صفة الصديقية أعظم من صفة الشهادة والصلاح، ولذلك كان أفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69]. فقدم الصديقين على الشهداء والصالحين. وفي الصحيحين من حديث أنس –رضي الله عنه- قال: "صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فضربه برجله، قال: اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان". فأول من آمن بالرسول باتفاق أهل الأرض أربعة: من...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعتاد كثير من الناس؛ إذا ذكر الصحابة عندهم لضرب المثل، وحثهم لفعل الخير، وأن يكونوا معتبرين هؤلاء الصحابة، وهي عادة غير محمودة؛ إذا قصد من ورائها التنصل من المسؤولية، أو تبرير العجز، وعدم القدرة، أو قصد من ورائها: أنه من الخطأ أن نجعل الصحابة -رضي الله عنهم- مقياسا نقيس به، أو نقيس بهم قدراتنا وإمكاناتنا.
والدليل على سوء هذه العادة: أن الله -تبارك وتعالى- وهو الأعلم بقدرة البشر بمختلف منازلهم وأنواعهم، جعل لنا مثلا نحتذي حذوه، ونقتفي أثره، فيمن هو أعظم وأكرم من الصحابة؛ جعل لنا مثلا وأسوة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف بمن هم دونه، أو فيما هم دونه؟.
قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)[الأعراف: 157].
فلا وجه ولا عذر إطلاقا لمن تنصل واستبعد.
نعم، لقد كانوا خير الناس بعد نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، كانوا جيلا فريدا، اصطفاهم ربنا الحكيم بعلمه لحمل رسالة الإسلام، وخدمة الدين ونصره، فقاموا بالمهمة خير قيام، حتى قضوا وهم على تلك الحال، فماذا بعد؟
قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [التوبة:100].
إذا، فالاتباع مطلوب، والاتباع يقتضي التأسي، والتأسي يعني اتخاذهم قدوات لنا في كل ما تميزوا به من خير، فإذا استصعب أحدنا فعلهم، وذكر عنده مثل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل الصحابة مثل التابعين، فليتذكر قول الشاعر:
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها *** لما دروا أن السماحَ رباحُ
قوم جميع الفضل منتسب لهم.
فتشبوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
هو أبو بكر، عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو... ابن أبي قحافة، الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-.
رجل من لحم ودم، يأكل ويشرب، ويفرح ويحزن، وينعس وينام، ويتعب ويمرض، ويرضى ويسخط، رجل في هيئته في مشيته في جسده.
لكنه رضي الله عنه تميز بصفات أخرى رفعته عاليا عاليا جدا، حتى أصبح عند الله -تعالى- أفضل رجل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد نبينا على مر العصور، أفضلهم إيمانا وعقلا وعلما وأخلاقا، حتى قيام الساعة؛ فما هي تلك الصفات التي ميزت أبي بكر عن غير من رجال الأمة؟.
أولا: التصديق، فتصديقه رضي الله عنه كان كاملا في العلم والقول، والقصد والعمل.
وأعلى مراتب الصدق، مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول -صلى الله عليه وسلم- مع كمال الإخلاص للمرسل جل وعلا.
هو متبع للنبي -صلى الله عليه وسلم- تمام الاتباع، ومخلص لله -جل وعلا-.
وهذا مما تميز به أبو بكر عن غيره من رجال الأمة بمراحل، حتى لقب بالصديق، وهو لقب التصق باسمه -رضي الله عنه-، حتى كأنه جزء منه.
وصفة الصديقية أعظم من صفة الشهادة والصلاح، ولذلك كان أفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون، قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].
فقدم الصديقين على الشهداء والصالحين.
وفي الصحيحين من حديث أنس –رضي الله عنه- قال: "صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فضربه برجله، قال: اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان".
فأول من آمن بالرسول باتفاق أهل الأرض أربعة: من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله"[رواه البخاري].
فالصدق ليس باللسان فحسب، بل بالموقف والتأييد، وبالولاء وبالمساندة والمناصرة عند الشدائد، هكذا كما أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: "صدق" وأردفه قائلا: "وواساني بنفسه وماله".
كذلك نحن -يا مسلمون-: ينبغي أن نقف مع الإسلام ضد كل أعدائه، بل يجب ذلك علينا وجوبا، فالولاء والبراء من أهم مقتضيات شهادة التوحيد.
فالمسلم الذي يسعى للارتقاء في مراتب الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا؛ كما في الحديث المشهور، وفيه: "وإن الرجل ليصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا".
وقد تقدم علو مقام الصديقية.
المسلم الذي يسعى للارتقاء إلى منازل الصدق؛ عليه أن يري الله من مواقف الصدق الحاسمة ما يشهد له.
أبو بكر لم يكن كثير الكلام، بل كثير الصدق في مواقفه، إنه شيء وقر في صدر هذا الرجل، صيره جبلا، يصد عن الإسلام كيد الأعداء، وجعله عونا وناصرا عزيزا للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم انسحب الأعوان، وتردد المنتسبون، حتى كاد أن يتخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- خليلا، لولا خلة الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته"[الحديث رواه مسلم].
أي صدق بعد صدق أبي بكر؟!
تأتي حادثة الإسراء والمعراج، حادثة عظيمة، محصت قلوب المسلمين في مكة قبل الهجرة، كانوا قلة مؤمنة في مجتمع شرس، يعج بالشرك، تحامل أهله على إيقاع الضرر بكل مسلم، واجتمعوا على الاستهزاء بهم، واستغلال كل شاردة وواردة للسخرية واللمز، فإذا بحادثة الإسراء تحف بالمجتمع المكي.
محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنه انتقل إلى بيت المقدس، وصلى فيه، ثم عرج به إلى السماء السابعة، وتلقى من ربه الوحي من وراء حجاب، ثم عاد إلى مكة، ولما يبرد فراشه بعد، فانتهزها أعداء الله فرصة للنيل من الإسلام، ومن حملته، وهي خصلة قبيحة يشتركون فيها مع المنافقين، الصيد في الماء العكر.
ولذلك تجد -أخي المسلم-: أن المنافقين في كل زمان ممن يبغضون الالتزام بالدين، ويحزنون إذا انتشر، وظهرت معالمه، تجدهم يتربصون ويترقبون أية فرصة، أو مناسبة تصلح أن تستغل لبث الشبهات، في المجتمع المسلم، والطعن في دعاته، والدعوة إلى التفكك من أوامر الإسلام ووصاياه.
وها هم إخوانهم من كفار قريش يجدون في حادثة الإسراء فرصة للطعن في صدق الرسالة، ولقد تأثر من المسلمين من تأثر بحسب ثبات قلبه وقوة الإيمان، فارتد بعضهم، واحتار آخرون.
وقد نقل ابن حجر -رحمه الله تعالى-في الفتح حديث ابن عباس عند أحمد، والبزار بإسناد حسن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلا حزينا، قال: فمر عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال: ما هو؟ قال: إنه أسري به الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم، فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب زعم، قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد، ورأى المسجد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس على بعض النعت، قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر حتى وضع دون دار عقال أو عقيل، فنعته، وأنا أنظر إليه.
وفي رواية عند البخاري من حديث جابر، قال: "فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه".
قال: "وكان مع هذا نعت لم أحفظه، قال: فقال القوم أما النعت، فو الله لقد أصاب".
ويأتي عتاولة الكفر إلى الصاحب القريب الذي ربما لو اهتز من جراء هذا الخبر لأثر ذلك في بقية المؤمنين، فهو أقرب الناس إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، يأتون إلى أبي بكر الصديق، ويذكرون له الحادثة بتهكم وسخرية، لعل الرجل أن يصمت، أو يضطرب، فيرد عليه الصديق بثقة المؤمن: "أشهد، إن كان قال ذلك، لقد صدق، قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ قال: إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء".
نعم -إخوة الإسلام-: إنه شيء وقر في قلب هذا الرجل، جعل إيمانه يفوق إيمان الأمة مجتمعة.
إنه النور الذي قذفه الله في قلبه رضي الله عنه -نسأل الله الإيمان وزيادته-.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "المؤمن لا بد أن يقوم في قلبه من معرفة الله، والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المحبوب، لكن هو الإيمان به، ومعرفة أسمائه وصفاته".
قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) [النــور: 35].
قال أبي بن كعب: "مثل نوره في قلب المؤمن".
فهذه هي الأنوار التي تقذف في قلوب المؤمنين، وهذه الأنوار بلا أدنى شك متفاوتة، قال: ولهذا قال أبناء يعقوب: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ)[البقرة: 133].
فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة، تزيد وتنقص، ويتفاوتون تفاوتا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق شخصين: "لهذا خير من ملء الأرض من مثل هذا".
فصار واحد من الآدميين خيرا من بني جنسهم كلهم.
وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله.
قال: وإلى هذا المعنى أشار من قال: "إن أبا بكر لم يفضلكم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه".
وهو اليقين والإيمان.
ولهذا لما سأل سالم بن أبي الجعد محمد ابن الحنفيّة: "هل كان أبو بكر -رضي الله عنه-: أول القوم إسلاما ؟ قال: لا، قلت: فلأي شيء سبق عليهم، حتى لا يذكر فيهم غيره، قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما حين أسلم، فلم يزل كذلك حتى قبضه الله –تعالى-".
إذا -عباد الله-: فنحن في حاجة إلى الصمود في وجه الفتن والشبهات التي يغص بها عالم اليوم، يجب علينا أن نؤمن بجميع ما جاء من الوحي، سواء في القرآن، أو في السنة المطهرة.
ولو أشكل على عقولنا استيعاب كنهه، فسلطان الوحي أقوى وأعلى من سلطان العقل، ومن سلم قلبه من التردد والعناد والشك، فقد ارتقى في منازل الصدق.
ونجد لأبي بكر موقفا مشابها في حادثة الحديبية؛ لما ثارت ثائرة المسلمين غيرة على الإسلام، وخوفا على ضياع عزته، ومنهم عمر -رضى الله عنه- أقرب الرجال إلى الرسول، بعد أبي بكر، وثب إلى أبي بكر، فقال: "يا أبا بكر أو ليس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ أي بقبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشروط قريش- قال الصديق -رضي الله عنه-: يا عمر الزم غرزه -أي الزم أمره- فإني أشهد أنه رسول، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
فمرتبة الصديقية تقي القلب من الاضطراب في الساعات العصيبة.
مرتبة الصديقية تركن بصاحبها إلى الإسلام جسدا وروحا وعقلا بحيث لا مجال بعد ذلك إلا لليقين والتسليم، ولو واجه أقسى الشبهات.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله، فاستغفروا الله إنه غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الخلق أجمعين، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، نبينا محمد، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الكرام الميامين، وعلى من سار على دربه ودربهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الصدق الخالص يقتضي النصرة للدين، وحملة الدين ودعاته.
نصرتهم بالدعاء لهم أولا، وبالذب عن أعراضهم ثانيا.
وببذل المستطاع لحمايتهم من غائلة أعدائهم، لما أراد المشركون أن يضربوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يقتلوه بمكة، دافع عنه الصديق، فطردوه؛ عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمر عن أشد ما صنع المشركون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، وقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ)[غافر: 28].
وفي حديث أسماء -رضي الله عنها-: فأتى الصريخ –أي المستنجد- إلى أبي بكر، فقيل: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وإن له لغدائر أربعا، وهو يقول: ويلكم: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم"؟ [غافر: 28] فلهوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبلوا على أبي بكر، قالت: فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه.
وأبو بكر بصدق مواقفه لا لسانه فحسب، فقد قام في الناس خطيبا، -كما ذكر ابن كثير- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.
وروى البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه: أنه خطب، فقال: أيها الناس أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: أو قال، قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال : أبو بكر -رضي الله عنه-، أنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشا، فقلنا: من يكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلا؟ يهوي إليه أحد من المشركين فوالله، ما دنا منه إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يهوي إليه أحد إلا أهوى عليه، فهذا أشجع الناس، فقال علي: ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا ويجاء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني، فو الله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.
إخوة الإيمان: إن لمشاهد الصدق التي امتاز بها الصديق أمثلة عديدة، فللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.
أيها الإخوة: إن ما حدث في جدة بالأمس من قتل وسفك لدماء رجال الأمن، له أمر عظيم عند الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93].
أولئك المسلحون الخارجون عن الحق، لم يقدروا نعمة الأمن التي تنعم بها البلاد.
فأسأل الله -تعالى- أن يهدي ضال المسلمين، وأن يرحم موتاهم، وأن يحفظ علينا أمننا، وأن يرد كل حاسد ومبغض.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، ارض عن أبي بكر والصحابة الكرام.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي