الإجازة وأهمية استشعار المراقبة

عبد الله بن علي الطريف

عناصر الخطبة

  1. اليوم الموعود
  2. أحوال الناس في الإجازة
  3. معنى المراقبة
  4. استشعار مراقبة الله تعالى وسعة علمه
  5. حثُّ النبي الكريم والسلف على استثمار الأوقات
  6. ثمرات المراقبة

أيها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ -جل وعلا-، وهي وصيته -سبحانه- للأولين والآخرين أهلِ الكتبِ السابقةِ واللاحقةِ.

ولقد وعد -سبحانه- من قام بهذه الوصية بالثواب، وتوعد من أهملها وضيعها بالمعاقبة بأليم العذاب؛ قال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ [النساء:131].

وعلينا أن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾ [الشعراء:88-89].

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا﴾ [آل عمران:30]، (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2].

يوم يُبعثَر ما في القبور، ويُحَصّل ما في الصدور، ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء :42].

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:27]، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37].

أيها الإخوة: ها هي أيام الإجازة قد بدأت، وخزائن أوقاتها قد فتحت، ومصابيح لياليها قد أوقدت، وقوافل الموفَّقين إلى الاستفادة منها قد سارت وأدلجت؛ أما قوافل الفارغين فبكل تافهٍ قد تعلّقَتْ، وسوق إضاعة الأوقات بينهم قد راجت وتنوعت.

طوبى طوبى لمن استثمر هذه الخزائن فلم تَنْتَهْ إجازته إلا وقد استفاد وأفاد! ويا خسارة من أضاع وقته بحرام! ويا ندامة من انفرطت أيامها عليه ومرت وكأنه في منام!.

  أيها الأحبة: ما أحوجنا مع كل نفَس نتنفسه إلى مراقبة الله -تعالى-! وتزداد الحاجة لها في مثل هذه الأيام.

وقد عرَّف ابن القيم -رحمه الله- المراقبة فقال: "هي دوام عِلْمِ العبد وتيقُّنِهِ باطِّلاع الحقّ -سبحانه وتعالى- على ظاهره وباطنه؛ فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة؛ وهي ثمرة علمه بأن الله -سبحانه- رقيبٌ عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، وهو مطلع على عمله كُلَّ وقتٍ، وكلَ لحظةٍ، وكلَ نفَسٍ، وكلَ طرفةِ عينٍ".

وقال -رحمه الله-: والمراقبةُ هي التعبُّدُ باسم اللهِ الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبّد بمقتضاها حصلت له المراقبة؛ قال -سبحانه-: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة:117].

﴿الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾: قال السعدي -رحمه الله-: أي: المطّلع على سرائرهم وضمائرهم، ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ علماً وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.

أحبتي: إذاً؛ الرقابةُ الكاملة الرقابةُ المطلقة لصاحب العلم الواسع للذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، اللهِ -جل وعلا-، لا إله إلا هو العليم الخبير، ذلك أن علم البشرِ قاصر وضعيف وقليل، فما يدركه كُلُّ إنسانٍ محدود حتى ما يعلمه عن نفسه، أما علم الله فلا حدود له، قال الله -تعالى-: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].

وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾ [آل عمران:5]، يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك! يعلم ما سينطوي عليه قلبك في المستقبل، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات!.

إنه العلم الكامل المطلق: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19] (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].

﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ:3]. قال مجاهد وقتادة: ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾: لا يغيب عنه، أي: الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه منه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت، وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة، فإنه بكل شيء عليم.

لطُف علمه واتسع: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [المجادلة:7].

  كيف لا يعلم وهو القائل: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14)﴾ [الملك:13-14]؟ قال السعدي: هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه، فقال: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال التي تسمع وترى؟!.

ثم قال مستدلاً بدليل عقلي على علمه: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾؟ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾: الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والخفايا والغيوب، وهو الذي قال: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:7].

نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، كما نسأله أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: لقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اغتنام الأوقات، والمبادرة بالأعمال الصالحات، وقاية للمسلمين من الوقوع في الفتنِ المزعجةِ.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" رواه مسلم.

وحذرَ -صلى الله عليه وسلم- صحيحَ البدنِ الفارغ من هاتين النعمتين، وعدهما سبباً من أسباب الغبن، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" رواه البخاري.

قال السندي -رحمه الله-: والمقصود أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحةِ والفراغ، بل يصرفونهما في غير محلهما، فتصير الصحةُ والفراغ في حقهم وبالاً.

أيها الإخوة: ولقد تكاثر النقل عن السلف في الحث على استثمار الأوقات والتحذير من إضاعتها، من ذلك، ما قاله الحسن: "ابنَ آدم، إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك".

وقال: "ابنَ آدم، إنَّما أنت بين مطيتين يُوضِعانِكَ: يُوضِعُك النهارُ إلى الليل، والليلُ إلى النهار، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرةِ، فمَن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً؟".

وقال: "الموتُ معقود في نواصيكم، والدنيا تُطوى مِن ورائكم".

وقال داود الطائي: "إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مَرْحَلةً مرحلةً، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلةٍ زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريبٍ ما هو! والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقضْ ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتَك!".

وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: "يا أخي، يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم؟! بل أنتَ دائبُ السَّيرِ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجَّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائِك".

وقال بعضُ الحكماء: "مَن كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإنْ لم يسر".

أحبتي: إن استغلال الأوقات ومراقبة الله في الخلوات تقي المسلم إن شاء الله من البليات.

  أيها الأخ المبارك: استشعِرْ بأن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وإن تواريت وراء الأستار في الخلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، إذا علمتَ ذلك، واستشعرتَه اتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطناً، وكانَ باطنُك خيراً من ظاهرِك، وقد قيل: "من راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه".

وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيبا.

إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فلا تَقُلْ *** خَلَوْتُ ولكنْ قُلْ عَلَيَّ رقيبُ

ولا تحسـبنَّ اللهَ يغفـلُ ســاعـةً *** ولا أنَّ ما تُخفيه عنه يغيبُ

لعلنا ننجو ممن عناهم رسول الله فيما رواه ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا!"، قَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ! قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ -أي: من جنسكم-، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ -أي: يأخذون من عبادة الليل نصيبا- وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

اللهم اجعل سرائرنا خيرا من ظواهرنا، وارزقنا مراقبتك بالغيب والشهادة.


تم تحميل المحتوى من موقع