أيها الإخوة المؤمنون: جرت العادة بالحديث الطيب للخطباء عن استقبال رمضان، وأكثر ما تأتي به هذه الخطب هو الحديث عن الاستعداد الإيماني والتعبدي لاستقبال رمضان، وهذا أمر لا بد منه. وقد كان لنا فيه خطب كغيرنا من الخطباء، وسوف أخصص هذه الخطبة للحديث عن استقبال رمضان فقهيا، وهذا نوع من الاستقبال الفقهي لهذا الشهر المبارك، يتناول المسائل الفقهية المتعلقة بقدوم الشهر نفسه ودخوله.
الخطبة لأولى:
أيها الإخوة المؤمنون: جرت العادة بالحديث الطيب للخطباء عن استقبال رمضان، وأكثر ما تأتي به هذه الخطب هو الحديث عن الاستعداد الإيماني والتعبدي لاستقبال رمضان، وهذا أمر لا بد منه.
وقد كان لنا فيه خطب كغيرنا من الخطباء، وسوف أخصص هذه الخطبة للحديث عن استقبال رمضان فقهيا، وهذا نوع من الاستقبال الفقهي لهذا الشهر المبارك، يتناول المسائل الفقهية المتعلقة بقدوم الشهر نفسه ودخوله.
وهو حديث يتكامل مع الاستقبال الإيماني والتعبدي، وهو مفيد ونافع، وفيه تنظيم في التعامل مع قدوم شهر رمضان، وتعظيم لشأنه، وتقنين لحركته، وبيان لموقف المسلم من مقدمِه، وفيه الوقوف على الهدي النبوي الفقهي في قدوم شهر رمضان، وحسن التعامل معه، والبصيرة في الدخول فيه.
أيها الإخوة المؤمنون: ولا بأس بأن تكون بعض الخطب متخصصة بالجانب الفقهي وليس الوعظي، ولا بأس كذلك أن تكون لغة الخطبة وموضوعها قد طغى عليه الجانب الفقهي، فإن ذلك من الدين والدعوة والعلم، ومن تحقيق العبادة على بصيرة، ومن تعميم النفع والهدي المتعلق بشهر رمضان.
أيها الإخوة: عند النظر في الهدي النبوي الفقهي المتعلق في التعامل مع قدوم شهر رمضان، نجد بأن هذا الهدي النبوي الفقهي قد تمثل في الاستقبال الفقهي لشهر رمضان في أربعة مواقف فقهية، تعالوا بنا نقف عليها، ونعرضها بلغة علمية، سهلة واضحة.
أيها المؤمنون: يتمثل الموقف الأول في الاستقبال الشرعي لقدوم شهر رمضان الذي جاء في الهدي النبوي الفقهي؛ وذلك بأن لا نستقبل شهر رمضان بصوم يوم أو يومين قبل دخوله، فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْماً، فَلْيَصُمْهُ".
ومعنى قوله: "لا تقدموا" أي: لا تسبقوا.
أيها الإخوة: في هذا الحديث دليل على النهي عن استقبال رمضان بالصيام قبل ثبوت دخول رمضان، وذلك بأن يصوم المسلم يوماً أو يومين من باب الاحتياط لرمضان، أو من باب التطوع.
وهذا النهي المذكور في الحديث محمول على التحريم على القول الراجح.
ولكن يستثنى من ذلك من كان له عادة بصوم يوم معين؛ كالاثنين أو الخميس، فيصادف ذلك قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس، لزوال المحذور.
ويستثنى من النهي كذلك من يصوم واجباً؛ كنذر، أو كفارة، أو قضاء رمضان الماضي، فكل ذلك جائز؛ لأنه ليس من الاحتياط في استقبال رمضان.
أيها الإخوة: وقد ذكر العلماء شيئا من حكمة هذا النهي؛ من ذلك: تمييز فرائض العبادات عن نوافلها، والاستعداد لرمضان برغبة ونشاط، وإغلاق الباب أمام الزيادة في عدد أيام الصوم؛ لأنه إذا فتح باب النوافل والاحتياط قبل رمضان بيوم أو يومين، واستمر الناس على ذلك؛ فربما يظن الناس بعد زمن طويل أن اليوم واليومين من رمضان، فيزيدون فيه، وقد حدث في الأمم الماضية أنهم صاموا اليوم واليومين المنهي عنهما هنا، وقالوا: نصوم يوماً قبله احتياطاً له، ونصوم يوماً بعده احتياطاً له، فطال عليهم الزمن فدخل الصوم الاحتياطي في الأصلي مع تعاقب الأجيال ونسيان الأصل.
ومن هنا كانت حكمة التشريع بمنع الصوم قبل رمضان وبعد رمضان مباشرة ليسلم الشهر للأمة.
وهذا ما كان -ولله الحمد-.
وهذا من بركات الاستقبال الفقهي لقدوم شهر رمضان.
أيها المؤمنون الصائمون: يتمثل الموقف الثاني في الاستقبال الشرعي لقدوم شهر رمضان الذي جاء في الهدي النبوي الفقهي؛ وذلك بأن لا نستقبل شهر رمضان بصوم يوم الشك؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-".
أيها الإخوة: هذا الحديث من الهدي النبوي الفقهي في استقبال رمضان، فهو يدل دلالة واضحة على حرمة استقبال دخول شهر رمضان بصيام يوم الشك؛ لأن صيامه معصية للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
والمراد بيوم الشك: يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، أو غيرهما.
فمعلوم أن الشهر القمري قد يكون تسعة وعشرين يوما وقد يكون ثلاثين يوما.
وكلاهما شهر كامل شرعا.
وعليه قد يقع نوع من الشك في اليوم الثلاثين من كل شهر.
هل يتبع الشهر الحالي أم الشهر الجديد؟
أيها الإخوة: يقول العلماء: إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما رمضان بالرؤية،
وإما شعبان لعدم الرؤية.
ولكن إذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم يحجب السماء، فيمكن أن يظهر الهلال ولكن يحجبه السحاب، ويمكن أن لا يظهر، فالاحتمالان متعادلان، فهنا يكون الشك، فإن رئي زال الشك، وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل؟ هل نصوم هذا اليوم أو نترك الصوم؟
إن صمنا هذا اليوم نكون قد صمنا يوم الشك، ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-.
ومن حكمة ذلك، حتى لا يدخل في رمضان ما ليس منه.
ولذلك-أيها الإخوة-: الواجب الشرعي في هذه الحال أن نفطر يوم الشك، ونكمل عدة شعبان ثلاثين حتى ندخل شهر رمضان بيقين.
وهذا ما جاء به الهدي النبوي الفقهي في استقبال دخول شهر رمضان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ".
وَلِلْبُخَارِيِّ: "فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ".
وَلَهُ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ".
وقوله: "فإن غُمَّ" أي: سُتِرَ الهلال وغُطي بغيم أو قَتَرٍ ونحو ذلك.
قوله: "فاقدروا له" بضم الدال أو كسرها، أي: أبلغوه قدره؛ وهو تمام ثلاثين يوماً.
أيها المؤمنون: يتمثل الموقف الثالث في الاستقبال الشرعي لقدوم شهر رمضان الذي جاء في الهدي النبوي الفقهي؛ وذلك بأن نعلق دخول شهر رمضان على رؤية الهلال، فقد جاء في الحديث المتفق عليه: عَنِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
وقوله: "إذا رأيتموه" أي: الهلال، والمراد: إذا رآه من تثبت به الرؤية.
أيها الإخوة: هذا الحديث من الاستقبال الفقهي لقدوم شهر رمضان الذي جاء به الهدي النبوي.
وفي الحديث: دليل على وجوب صيام رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله، وعلى وجوب الفطر إذا ثبتت رؤية هلال شوال، وأن حكم الصوم والفطر معلَّق بالرؤية ولو كانت بواسطة المراصد والآلات التي تكبر المرئيات؛ لأن ذلك رؤية بالعين المشاهدة.
ويقول العلماء أيضا: إن الحديث دليل على أنه لا عبرة بالحساب في إثبات دخول الشهر وخروجه.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره إجماع الصحابة على ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّق الحكم بالرؤية لا بالحساب.
أيها الإخوة: ومن فقه الحديث أنه قال: "إذا رأيتموه" ولم يقل: إذا رأيته.
فالخطاب هنا للجمع، فهل يتعين على كل واحد أن يراه ليصوم؟ بعض الناس ضعيف النظر، سيصوم على رؤية غيره، وعليه قوله: "إذا رأيتموه" أي: في مجموعكم، بمعنى: لو رآه واحد منكم فكأنكم جميعاً رأيتموه- فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا.
أيها المؤمنون: وعادة ما يتناقش المسلمون في مسألة اختلاف البلدان الإسلامية وتوحدها في بداية صوم رمضان، وكذلك في نهايته.
ونحن علينا أن نتفقه في تلك المسألة، وننظر في كلام علماء الأمة، ونأخذ به لنكون على بصيرة في صيامنا، واستقبالنا الفقهي لشر رمضان.
يقول العلماء: قوله في الحديث: "صوموا لرؤيته" هل هو خطاب لأهل المدينة في ذلك الوقت أو خطاب للأمة كلها؟
من قال: هو خطاب لمن كان موجوداً في ذلك الوقت، قال: خاص بهم.
ومن قال: هو عام للأمة كلها، قال: إذا رئي في بلد وجب على جميع بلاد العالم الإسلامي أن يصوم. ولكن وجدنا الأخبار والعمل على اعتبار كل قطر لمطلعه، كما في قضية ابن عباس -رضي الله تعالى- عنهما مع كريب، فـ كريب أرسلته بعض أمهات المؤمنين إلى معاوية -رضي الله تعالى عنه- وهو خليفة بالشام، فأدركه رمضان بالشام، ورءوا الهلال ليلة الجمعة، وأصبحوا صائمين يوم الجمعة، ثم جاء كريب إلى المدينة وهم في رمضان، فتحادث هو و ابن عباس عن أهل الشام، وعن معاوية وعن رمضان، فقال كريب: "أما رمضان فقد رأينا الهلال ليلة الجمعة" قال: "أنت رأيته؟" قال: "نعم، رأيته وصمنا وصام معاوية وأمر بالصوم".
فقال ابن عباس: "أما نحن- وكان في المدينة- فلم نره إلا ليلة السبت" فقال: "ألا تكتفي برؤية معاوية وصومه؟" قال: "لا، بهذا أمرنا رسول الله".
فقوله: "صوموا" خطاب لكل قطر على حده بقي الخلاف والنزاع في تباعد الأقطار وتقاربها.
أيها الإخوة المؤمنون: وأنقل لكم كلام مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في هذه المسألة حيث أصدر فيها قرارا مضمونه ما يلي:
أولا: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلا، ولم يختلف فيها أحد من العلماء وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
ثانيا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة: 189].
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث.
وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به.
ونظرا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها ونظرا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنا، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته.[انتهى كلام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء].
أيها المؤمنون الصائمون: يتمثل الموقف الرابع في الاستقبال الشرعي لقدوم شهر رمضان الذي جاء في الهدي النبوي الفقهي؛ وذلك بأن نكتفي بقبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان؛ ففي الحديث الصحيح عَنِ ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلاَلُ: أَنْ يَصُومُوا غَداً".
أيها الإخوة: هذا الحديث من الاستقبال الفقهي على بصيرة لدخول شهر رمضان، وهو من الهدي الفقهي النبوي في التعامل مع شهر رمضان.
وفي الحديث دليل على أنه يكتفى بشخص واحد يخبر برؤية هلال رمضان، سواء أكان ذكراً أم أنثى، بشرط أن يكون مسلماً.
وأما الخروج من الصيام، فلا يقبل فيه إلا شهادة اثنين عدلين في قول الجمهور.
وفي الحديث: دليل على استحباب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من الشهر، لقوله: "تراءى الناس الهلال" ولا سيما من رزقهم الله -تعالى- حدة في البصر، وهو يدل على أن ذلك هدي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن فيه مصلحة عظيمة للمسلمين لما يترتب على رؤيته من الأحكام.
وفي الحديث كذلك: دليل على أن من رأى الهلال فإنه يخبر برؤيته الإمام أو من ينيبه الإمام في هذا الشأن لإعلانه للناس.
أيها الإخوة المؤمنون: هذه هو ديننا، وهذا هو هدي نبينا -صلى الله عليه وسلم-، هدي فيه الكمال، وفيه البصيرة، فاستقبالنا لشهر رمضان يتكامل فيه الاستقبال الإيماني والتعبّدي مع الاستقبال الفقهي الشرعي.
وكلّ ذلك على هدى من الله وبصيرة وعلم، ليسير المسلم في طريق التعبد الرمضاني مطمئن النفس، مبصراً لحدود الشهر ومداخله ومخارجه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي