يستجب لهذه الضغوطات وينجرف ورائها فإنه سيعيش وحده ويبقى منعزلاً عن واقع الحياة، ولن يستطيع أن يؤثر فيها أو يغيّر، ولهذا فلابد عندهم من ركوب الموجة والتأثر بتلك الضغوطات، حتى يستطيعوا بزعمهم التغيير من داخل الواقع لا من خارجه، وهذا لا شك تصور مغلوط...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: إن المسلم يجب عليه أن ينطلق في حياته كلها من منطلقات شرعية، ويتحرك من أسس ثابتة قوية، فلا يستسلم لهواه ونفسه الأمارة بالسوء، ولا يكن إمعة يتبع كل ناعق ويسير خلف كل داع، ولا يرضخ لضغط الواقع الذي يحيط به والمجتمع الذي يعيش في وسطه، فإن هذه مشكلة عويصة ومصيبة كبيرة قد وقع فيها كثير منا، فنرى الواحد منا يحب شيئاً ولكنه لا يفعله خوفاً من مخالفة الواقع وانتقادات الشارع، أو يكره شيئاً وينتقده في نفسه لكنه في الواقع يمارسه مجاملة لواقعه وبيئته التي يعيش فيها، وربما أحياناً نتخذ مواقف فيصلية ونقرر قرارات خطيرة لسنا في الحقيقة راضين عنها ولا مطمئنين لها وإنما هناك ضغوطات وعوامل جعلتنا نصدر تلك القرارات، أو نتخذ تلك المواقف والتصورات.

فكم من فتنة وقعنا فيها مسايرة للواقع؟ وكم من مخالفة مارسناها نتيجة لضغوط الواقع؟ وكم من عادات قبيحة سايرناها مراعاة للواقع والتماساً لرضى الناس وتجنباً لسخطهم؟ وربما نقع والعياذ الله في موبقات كبيرة، وفواحش خطيرة، ثم نتعذر بالواقع!! وصدق الله -جل وعلا- إذ يقول: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم : 27].

حقاً كم نحن بحاجة إلى التثبـيت والثبات، خاصة في هذه الزمان الذي كثرت فيه الشهوات، وتتابعت فيه الشبهات، وازدادت فيه التأويلات، وكثرت فيه الاختلافات، واختلطت فيه الأمور، والتبس فيه الحق بالباطل، فصرنا نقول أقوالاً أو نفعل أفعالاً ثم نحكم عليها أحكاماً غالباً ما تصدر أحكامنا على هذه الأمور من ضغط الواقع لا من حكم الشرع.

إن فتنة ضغط الواقع فتنة عظيمة ضعف كثير من المسلمين اليوم أمامها، واستسلموا لها، وضعفوا عن مقاومتها، وإذا كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قد قال له ربه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء : 74]، فكيف بغيره؟ فإن غيره أحوج إلى التثبيت، وأولى أن يُخاف عليه من تأثيرات الواقع وضغوطاته، هذا في زمن السلف الصالح -رضي الله عنهم- من الصحابة والتابعين وتابعيهم، أما زماننا هذا فلا يكاد يخلو من أحد لم تصبه هذه الفتنة، ولا يوجد من سلم من شرها إلا من ندر، وهؤلاء هم القابضون على الجمر، الذين قال عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ" [الترمذي (2260) ].

وتعظم هذه المصيبة وتشتد حين جعلناها هي الأصل والمطلوب، فكلُ ما وافق أهوائنا ورغباتنا وخالف هدي الإسلامي وأحكامه قمنا بضمه إلى الدائرة الإسلامية، وأدخلناه ضمن دائرة الإسلام، تحت حجة أنه صار واقعاً، وأنه لا مناص لنا من ممارسته وارتكابه، فأدخلنا كثيراً من الأمور في الدين ونسبناها إليه والدين منها براء، وبدلاً من أن نكيف الواقع للإسلام صرنا نكيف الإسلام للواقع، وبدلاً من اعتبار الأمور النادرة والرخص استثناءات وحالات اضطرارية, قمنا بجعلها منهجاً نمشي عليه ونرى أنه هو الأصل، وأن من خالفه فهو المتزمت المتشدد.

والسبب ضغط الواقع أدى بنا إلى هذا حتى صرنا هكذا، ووصل حالنا إلى هذا الحال المزري، فصرنا نتتبع الرخص ونترك العزائم، ونتمسك بالمتحرك ونترك الثابت، ونتابع الفروع ونهمل الأصول، ونلهث وراء المتشابه والمؤول ونترك المحكم والواضح، وكأننا نسينا قول الله -سبحانه وتعالى-: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : 63]، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران : 7].

أيها الناس: إن الضغوطات حينما تشتد وتقوى فإنها تميز أهل الإيمان الحقيقيين عن غيرهم ممن يدعي الإيمان وإيمانه ضعيف رخو، وتكشف المؤمنين الصادقين من المنافقين الكاذبين، ولهذا حينما اشتد الضغط على المسلمين يوم الأحزاب وبلغ بهم الخوف أشده، واجتمع عليهم المشركون من الخارج، واليهود من الداخل، وحوصروا من كل الجهات حصاراً خانقاً، انقسم المحاصرون إلى قسمين:

قسم ثبت على دينه, معتز بإيمانه, صابر على تلك الضغوطات العظام، التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت فيها القلوب الحناجر، وقسم آخر تقهقر وانهار لتلك الضغوطات والتأثيرات، فلم يصبر عليها ولم يتحملها، فقال الله عنهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب : 12]، وأما الفريق الأول فريق أهل الإيمان والعزة فقد مدحهم الله بقوله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب : 22].

إنا نقول هذا لأن هناك من يقول أنه لا عذر اليوم من الواقع وضغوطاته، وأن الإنسان في هذا العصر إن لم يستجب لهذه الضغوطات وينجرف ورائها فإنه سيعيش وحده ويبقى منعزلاً عن واقع الحياة، ولن يستطيع أن يؤثر فيها أو يغيّر، ولهذا فلابد عندهم من ركوب الموجة والتأثر بتلك الضغوطات، حتى يستطيعوا بزعمهم التغيير من داخل الواقع لا من خارجه، وهذا لا شك تصور مغلوط ومنهج مخالف لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي غيّر وجه الأرض كلها دون أن يحتاج إلى الاستسلام لتلك الضغوطات الكبيرة التي كانت تحيط به والأرض يومئذ كافرة، وكم رأينا في واقعنا ممن يردد هذا الكلام ويتأثر به رأيناهم وقد استسلموا للواقع وانهزموا أمامه، وبدلاً من أن يغيّروا فيه إذا بهم قد تغيروا به، لأن من يعيش وسط المستنقع ويدعي أنه لن يتلوث فإنما يخادع نفسه ويُضحك الناس على عقله، عندما يرونه قد وقع وهو يكابر ويجامل ويرى أنه لم يقع، وأنه حقق من النتائج كذا وكذا، وفعل كذا وكذا.

فيجب علينا أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نحاسبها محاسبة دقيقة، وأن نحذر كل الحذر من زوغان قلوبنا بعد استقامتها، وزلل أقدامنا بعد ثبوتها، ونسأل الله الثبات عل دينه حتى نلقاه -سبحانه وتعالى- وهو راض عنا، غير مبدلين، ولا منحرفين، ولا متقهقرين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَهَافَتُونَ فِيهَا أَوْ تَقَاحَمُونَ تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ وَالْجَنَادِبِ - يَعْنِي: فِي النَّارِ - وَأَنَا مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا فَأَعْرِفَكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْفَرَسَ فَيُؤْخَذُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: إِلَيَّ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَوْ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَكَ الْقَهْقَرَى..." [مسند البزار ( 204)].

فالله الله في الثبات على الدين، والصبر عليه، وعدم الاستسلام للواقع وضغوطاته وتأثيراته، فإن ربنا -تبارك وتعالى- يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم 24: 27].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

عباد الله: من أعظم صور الاستسلام لضغوط الواقع في واقعنا المعاصر: استسلام كثير من الناس للأوهام والخرافات، والبدع والمحدثات، بل والشرك والسحر والكفريات، وترك الحكم بما أنزل الله، فكثير من المسلمين اليوم يرى هذه العظائم في واقعه ويؤمن في قرارة نفسه بخطئها وخطرها، ولكنه متسلم لها لا يحرك ساكناً تجاهها، ولا يكلف نفسه شيئاً في مقاومتها، والتصدي لها، والقضاء عليها ولو بالإنكار باللسان، فتراه يساير واقعه الذي ألف هذه المنكرات، ويتماشى مع قومه الذين تأقلموا مع هذه الموبقات، وبسبب هذه المسايرة للواقع والمداهنة له تتأصل هذه الأمور، وتتمكن في الواقع هذه الشرور، فتصبح جزءا من نسيج الواقع وضرورياته، ومن ثم تصبح ضغوطات واقعية لا مناص منها.

ولو أن هؤلاء الذين يؤمنون بخطر هذه الشركيات والمحدثات قاوموها ولم يسكتوا عليها لتغير الحال، وعرف الباحثون عن الحقيقة الحق، ولكنه الاستسلام للواقع والتماشي معه جعل هؤلاء يتقبلون هذا الضغط، ويضعفون عن مقاومة هذا الشر المستشري الذي سايروا الناس فيه خوفاً من ضغطهم وردود أفعالهم، ونسوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه الناس" [صحيح ابن حبان (276) ].

ومن صور الاستسلام لضغوط الواقع: ما نراه من تتبع الرخص في الدين، وتقليد بعض العلماء في زلاتهم والعمل بها وتطبيقها، بحجة أن العالم الفلاني أفتى بها وقال بموجبها، وكم من الناس من يداهن الظلمة، ويتماشى مع الفجرة، ويرضى بفسادهم ويتغاضى عنه، لأن العالم الفلاني التقى بالحاكم الفلاني أو زار الأمير الفلاني، وكم من الناس يرون النساء السافرات، ويشاهدون الأفلام والمسلسلات، لأن فلاناً ظهر على الهواء مباشرة في لقاء مع الإعلامية الفلانية والمرأة الفلانية، ويتعاملون ببعض المعاملات الربوية، ويمارسون بعض التعاملات المحرمة، وذلك لفتوى فلان أو علان، ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم في بعض السنن كاللحية والسواك وغيره بحجة أن هذا العصر غير عصر الأولين والسابقين، وكثير من هؤلاء ساير الواقع في ظاهره ولباسه وحركاته، وساير الركب في التماشي مع الموضات والتقليعات، والرضى بكثير من المحرمات المنتشرة في البيوت، كالآت اللهو، وصور الفحش، وأشرطة الغناء، وألبسة الفتنة، وأدوات التجميل التي تتزين بها المرأة خارج المنزل، وغيرها من الأمور التي أصبحت مألوفة فينا وفي أهلنا ونسائنا، ونحن ساكتون عنها، ونرى أنه من الصعب مقاطعتها، أو الضغط على الأهل لتركها، تماشيا مع الواقع الذي أصبحت فيه هذه الأشياء عادية، وكل الناس واقعون فيها، والمجتمع يشنع على كل من يعارضها أو يرفضها، وهذه هي نفس الحجة التي ذكرها الله عن الأولين الذين: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : 74]، ولسان حال هؤلاء اليوم يقول هكذا وجدنا مجتمعنا، وجيراننا، ومن حولنا يفعلون.

عباد الله: يجب علينا أن نتعامل مع واقعنا بعدل وإنصاف، فلا يجوز لنا أن نتجاهل هذا الواقع أو نبتعد عنه ونتهرب من وقائعه وأوضاعه، ولا يجوز أيضاً أن نغرق فيه وننساق معه ونجعله شغلنا الشاغل وهمنا الأعظم، فالناس حيال الواقع طرفان ووسط، فطرف يعيش وكأنه في عالم الأحلام والتخيلات، فلا يدري بما يدور حوله، ولا يعرف شيئاً عن واقعه المحيط به، وعندما يتحدث أو يتكلم يشعر السامع أنه يتحدث عن قرون سابقة ودهور ماضية وليس عن عصرنا هذا، وهذا تفريط بلا شك، فإن الإسلام لا يريد من المسلم أن يكون سبهللاً، فقد جعل الله المسلمين شهداء على الناس.

وآخرون قابلوا هذا الإفراط بالتفريط، فغلوا في دراسة الواقع والتأثر به، حتى أصيبوا بنوع من الضعف والانهزامية، فوصلوا إلى قناعات خطيرة مفادها أنه من الصعب تطبيق الإسلام في هذا العصر، وأن الناس بعيدون كل البعد عن منهج الإسلام وأحكامه، فراحوا يبحثون عن المصوغات والمبررات التي تبرر للناس انحرافاتهم وبعدهم، وقبلوا من الناس أعذارهم في ترك التمسك بالدين والعض عليه بالنواجذ، فغيروا الدين وحرفوه.

وهناك الطرف الوسط الذي عرف الواقع حق المعرفة، وفهم الحياة بكل مراحلها وتاريخها ومتطلباتها، فتعامل مع الواقع تعاملاً صحيحاً، وحكم هذا الواقع بالحكم الإسلامي الصحيح، وأمر الناس بالعودة إلى الإسلام والتحاكم إليه، وصبر على ذلك، فحقق الله على أيديهم خيراً كثيراً، وفتح بهم فتحاً عظيماً، وانتشرت دعوتهم انتشاراً كبيراً، وتأثر الناس بهم في كل مكان حتى في العالم الغربي والدول الكفرية نفسها، التي يظن البعض استحالة الالتزام بالإسلام فيها، أو تطبيق الأحكام الشرعية داخلها، ولم يسلم بلد بفضل الله -سبحانه وتعالى- من التأثر بالدعوة الإسلامية الصحيحة، والعقيدة الصافية النقية، التي انتشرت في العالم كله على أيدي الرجال المخلصين، والعلماء الثابتين، وأهل الحق الصادقين الصابرين، الذين أعادوا للأمة وجه الإسلام المشرق، وبينوا الصورة الحقيقية للدين كما أنزله الله -سبحانه وتعالى- على رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم-، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: " لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" [البخاري (773) ].

فالثبات الثبات، والصبر الصبر، فإن للقابض على دينه، المستعصي عن مسايرة الناس وضغط الواقع أجر عظيم، وفضل كبير، حدده النبي -صلى الله عليه وسلم- بأجر خمسين رجل من الصحابة -رضي الله عنهم-، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم " [ السلسلة الصحيحة (494) ].

كما أوصي نفسي وإياكم بالإكثار من الطاعات والعبادات التي تعين على الثبات، ومصاحبة الأتقياء والصالحين الذين يبتعدون عن سيء المألوفات، ويسعون لتغيير وإصلاح المجتمعات، ويرفضون الاستسلام للشهوات والشبهات والملذات، ويتبعون العلماء الثابتين الراسخين عند الشدائد والملمات، ويتركون التعذر بالأوهام والتلبيسات، ثابتون على الدين، ماضون على العهد، لا تغيرهم المتغيرات، ولا تؤثر فيهم الضغوطات والتنازلات، الذين وصفهم الله بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ * فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [ آل عمران 146: 148]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد : 7].

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تضلنا مع الضالين، واحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن يا أرحم الراحمين، وثبتنا على ما يرضيك حتى نلقاك غير مبدلين ولا مغيرين. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي