إذا اشتدّت على العبد المحن، وضاق صدره بشدائد الأمور، فليعلم بأن فرج الله قريب، فلا يجزع مما نزل به أو نزل بغيره من إخوانه، فالجزع والهلع لا يرد فائتًا، ولا يدفع واقعًا، بل يوقع في التسخط على القضاء واضطراب النفس وسوء الظن والتحسر واليأس.
الحمد لله الحكيم الخبير، بيده القبض والبسط والخفض والرفع وإليه تصير الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، بيده الخير ومنه الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجاهد الصبور، صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم سبحانه واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين.
أيها المسلمون: هذه الحياة الدنيا هي دار الشكوى والابتلاء، ودار البأساء والضراء: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157].
ولو كانت الدنيا صفوًا لأحد لكان أولى الناس بذلك رسل الله وأنبياؤه -عليهم الصلاة والسلام-، تأملوا ما جرى لآدم والأنبياء؛ فنوح -عليه الصلاة والسلام- يقاسي أذى قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، والخليل يرمى في النار، وإسماعيل يفجع للذبح، ويباع يوسف بثمن بخس، ويلبس في السجن بضع سنين، وينشر بالمنشار زكريا، ويذبح السيد الحصور يحيى، ويعاني موسى من بني إسرائيل، وأيوب يمكث في بلائه ثماني عشرة سنة، ويبكي داود، وعيسى يسير مع الوحش، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه".
الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، ومرتبة تحتاج إلى تحمل وصبر، نعم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمار وأم عمار سمية وبلال وصهيب والمقداد، فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فمنعهما الله بقومهما، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس".
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بآل ياسر وهم يعذبون بمكة فيقول لهم: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". وهكذا فليكن المؤمن في كل زمن ينتظر الفرج من الله ويصبر لأمره، يتفاءل ويأمل الخير.
كعب بن مالك وأصحابه هجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى جاء الله بالفرج وتاب عليهم، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- يتكلم أهل الإفك في شأنها ما يزيد على شهر حتى أنزل الله براءتها من السماء في آيات تتلى، وأم المؤمنين أم سلمة بعد إسلامها يفرق بينها وبين ابنها ثم يتوفى زوجها فيعوضها الله خيرًا حين استرجعت وصبرت بالزواج من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكم جرى لأعداد من الصحابة من البعد عن أوطانهم وفقد أحبابهم وأموالهم وأنواع من البلاء في أنفسهم وأهليهم ومن بعدهم من المسلمين إلى يومنا هذا!! كل هذا دليل على أن هذه الدار هي دار الابتلاء، هي ميدان الصبر، فالمبتلي هو الحكيم -جل جلاله- الذي وعد الصابرين بالأجر العظيم، ووعد بأن مع العسر يسرًا، وأن بعد الضيق سعة وخيرًا: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، ولن يغلب عسر واحد يسرين.
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، فالصابر على المحن والبلاء بين أجر مدخر وفرج ينتظر وجلد يشكر وذنوب تغفر، وكل ما يجري في هذه الدنيا فبقضاء وقدر، ومن يرد الله به خيرًا يصب منه، وكل قضاء الله للمؤمن فهو خير له كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي كتاب الله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]، وأهل الإيمان إذا ابتلوا صبروا واتعظوا واستغفروا وحمدوا الله على سلامة دينهم، وتذكروا أن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، وأن الله -جل جلاله- حكيم لا يتهم في قضائه.
قال شريح: "إني لأصاب بمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات؛ أحمد الله إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع -إنا لله وإنا إليه راجعون- لما أرجو من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني".
سافر من المدينة إلى الشام عروة بن الزبير -رحمه الله- يريد الوليد بن عبد الملك، فلما كان بوادي القرى ظهرت قرحة في رجله، ثم ترقى به الوجع وقدم على الوليد وهو محمول فقال له الأطباء: اقطعها لئلا تصل إلى بقية الجسم، فأشار الوليد عليه بذلك، فأراد الأطباء قطعها، وأرادوا أن يسقوه شرابًا لينام، فأبى، فقطعوها من نصف الساق، فقال الوليد: "ما رأيت شيخًا قط أصبر من هذا".
وبينما كان ابنه في سفرته تلك في إسطبل الدواب ركزته بغلة فمات، فلمّا رجع إلى المدينة ما سمعوه يشتكي، فلما كان بوادي القرى قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، ثم قال: "اللهم إن كان لي سبعة أبناء فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة، فلك الحمد على ذلك، فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة فلك الحمد، لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت فقد أبقيت".
ولقد كان -لما قطعت رجله- نظر إليها ثم قال: "أما إنه سبحانه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام قط".
أيها المسلمون: إذا اشتدّت على العبد المحن، وضاق صدره بشدائد الأمور، فليعلم بأن فرج الله قريب، فلا يجزع مما نزل به أو نزل بغيره من إخوانه، فالجزع والهلع لا يرد فائتًا، ولا يدفع واقعًا، بل يوقع في التسخط على القضاء واضطراب النفس وسوء الظن والتحسر واليأس.
أيها المسلم: مما يسليك عند المصائب والنوازل أن تعلم بأنك وما بيدك ملك لله سبحانه، ولذا شرع لك أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها".
وكذا أن نتذكر بأن اختيار الله لك خير من اختيارك لنفسك، ولو لم يكن إلا تكفير الذنوب لكفى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". متفق عليه.
وفي الصحيح: "من يرد الله به خيرًا يصب منه"، وفي سنن الترمذي: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
إن المصيبة ما جاءت لتهلك العبد، وإنما جاءت لتمتحن صبره وإيمانه: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ).
ومن ضاق عليه رزق أو نزل به ضر أو خاف من عدو أو اهتم لأمر فليتوكل على القوي العزيز؛ فإنه يأوي إلى ركن شديد وهو الله الحميد.
اشتدت الحال برجل من الناس -وكان شديد الفقر عديم المال- فقال مناشدًا ربه:
يا من له الفضل محضًا في بريته *** وهو المؤمل في البأساء والباسِ
عودتني عادة أنت الكفيل بها *** فلا تكلني إلى خلق من الناس
ولا تذل لهم من بعد عزته *** وجهي المصون ولا تخفض لهم راسي
وابعث على يد من ترضاه من بشر *** رزقي وصُنّي عمن قلبه قاسي
فإن حبل رجائي فيك متصل *** بحسن صنعك مقطوع عن الناس
فبعث الله لمنشئها رزقًا بسبب فأرة خرجت من جحر في بيته وبفمها دينار، فحفر مكان ذلك فوجد دنانير كثيرة وأغناه الله عن الناس.
اللهم اجعلنا ممن إذا أُنعِم عليه شكر، وإذا ابتُلي شكر، وإذا أذنب استغفر، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله- واستقيموا على طاعته وآمنوا به واصبروا على أقداره تفلحوا وتفوزوا فوزًا عظيمًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
عباد الله: إذا جرى على العبد بمقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:
الأول: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدّره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل وأنه ماضٍ فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته سبحانه في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه، والرحمة واللطف في باطنه.
الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، ولم يقدره سدى، ولا قضاه عبثًا.
الخامس: مشهد الحمد، وأن الله له الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.
السادس: مشهد العبودية، وأنه عبد محض من كل وجه، تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكًا لله وعبدًا له، فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
أيها المسلمون: العبد لا يقترح على الله ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، بل يفوض إلى من يعلم عواقب الأمور، ويرضى بما يختاره له ويقضيه له بما يرجو من حسن العاقبة، فهذا يريحه من الأكدار المتعبة.
وإن من أركان الإيمان: الإيمان بقضاء الله وقدره، ومن الإيمان: الصبر على أقدار الله المؤلمة، قال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".
وقال سبحانه: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
وإننا لنؤمل أن يكون ما جرى ويجرى للمسلمين عمومًا -وفي فلسطين وسوريا خصوصًا- تمحيصًا يعقبه نصر من الله وفتح قريب، وابتلاء بعده تمكين وعز ولا قوة إلا بالله.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في سوريا وفلسطين وغيرهم من المسلمين، واكتب لهم التمكين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي