الحياء سِرَاجٌ مَنِيعٌ، وحِصْنٌ حَصِينٌ من الوُقُوع في المعاصي والمحرَّمات، فمَنْ ذهب حياؤه ذهبت مروءته، ومن ذهبت مروءته قلَّ إحساسُه، فلم يشعر بعيب الناس له، وانتقاصهم لقدره.
الحمد لله حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذّاكرين، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن، أحمدهُ -تبارك وتعالى- على كل نعمة أنعم بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أحمده -تبارك وتعالى- حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: لقد جعل الإسلام للأبواب الواسعة من الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والخصال الحسنة، جعل لها مفتاحاً واحداً، وعنواناً واضحاً، ودليلاً ظاهراً، به يُقاس معيار الخُلُق، جميله أو قبيحه؛ ذلك -يا معاشرَ المسلمين-: هو خُلُق الحياء.
الحياء من الله، والحياء من النفس، والحياء من الناس.
فالحياء علامة الإيمان، وحسن الخلق.
فلا غرابة في أن يكون الحياء هو خلق الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ لكلِّ دينٍ خلُقاً، وخُلُق الإسلام الحياء"[أخرجه ابن ماجة بسند حسن].
بذلك جاءت وصايا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لأمَّته في كثير من أقواله وتوجيهاته التربوية؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء -أي: ينهاه عن كثرة الحياء- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعه، فإن الحياء من الإيمان".
وعن عمرانَ بنِ حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء لا يأتي إلا بخير".
وفي رواية لمسلم: "الحياء خيرٌ كلُّه"؛ أو قال: "الحياء كلُّه خير".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو بضع وستون شعبة- أفضلها: "لا إله إلا الله" وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ والحياء شعبة من الإيمان".
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه".
إن الحياء هو خلق الإسلام الفاضل، الذي يحمل على ترك القبيح من الصفات والأفعال والأقوال، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق -سبحانه وتعالى-، وذلك عندما يرى العبد آلاء الله ونعمه عليه، ويرى تقصيره في شكرها والقيام بحقها، وتقصيره في عبودية الله -تعالى- على الوجه الذي شرعه دون تفريط أو إفراط.
الحياء، هو امتناع النفس عن فعل ما يعاب، وانقباضها من فعل شيء أو تركه مخافة ما يعقبه من ذم ولوم.
والدعوة إلى التخلُّق بالحياء وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كُلِّ معصيةٍ وشَرٍّ.
فالحياءُ خلَّةٌ من خلال الخير، وشعبة من شُعَب الإيمان، وعليه مدار كثير من أحكام الإسلام؛ قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من علامات الشِّقْوة: القسوة في القلب، وجُمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمد".
الحياء، هو أصل الخير والعقل، وتركه أصل الشر والجهل.
فالحياء يدل على كمال عقل صاحبه، فمتى وجد في الإنسان الحياء وجد فيه الخير كله، ومتى فارقه الحياء قادته نفسه وشيطانه إلى الهلاك المحتوم، وأرداه موارد الفساد.
فبالهيبة والحياء تعمر القلوب، وتزكو النفوس، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير، وعلى قدر حياة القلب تكون قوَّة الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح.
فمن قوِي حياؤه صان عرضَهُ، ودفن مساوئَه، ونشر محاسنَه، وكان ذِكْره عند الناس محموداً، وعند الله مرفوعاً.
ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، وظهرت مساوئه، ودفنت محاسنه، وكان عند الناس مهاناً، وعند الله ممقوتاً.
إن الحياء والإيمان قد قُرنا معا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر؛ وإن الله -تعالى-، إذا أبغض عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضاً مبغَضاً.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الحياء مشتق من الحياة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، فبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازُم، فكل منها يستدعي الآخر ويطلبه، ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله -تعالى-، ومن معصيته لم يستح الله من عقوبته" ا. هـ.
أيها المسلمون: وكما يستحيي المسلم من الخَلْقْ، فلا يكشف لهم عورة، ولا يُقصّر لهم في حق، ولا ينكر لهم معروفاً، فإن عليه أن يستحيي من الخالق -سبحانه- فلا يقصر في طاعته، ولا في شكر نعمته، لما يرى من قدرة الله عليه، وعلمه به.
فالله أحق أن يستحيي منه، ومن استحيا من الله حق الحياء، حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وذكر الموت والبلى، وترك زينة الحياة الدنيا، وشكر نعمة الله -تعالى- عليه، وأدرك عظمته، واطلاعه عليه، وإحاطته بعباده، وقربه منهم، وعِلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم رجع على نفسه فحاسبها على التقصير، فلا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "من استحيا اختفى، ومن اختفى اتَّقى، ومن اتقى وُقِي".
إن من ثمرات الحياء: العفة والوفاء، فمن اتصف بالحياء صار عفيفاً وفياً بعيداً عن كل منقصة، قريباً من كل فضيلة؛ قال الأحنف بن قيس -رحمه الله-: "اثنتان لا تجتمعان أبداً في بشر: الكذب والمروءة، ومن ثمرات المروءة: الصدق، والوفاء، والعفة، والحياء".
فإذا فقد الحياء من المرء، فقُل: عليه السلام! فقد هبط إلى ميدان الرذيلة، وهوى في دركات الحماقة والوقاحة، ولم تزل خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى، حتى يصير بذيئاً جافياً، فيه قبائح الأفعال، وسيء الأقوال.
إن الله -عز وجل- إذا أراد بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مَقيتاً، فإذا كان كذلك نزع منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائناً، فإذا كان خائناً نزع منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً، فإذا كان فظاً غليظاً نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطاناً لعيناً؛ فعند البخاري، من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
فإذا تعرى الإنسان من الحياء، فلا تسل عما سيقترفه من رذائل، ولا تعجب مما سيرتكبه من حماقات، فقليل الحياء لا يأبه بدنو همته، ولا يبالي بسفول قدره، ولا يجد ما يبعثه للفضائل، ولا ما يقصره عن الرذائل، فإنه إذا فقد حياءه فسينطلق في تحصيل شهواته، غير آبِهٍ بحق الله، ولا بحق الناس؛ وسيهوي في دركات الحماقة والوقاحة، فلا تزال خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى حتى يصير بذيئاً جافياً، فيه قبائح الأفعال، وسيء الأقوال.
الحياء سِرَاجٌ مَنِيعٌ، وحِصْنٌ حَصِينٌ من الوُقُوع في المعاصي والمحرَّمات، فمَنْ ذهب حياؤه ذهبت مروءته، ومن ذهبت مروءته قلَّ إحساسُه، فلم يشعر بعيب الناس له، وانتقاصهم لقدره:
وَرُبَّ قَبِيحةٍ ما حالَ بَيْنِي *** وبينَ رُكُوبها إلاَّ الحيَاءُ
فكانَ هُوَ الدَّواءَ لها ولكنْ *** إذا ذهبَ الحياءُ فلا دواء
فهل استحيا من الله مَن أنْعَمَ اللهُ عليه بالصِّحَّة والمال والأولاد والحياة الرغيدة، ثم هو لا يعرف لله قدراً بأن يشكر نعمته عليه، بإقامة الصلاة، وإخراج الزكاة، فيدعوه داعي الفلاح في اليوم خمس مرات، ثم هو لا يستحيي فيجيب دعوةَ صاحب الفضل عليه، وهو الله -سبحانه وتعالى-؟.
وهل استحيا من الله رجال ونساء يجاهرون بمعصية الله ليلَ نهارَ في الطرقات، وفي مجامع الناس، والحفلات والأفراح، فيقابلون نعم الله بمعصيته بلا حياء منه سبحانه، ولا من خَلْقه؟
وهل استحت من الله نساء لا رقيب عليهن من الرجال العقلاء، نزعن ماء الحياء من وجوههن، يتسكعن في الأسواق والطرقات، يخالطن الرجال بحجاب مخرَّقٍ، يكشف أكثر مما يستر، متطيبات متبخترات، يغرين ضعاف النفوس وعديمي الحياء والمروءة، كم قتلن من فضيلة، وهتكن من ستر! وكلٌّ مسؤول عن رعيته؟
وهل استحيا من الله من يأكل أموال الضعَفة من المسلمين من اليتامى والعمال مع إنعام الله عليه بكثرة الأموال؟ أو ذاك الذي يستدين الأموال ثم هو يماطل في ردِّها، مع قدرته على ذلك، فينكر الجميل، ويتعرض لسخط الله؟
وهل استحيا من الله من إذا خالط الناس أظهر لهم الحسن، وإذا خلا بربه أظهر له القبيح فانتهك محارمه؟
وهل استحيا من الله من يعامل الناس والأصحاب بمكارم الأخلاق، ثم يبخل بها على والديه وزوجته وأولاده، فلا يجدون منه إلا الفظاظة والغلظة والبخل؟
وهل استحيا من الله من أنعم الله عليه بالمال الكثير ينفقه يميناً وشمالاً في شهواته، ثم هو حين يدعى للإنفاق في سبيل الله يبخل؟
وهل استحيا من الله ذاك الذي شُغف بالأغاني الماجنة، يزعج الناس في طرقاتهم ومنازلهم؟ أو ذاك الذي ضيَّعَ أبناءه بلا تربية ولا خلق، يسيحون في الأرض يؤذون المسلمين، فإذا نُصح أو نُبِّه قابلك بالإساءة والتأفف؟.
إن الذي حمل هؤلاء، وغيرهم، على النـزول إلى هذه المستويات الهابطة من الأخلاق والتعامل هو ذهاب الحياء، وصدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
وإذا أُصِيبَ القومُ في أخلاقِهِمْ *** فأَقِمْ عليهِمْ مأتَماً وعَوِيلاً
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى.
اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واهدنا لأقوم الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، إنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: واعلموا -رحمني الله وإياكم- أنه إذا كان الحياء محموداً، والوقاحة مذمومة، فإنه :"لا حياء في الدين" بمعنى أن خلق الحياء في المسلم غير مانع له من قول الحق، أو طلب العلم، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "يرحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتعلمن أمور دينهن".
وقد شفع أسامة بن زيد، حبُّ رسول الله، وابن حبه -رضي الله عنه- في المرأة التي سرقت، فلم يمنع الحياء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لأسامة في غضب: "أتشفع في حد من حدود الله؟ والذي نفسي بيده لو فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها".
ولم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- من أن تقول: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم؛ إذا رأت الماء".
فاتقوا الله -رحمكم الله-: واعلموا أن الحياء الممدوح هو الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق، ويحمله على فعل ما يجمله ويزينه.
أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، فإنه حياء مذموم، وتخذيل من الشيطان.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: واحرصوا على خلق الحياء سلوكاً ومنهجاً وتربية، وواقعاً تعيشون عليه، فالحياء خير كله.
وعلينا أن نُربي أبناءنا وبناتنا منذُ الصغر على هذا الخُلق الأصيل، فكم يخطئ الأب حين يدفع بولده، باسم الحرية، ليجالس من شاء، ويسمع من الأغاني الهابطة ما شاء، ويترك البنت تلبس ما تشاء، اعتماداً على قوة خُلقهم، وثقتهم بأنفسهم، ولما تمر الأيام، فإذا بصورِ الخلاعةِ والمُجون والتفسخ تتركُ آثارها في نفوسهم ليواجهوا الحياة بعد ذلك بإرادة خدمتها تلك الصور، وهذه الأغاني، وذاك اللباس.
إن الحياء المحمود يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة، وقوادح الدين، وينأى بالمرءِ عن الرذائل، ويحجزه عن السُقوطِ في سفاسفِ الأخلاقِ، وحمأةِ الذُنُوب.
إنَّ من لا حياءَ لهُ فهو ميتٌ في الدنيا، شقيٌّ في الآخرة.
إنَّ مسارعة آدم وحواءَ إلى سترِ عوراتهما بأوراقِ الشجرِ، دليلٌ على أنَّ الحياءَ عنصرٌ أصيلٌ مركوزٌ في فطرةِ الإنسان، فعليه أن يهتمَّ به، ويحافظَ عليه، ويصونه من أن ينثلم؛ وإذا لم يستح المرءُ، فليصنع ما يشاء.
وإِذَا خَلَوْتَ بِريَبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ *** وَالنَفْسُ دَاعِيَةٌ إِلى الطُغْيَانِ
فاسْتَحْيْ مِنْ نَظَرِ الإلَه وَقُلْ لَهَا *** إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي
ألا وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون-: لعلكم تفلحون، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، من اليهود والشيوعيين، وأعوانهم يا رب العالمين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي