أيها المسلمون: وظيفةُ الإنسان في هذه الحياة، هي: العبوديةُ لله -عز وجل- في توحيده وذِكره وشُكرِه وحُسن عبادتِه، ثم عِمارةُ الأرض بما تقتضِيه هذه العبودية مما يظهرُ به الدين، ويقومُ به الشرع. العبوديةُ لله، هي الغايةُ الكُبرى. أما العلومُ والمعارِف، والأعمال والولايات، والحِرَف والصناعات، فهي وسائلُ إليها، وتابِعةٌ لها. التنوُّر الحقيقي، هو الاستِنارةُ بنور الوحي، وعلومِ الكتابِ والسنةِ، والظلاميَّةُ والظُّلُمات بالحِرمان من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله قدَّر المقاديرَ فأحاطَ بها علمًا، وخلقَ الخلائقَ فأحكمَها خلقًا: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا)[غافر: 13].
لا إله إلا هو أماتَ وأحيَا، وأضحكَ وأبكَى، وأسعدَ وأشقَى، أشكرُه على نعمائِه لا أُحصِي لها عدًّا، وأحمدُه على آلائِه لا أقضِي له بالحمد حقًّا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ تعبُّدًا ورِقًّا.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هو الأخشَى لربِّه وأتقَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابِه الغُرِّ الميامين الأخيار، حازُوا المكارِم شرفًا، ونالُوا العُلَا سبقًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما بلغَ هذا الدينُ مبلغَ الليل والنهار، وما رفرفَت أعلامُه غربًا وشرقًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس-: ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فالتقوى تقِي هوى النفوس. وتُوبوا إلى الله واستغفِروه؛ فكثرةُ الاستغفار تجلِبُ الرزقَ، وسلامةُ المرء بين فكَّيه، ومن أراد كسبَ القلوبِ فليُلِن العبارة، وليبذُل الابتسامة، وليغُضَّ الطرفَ عن الزلاَّت.
وأحوال الدنيا لا تستحقُّ هذه الهموم؛ فالرزقُ مقسومٌ، والقدرُ محتومٌ، والرجاءُ في رحمةِ الحي القيوم. ومن ابتغَى العافية عافاه الله، ومن أوَى إلى الله آواه الله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64].
أيها المسلمون: وظيفةُ الإنسان في هذه الحياة، هي: العبوديةُ لله -عز وجل- في توحيده وذِكره وشُكرِه وحُسن عبادتِه، ثم عِمارةُ الأرض بما تقتضِيه هذه العبودية مما يظهرُ به الدين، ويقومُ به الشرع.
العبوديةُ لله، هي الغايةُ الكُبرى.
أما العلومُ والمعارِف، والأعمال والولايات، والحِرَف والصناعات، فهي وسائلُ إليها، وتابِعةٌ لها.
التنوُّر الحقيقي، هو الاستِنارةُ بنور الوحي، وعلومِ الكتابِ والسنةِ، والظلاميَّةُ والظُّلُمات بالحِرمان من أنوارِ الوحي، وأشرفُ مراتِب العِمارة العِمارةُ الإيمانية، وجوهرُ وظيفة الاستِخلافِ التمكينُ لدينِ الله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 41].
وفي عبارةٍ جامِعةٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، يقول: "فالمقصودُ والواجبُ بالولايات إصلاحُ دين الخلق الذي متى فاتَهم خسِروا خُسرانًا مُبينًا، ولم ينفعهم ما نعِمُوا به في الدنيا".
والمقصودُ أيضًا: "إصلاحُ ما لا يقومُ الدينُ إلا به من أمر الدنيا".
ويقول الإمام الغزاليُّ -رحمه الله-: "أحكامُ الخلافة والقضاء والسياسات، بل أكثرُ أحكام الفقه مقصودُها حفظُ مصالِح الدنيا ليتمَّ بها مصالِحُ الدين".
ومن هنا -معاشِر الإخوة-: كان أعلى شُعب الإيمان قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطةُ الأذَى عن الطريق، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان.
أقوالٌ وأعمالٌ كُبرى وصُغرى، من فروض الأعيان، وفروض الكِفايات، ومن الواجِبات المُستحبَّات مما يصلُح به الدين، وتعمُرُ به الدنيا.
البشرُ -عباد الله-: مفطورون على التديُّن والتعبُّد لله، وليس طريقٌ لإصلاح البشرية وإعمار الأرض إلا طريقَ الدين، وسُلوك سبيل المُؤمنين: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)[الأعراف: 170].
والمؤمنُ عامِرُ الأرض ومُصلِحُها قويٌّ في دينِه، ثابتٌ في عقيدتِه، لا يتحرَّجُ من حقائِق الدين مُجاملةً لوسائل الإعلام، أو مُسايرةً لرغَبَات الجماهِير، ولا يكونُ ربُّه أهونَ الناظِرين إليه، وهو يقرأ: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
وهو يقرأ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36]ز
ويقرأ: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
مِسكينٌ بعضُ ضِعافِ الإيمان حين يظنُّ الغيرةَ تشدُّدًا، أو يرَى التواصِي بالحق وِصايةً على الخلق، أو يحسَبُ أن الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المُنكَر إقصاءٌ أو تدخُّل، والإقدام على المُنكرات حريةٌ شخصيةٌ!.
المؤمنُ المُصلِح يُميِّزُ الدَّخيلَ من الأفكار، والسيِّئَ من المفاهِيم مما دخلَ على مُجتمعات أهل الإسلام في تعليمِهم وثقافتِهم وإعلامِهم.
والعلوم والمعارِف، والولايات والسياسات، والأعمال والتجارات كلها وأمثالُها وسائلُ بقدر ما تُرسِّخُ من الدين، وما تُلِي من القِيَم، وما تُزكِّي في النفوس.
ينبغي الحَذَرُ من فلسَفَاتٍ أو أُطروحاتٍ لا تبنِي فِكرًا صحيحًا، ولا تُؤسِّسُ لسُلوكٍ مُستقيم.
حَذارِ من الغلوِّ في تمجيد العلوم والمعارِف والثقافات المُجرَّدة من القِيَم؛ فالغلُوُّ ينبُوعُ الانحِراف. وينبغي التفريق بين الانتِفاع بالجديد وبين الانبِهار المُضِلّ.
الصالِحُ المُصلِحُ لا ينحرِفُ عن الشرع انتِقامًا من أخطاء بعض المُنتسِبين إليه.
العاملُ المُصلِح يقبل النصيحة، ويستغفِرُ لمن أخطأ، وينظرُ في علاقتِه بربِّه، فما كان صوابًا مضَى فيه واستكثَرَ منه، وما كان خطأً تابَ منه وأنابَ.
ولا يلزمُ من الخِلافِ في الرأي الخِلافُ في الولاء.
كم هو ضروريٌّ أن يعلمَ المُصلِحون والمُتحدِّثون عن التجديد أن في الإسلام أُصولاً وثوابِت غيرَ قابِلةٍ للتغيير والتبديل من العقائِد، ومُحكَمات الدين، وما عُلِم من الدين بالضَّرورة.
وحسنٌ أن يعلَموا أن الإسلام ذاتَه ليس موضوعًا لإصلاح، وإنما يكونُ به الصلاحُ والإصلاح؛ فالإسلامُ هو المُصلِح وهو مِعيارُ الصلاح: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 89].
معاشر الإخوة: العلوم والتِّقنيات وسُوقُ العمل ليست بديلاً ألبتَّة عن العقيدة والأخلاق وحُسن السُّلوك، ماذا تُفيدُ الصِّناعاتُ والتجارةُ إذا لم تبنِ إنسانًا مُستقيمًا مُؤمنًا، حيَّ الضمير، مواطِنًا صالِحًا.
وإذا كانت الأنفُسُ فاسِدة غير صالِحة فلا تُجدِي الأنظمة، ولا اللوائِح ولا التعليمات: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].
معاشر المسلمين: هذا في منهَج الإصلاح.
أما المُصلِحون والمُتحدِّثون عن الإصلاح، فقد يكون من ابتِلاءات هذا العصر أن مُجتمعات اليوم مُجتمعاتٌ مفتوحةٌ، بأدوات تواصُل هذا العصر، ووسائل إعلامه، وقنوات معارِفه تُتاحُ مع هذا الانفِتاح المُشارَكةُ للجميع.
والمُصلِحُ الصادقُ والناصِحُ المُخلِصُ، هو من يُحسِنُ ترتيبَ أولويَّاته، ويُقدِّمُ فيها الأهمَّ ثم المهمَّ، ويسعَى في بناءِ نفسِه ونفعِ أمَّتِه، ولا يشغَلُ نفسَه بالكلام والمُشارَكات غير المُثمِرة، وليحذَر أن تغلِبَ شهوةُ الكلام والجدَل على جديَّة العطاء والعمل، وحُسنُ النيَّة لا يُغنِي عن حُسن العمل.
لا ينبغي أن تكون أدواتُ التواصُل الاجتماعيِّ ومواقِعُه وسائلَ شحنٍ وتشنُّجٍ بدعوَى الحريَّة، وحقِّ النقد، والرَّغبة في الإصلاح، في تأليبٍ للرأي، وتنكُّرٍ للإيجابيَّات، ودفنٍ للحسَنات؛ بل عدمُ مُوازنةٍ بين الحسنَات والسيئات.
ناهِيكُم إذا كان لبعضِ هذه الأدوات الإعلاميَّة وقنواتِ التواصُل أهدافُها، ومقاصِدُها، وانحِيازاتُها؛ بل لها أدواتُها في الاستِقطاب والتوظيف والاستِعطاف.
يا من ترغَبُون في الإصلاح! لا شيء ينفُذُ إلى القلوب أسرعُ من صحَّة المُعتقَد، وحُسن العبادة، وسلامة المقصِد، وصفاء القلبِ، ثم حُسن المُعاملَة، وغضِّ الطَّرف عن الزلاَّت: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[الشورى: 15].
لا كما رغِبت.
على المُصلِح أن يلزمَ نصيحة السرِّ، ومحبَّة المنصُوح، والذَّبَّ عن عِرض المُسلِم.
وثمرةُ العلم العمل، وثمرةُ العمل التقوى.
وليحذَر أن يغلِبَ عليه تمجيدُ نفسِه وإظهار صورتِه، وليكُن خادِمًا لدين الله، لا أن يكون خادِمًا نفسَه بدين الله، يظهرُ الحقُّ على أكتافِه ولا يظهرُ على أكتافِ الحق.
عليه أن يتحفَّظ من الهوى، وحُظوظ النفس، والعُجب، والتعصُّب؛ فسلامةُ الدين قبل سلامة المنهَج، وسلامةُ المنهج قبل منهَج السلامة.
وليحذَر أن يكون مطيَّةً لنشر ما يزرع الفُرقةَ في الأمة، والبغضاءَ بين الأشِقَّاء، وليكن مُعتدلاً مُنصِفًا في أقواله وأفعاله، حسنَ الظنِّ بإخوانِه.
عليه أن يتفقَّد نفسَه في أعمال القلوب، فهي أصلُ أعمال الجوارِح.
وليحذَر اليأسَ والتخذيل، وأوهام المخاوِف، وليكن حجرَ بناءٍ لا حجرَ عثرة: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64].
وليذكُر سَعَة الإسلام ورحابتَه مع المخالِف ما دامَ صاحِبَ سُنَّةٍ يبتغي الحقَّ. وليطمئنَّ مُبتغِي الإصلاح؛ فمسيرةُ الحق ونُصرة الدين ليست مُتوقفةً عنده ولا عليه، فالعملُ للإسلام يُدبِّرُه الله -عز وجل- على مُقتضَى حكمتِه، وعلى قدر إخلاص العبد: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17].
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء: 104].
المُصلِح ليس مسؤولاً عن النتائِج ولا الانتِصارات؛ بل عليه أن يطمئنَّ أنه على الجادَّة، وأنه مُطيعٌ لربِّه، سائرٌ على هديِه، مُنفِّذٌ لأوامِرِه، مُجتنِبٌ نواهِيَه: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[البقرة: 272].
(وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].
أيها المُصلِح: ادعُ إلى الله على بصيرةٍ، وجِدَّ واجتهِد، وسدِّد وقارِب، والعصمةُ ليست للبشر، وأقِم الدينَ في نفسِك، وأعلِ القِيَم في مسلَكِك، وأنصِف من نفسِك، ولتكن عنايتُك بلفتٍ للقلوبِ والعقول لا بلفتِ الأنظار.
غيِّر ما في نفسِك يتغيَّر ما حولَك: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].
والقلبُ إذا صلَح صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسَد فسدَ الجسدُ كلُّه.
ابتعِد عن التألِيب، وصِراع المصالِح، والأحزابِ والجماعات.
إياك أن تظنُّ أنك مسؤولٌ عن توزيعِ أقدار الله على ما تشتَهي؛ فمُصيبةُ من تحبُّ تقول: مؤمنٌ طيبٌ مُبتلَى، ومُصيبةُ من لا تحبُّ تقول: عقوبةُ ظالمٍ سيِّئ! تُسوِّغُ لمن تحبُّ، وتتعسَّفُ وتتكلَّفُ فيمن لا تحبُّ.
تُحسِنُ الظنَّ بنفسِك وبمن تهوَى، وتُسيءُ الظنَّ بمن لا تحبُّ ولا تهوَى.
يا هذا! كلُّ الناس تحمِلُ العيوب، ولكنَّ السِّترَ عند اللطيف علاَّمِ الغيوب.
سُئل أبو بكر بن عيَّاش -رحمه الله-: من هو السنِّيُّ؟ فقال: "الذي إذا ذُكِرت الأهواءُ لم يتعصَّب لشيءٍ منها".
يقول الشوكانيُّ -رحمه الله-: "المُتعصِّبُ صاحِبُ الهوى قد يكونُ بصرُه صحيحًا، ولكنَّ بصيرتَه عمياء، وأُذنَه عن سماع الحقِّ صمَّاء، يدفعُ الحقَّ وهو يظنُّ أنه ما يدفعُ غيرَ الباطل".
ويقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "البدعةُ مقرونةٌ بالفُرقة، والسنَّةُ مقرونةٌ بالجماعة".
وبعدُ: أيها الإخوة: فعلى أهل الحق والخير والإصلاح أن يكونوا يدًا واحِدة، فلا يقِفُ بعضُهم مُعيقًا للآحر بقولِه أو فعلِه؛ بل يتوجَّهُ كلُّ مُصلِحٍ إلى ما خُلِق له مما يسَّره الله له في علمِه وخِبرتِه وفهمِه وإدراكِه.
فلا يتمُّ الإصلاحُ على وجهِه إلا بالتعاوُن؛ فمُصلِحٌ مهمَّتُه نشرُ علمٍ أصولاً وفروعًا، وآخرُ في الدعوة توجيهًا وإرشادًا، وآخر في الاقتصاد والمال والتجارة علمًا وعملاً، ورابعٌ في السياسة حِكمةً ودِرايةً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، لا إله بحقٍّ غيرُه يُعبَد، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه يرَى دبيبَ النمل على الصخرة الملسَاء في الليل البَهيم الأسوَد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحِدُ الأحد، الفردُ الصمدُ، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رسولٌ لا يُكذَّب وعبدٌ لا يُعبَد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أهل الفضل والشرَف والسُّؤدَد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن تعبَّد.
أما بعد:
أيها المسلمون: ليس المطلوب من المسلم -ولاسيَّما طالب العلم والمُصلِح وصاحِبُ الرأي- أن يخوضَ في كل مسألةٍ، ويدخُل في كل تخصُّص، ويلِجَ في كل مُستجد. من فعلَ ذلك خلَطَ وخلَّطَ، وأفسَدَ أكثرَ مما أصلَح.
فليعرِف العاقِلُ قدرَه، وليُقدِّر موهِبَتَه وملكَتَه، وليقتصِر على فنِّه وتخصُّصه ومجال خِبرتِه. لا تُخدع أو تنخدِع بأن عليك مُواكبَة المُتغيِّرات، ومُتابعة المُستجِدَّات، وكلما استجدَّ أمرُ غيَّرتَ وِجهتَك.
دَع لكل أهلِ فنٍّ فنَّهم، ولكل ذوِي علمٍ علمَهم: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[يوسف: 76].
عليك لُزوم ما تعرِف، والسَّير على ما تقدِر، ودَع الباقِي لأهلِه، ومن أراد كلَّ شيءٍ خسِرَ كلَّ شيء. فالمُشاركةُ في كل قضية ليست دليلاً على الوعي، ولا علامةً على الاهتمام بأمر المُسلمين؛ بل قد تكونُ دليلاً على قِلَّة الإدراك، وعلى ضياع المسؤوليَّات.
والعاقلُ لا يستعجِلُ الكلامَ، أو إبداءَ الرأي، ولاسيَّما مع وجود من يَكفِيه من أهل العلم والخِبرة والتخصُّص.
ومن ابتِلاءات الزمان: أن الموضوعات المُختلِفة من دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ وتربويةٍ وغيرها منثورةٌ بين أيدِي الناس في المجالِس، والمُنتديات، والتغريدات.
فالحِرصُ على الدخول في كل هذا يهدِمُ ولا يبنِي، ويضُرُّ ولا ينفع، وهو خِلافُ المنهَج السليم.
ألا فاتقوا الله -عباد الله-: وليتوجَّه كلُّ مُصلِح لما خُلقَ، مما يسَّر الله له في علمِه وفهمِه وإدراكِه، وليُرِي الله من نفسِه خيرًا وصِدقًا وعدلاً: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة؛ نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيلِه، فقال -وهو الصادقُ في قِيله- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، واجمع به كلمةَ المُسلمين على الحقِّ والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهُدى والسنة يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفَظ إخواننا في سوريا، وفي بُورما، وفي إفريقيا الوسطى، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واشفِ مريضَهم، وارحَم ميِّتَهم، اللهم اجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم يا أرحم الراحِمين.
اللهم عليك بالطغاة والظلَمَة، اللهم عليك بالطغاة والظلَمَة، اللهم واجعل تدميرَهم في تدبيرهم يا قوي يا عزيز.
اللهم أصلِح أحوال إخواننا في العراق، وفي اليمن، وفي ليبيا، واحقِن دماءَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّةِ كلمتَهم، اللهم وابسُط الأمن والرخاءَ في دِيارِهم، اللهم وارفع البأس والضرَّاء عنهم يا ذا الفضل والمنِّ والإحسان.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ، وأحسِن عاقِبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمنَنا وأمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا، واجتماعَ كلمتنا ووحدَتنا بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم إنا نسألُك مُوجِبات رحمتك، وعزائِم مغفرتِك، والغنيمةَ من كل برٍّ، والسلامة من كل إثمٍ، والعزيمة على الرُّشد، والفوزَ بالجنَّة، والنجاةَ من النار.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي