الرحمة صفة من صفات الرب -جل في علاه-، فهو الرحمن الرحيم، والرحمة أنواع: رحمة عامة لكل الخلق، ورحمة خاصة للمؤمنين كما قال سبحانه: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)، ورحمته العامة ذكرها الله في كتابه بوصف يجعل العبد لا يقنط منها أبدًا، فقال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). فهذه الآية تبين أن رحمة الله العامة وسعت كل شيء، وسعت من في السماوات والأرض وما بينهما، وسعت البار التقي الورع الزاهد، والفاجر المخالف العاصي..
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: المرء في هذه الحياة يسعى ويحفد، يرجو رحمة ربه، فبها ينال السعادة في الدنيا والآخرة، فلا سعادة ولا فلاح إلا برحمة الله، ولا يمكن للعبد أن ينال رحمة ربه إلا بمعرفة الأسباب التي جعلها الله طريقًا موصلاً لرحمته.
عباد الله: الرحمة صفة من صفات الرب -جل في علاه-، فهو الرحمن الرحيم، والرحمة أنواع: رحمة عامة لكل الخلق، ورحمة خاصة للمؤمنين كما قال سبحانه: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)، ورحمته العامة ذكرها الله في كتابه بوصف يجعل العبد لا يقنط منها أبدًا، فقال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
فهذه الآية تبين أن رحمة الله العامة وسعت كل شيء، وسعت من في السماوات والأرض وما بينهما، وسعت البار التقي الورع الزاهد، والفاجر المخالف العاصي، وسعت المؤمن المصدق الموقن، والكافر المكذّب الشاك، وسعت حتى الجمادات، فلا مخلوق إلا قد وسعته رحمة الله العامة، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية دخول الجنة والزحزحة عن النار، ليست لكل أحد بل للمؤمنين الموحدين المتقين.
ولهذا جعل الله من أسباب نيل رحمته: التقوى، والتقوى: أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية.
قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).
ومن أسباب رحمة الله تعالى: أن يرحم العبدُ غيره من المخلوقات؛ ففي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله"، وفي السنن: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
فالجزاء من جنس العمل، ولا يخفى عليكم ما في الصحيحين أن رجلاً رحم كلبًا يلهث من العطش، فسقاه، فرحمه الله برحمته للكلب فغفر له.
والمرأة التي رحمت طفلتيها وشقت بينهما التمرة كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت عليّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا فأخبرته فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار".
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "ورحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمةُ الله، التي من آثارها خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله". اهـ.
وقال أيضًا -رحمه الله-: "وهذه الرحمة التي في القلوب تظهر آثارها على الجوارح واللسان في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم، وعلامة الرحمة الموجودة بقلب العبد أن يكون محبًا لوصول الخير لكافة الخلق عمومًا وللمؤمنين خصوصًا، كارهًا حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته". اهـ.
أما من كان بعيدًا عن الإحسان بالخلق ظلومًا غشومًا, شقيًا, فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
أخرج البخاري 5997 ومسلم 2318 من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التَّميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ قال: "من لا يرحم لا يرحم".
وارحم بقلبك خلق اللَّه وارعهم *** فإنَّما يرحم الرَّحْمَن من رحمَ
وللحافظ العراقي -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
إن كنت لا ترحم المسكين إن عَدمَ *** ولا الفقير إذا يشكو لك العدمَ
فكيف ترجو من الرحمن رحمته *** فإنه يرحم الرحمن من رحمَ
اللهم اجعلنا ممن يرحم فترحمه يا رحمن، أقول قولي هذا...
أما بعد:
فيا أيها الناس: فالأسباب التي تنال بها رحمة الله كثيرة ومتنوعة، فما على العبد إلا أن يجتهد في سلوك ما استطاع منها لينال رحمة ربه.
فمن الأسباب التي تنال بها رحمة الله: اتباعُ كتاب الله والعمل به؛ قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فأهل الاتباع والانقياد هم أولى الناس للرحمة.
ومنها: الاستماع والإنصات عند تلاوة القرآن، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
فقلي بربك: هل يكلفك الاستماع والإنصات لكلام ربك شيئًا؟! فقط استمع وأنصت للقارئ لتنال رحمة ربك.
ومن أسبابها أيضًا: الاستغفار، كما قال تعالى: (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فمن أكثر الاستغفار غمرته رحمة الله وسعد في الدارين.
ورحمة الله تنال بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). ولعل من الله محققة الوقوع.
ومن أسباب الرحمة: الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فهؤلاء المؤمنون رجوا رحمة الله بعد أن عملوا بموجبات الرحمة وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله، والهجرة تشمل الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال -عليه الصلاة والسلام-: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
والجهاد يشمل جهاد النفس في طاعة الله، كما يشمل جهاد الشيطان بمخالفته والعزم على عصيانه وجهاد الكفار.
ومن أسباب الرحمة: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
ومن أسباب الرحمة: دعاء الله بحصولها باسمه الرحمن الرحيم أو غيرهِ من أسمائه الحسنى، كأن تقول: يا رحمن: ارحمني، اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شي أن تغفر لي وترحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ومن ذلك الدعاء الوارد في قوله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، فيسأل العبد ربه لكل مطلوب بالاسم المقتضي لذلك.
ومن أسباب الرحمة: السماحة في البيع والشراء، روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى".
ومن أسباب الرحمة: الإحسان في كل شيء: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ).
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ووالدينا...
اللهم اغفر للمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي