شهر الغوث

عبد العزيز بن عبد الله السويدان
عناصر الخطبة
  1. أهمية رمضان وبعض فضائله .
  2. قصة توبة شاب في رمضان مؤثرة .
  3. خطر الإصرار على المعاصي .
  4. فضل المبادرة بالتوبة .
  5. بعض خصائص رمضان .

اقتباس

هذا نداء عاجل -أيها المسلم العاصي أيها الغافل- إذا كنت أنت في هذا الموسم الكريم لا تزال في غيك فماذا تتوب؟ ومتى من الذنوب تتوب؟ والله الرحمن الرحيم الذي لا تخفى عليه خافية، يطلع عليك، ويحلم عليكم، وينظرك لعلك تنيب إليه، لعلك تقبل عليه، لعلك تبصر الخطر الذي أنت فيه وأنت معرض عنه. حتى في هذه الأيام المباركات في هذا الموسم العظيم الذي...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

رمضان شهر الغوث، هو غوث التائبين، وغوث المجاهدين، وغوث المحسنين، وغوث العابدين، كل صنف من هؤلاء ينتظره على أحر من الجمر، فهو غوثهم بعد طول انتظار، وهو أنسهم بعد طول وحشة، وهو مستراحهم بعد طول عناء ومشقة؛ إنه شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].

أشرق بوجهك فيه النور والأمل*** وفيك يا رمضان الحسن مكتمل

وفي لياليك للعباد متسع ***حيث النفوس من الأوطان تنتقل

وفي النار بذكر الله ما عمرت ***به القلوب وفضل الله متصل

عباد الله: إن شهر الله المبارك في أول مهده، وفي بداية إطلاله، فكيف يتعامل معه من عزه، غوث المغيث؟

أما التائبون، فإنهم يدركون أنه شهر المغفرة، وأنه لو كان من شهر يعينهم على التوبة والثبات عليها، فإنه هذا الشهر أكثر من غيره.

وماذا بعد وقد بلغهم الله شهره الكريم، أي وقت أفضل من هذا الوقت إن أكثر التائبين كان شهر رمضان هو شهر انطلاق الخير في نفوسهم، وشهر انكسار قلوبهم تحت وطأة الخشية والندم.

وما أحلى قصص التائبين وذكرياتهم مع رمضان الحبيب؛ يقول: ابتُليت في سنوات مراهقتي بأصحاب سوء، عرّفوني على الخمرة.

ورغم معرفتي المسبَقة بحرمتها إلاّ أنني أدمتها، حتى أصبحتْ قيداً لا أستطيع الفِكاك منه.

وتزوجت ورُزقت بالأولاد، وأصبحت جَدّاً، ومع ذلك لم أستطع الإقلاع عن هذه العادة المحرّمة التي أتلفت أعصابي ومالي.

بل أكثر من ذلك "وضعتْ رأسي بالتراب" أمام زوجتي وأولادي، وأحفادي ومعارفي كلّهم.

فلم أكن موسراً، وإزاء حاجتي الشديدة لشرب الخمرة، لم أتورع عن بيع مَصاغ زوجتي وحرمانها من مصروف البيت، والتسوّل من أولادي من أجل الحصول على قنينة خمر.

وعندما أصبحتُ لفترة عاطلاً عن العمل اسودّت الدنيا في وجهي ليس لأنني لن أستطيع الإنفاق على عائلتي، بل لأنني لن أقدر على إشباع حاجتي المستمرة إلى الخمر.

حتى وصل بيّ الأمر إلى السرقة من بيوت معارفي وأصدقائي.

وكانت الطامّة الكبرى عندما ضبطني أحد أنسبائي بالجُرم المشهود، يومها تمنيتُ لو: "تنشقّ الأرض وتبتلعني" خجلاً منه.

حتى أنني توسلتُ إليه وركعتُ عند قدميْه رجاء أنْ لا يفضحني.

ولقد تركتْ هذه الحادثة أثرها في نفسي، فكيف أخجل منه ومن الناس ولا أخجل من ربّ العالمين؟!

من يومها بدأ صراعي العنيف مع الشيطان، ومع نفسي، إلاّ أنني كنتُ أفشل في كلّ مرّة.

إلى أنْ أتى شهر رمضان المبارك الذي كان من أغرب الشهور في حياتي.

أذكر أنني اغتسلتُ ، وقلت لزوجتي: إن شاء الله -تعالى- سأصوم غداً.

لم تقل زوجتي شيئاً إلاّ أنّ دهشة عظيمة تملّكتها، لا سيّما أنّها تعرف أنني لم أصُم يوماً واحداً في حياتي لشدّة تعلُّقي بالخمرة.

أذكر أيضاً أنني في اليوم الأوّل من هذا الشهر المبارك ذهبتُ إلى المسجد لأداء صلاة العشاء جماعة، ومن بعدها صلاة التراويح.

وقد كان في نفسي بالإضافة إلى الخوف شوق كبير إلى الله -تعالى-.

فما إن سمعت آيات كتابه، حتى أحسَسْتُ أنّها موجَّهة إليَّ، وعندها عرفتُ معنى العبودية لله -تعالى-، شعرتُ كم أنا ضعيفٌ أمامه، وبدأت أدعوه في الركوع والسجود أنْ يتوب عليَّ من هذه العادة التي أوردتني المهالك، وأرجوه أن يغفر ، وأنْ يُحسن عاقبتي.

وصرت أبكي بحرقة لدرجة أنّه كاد أنْ يُغمى عليَّ من شدّة التأثر.

وبالفعل عدتُ إلى البيت يرافقني إحساسٌ بأنني وُلدت من جديد بعد أن غسلني الله -تعالى- من الذنوب كما يُغْسل الثوب الأبيض من الدنس.

ولقد مضي على هذه التوبة اليوم أكثر من سبع سنوات، وأسأل الله -تعالى- الثبات.

هكذا هو رمضان، بارك الله فيه، وجعله مفتاحا للخير، مغلاقا للشر، وواحة يستجم بها التائبون.

يقول أحمد: بدأت رحلتي مع التدخين قبل عشرين سنة، حينما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة، ففي أيام الامتحانات كنت أجتمع مع زملائي في سطح منزلنا لمذاكرة الدروس، فانضم إلينا أحد أصدقاء السوء، ممن ابتلوا بالتدخين، فجرنا معه إلى شرب الدخان، وهو يقول: التدخين يساعد على التركيز يا شباب، يساعد على الفهم، وهو جرب ذلك، وقال: لماذا لا تجربون؟!

يقول أحمد: بداية شعرت أن رأسي أصبح أثقل من جسدي، وأن الأشياء حولي تدور، وبدأ الفطور يدب في جسدي، فاشتكيت إلى ذلك الصديق، فقال: طبيعي، هذه أول سيجارة، اشرب الثانية وسيذهب عنك الفتور، فأطعته وشربت الثانية والثالثة والرابعة، ثم اشتريت أول علبة دخان، وأصبحت أخصص كل ريال لأشتري علبة أخرى.

حتى أصبحت أدخن أربعة علب يوميا، وأنا صغير في السن 80سيجارة، وأصبح الجمر في فمي من الصباح حتى أنام.

وظهرت فيَّ سمات المدخنين؛ كحة مستمرة، لا ينفع معها العلاج، وشفتان سوداوان، وعينان حمراوان، ووجه عبوس.

وأما المكان الذي لا أستطيع فيه أن أدخن فيه أتضايق فيه، ولو كان فيه أعز الناس، وسرعان ما أغادر، كي ادخن من جديد.

وباءت محاولاتي لترك التدخين بالفشل؛ لأنها لم تكن لله، ولم أستعن على تركها بالله -جل وعلا-، وكنت لا أصلي مع الجماعة إلا قليلا من شدة رائحة الدخان في ثوبي وفي فمي.

وفي رمضان! يكون الفطور على التبغ قبل التمر أحيانا -مع الأسف-، وأشرب الشاي والماء بكثرة ولهفة، خطوات طويلة، وريق ناشف، وكحة مزعجة، حالة يرثى لها.

حتى بلغ اليأس والقنوت مبلغهما، وأصبحت أتخيل أنني سأموت، وفي يدي سيجارة.

وجاء اللحظة الحاسمة في رمضان الموعود، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].

في إحدى الليالي المباركة من العشر الأخيرة من رمضان عام 1412هـ كنت أصلي القيام أنا وأخي الذي يدخن مثلي في أحد مساجد حي الناصيرية بالرياض، وبعد التسليمة الثانية عادة يستريح القائمون قليلا لشرب الماء، أو التمدد قبل مواصلة القيام.

يقول: فسولت لي نفسي أن أخرج من المسجد لأشرب سيجارة واحدة، ثم أعود لمواصلة الصلاة.

ولما أخبرت أخي، قال لي: ما رأيك يا أحمد بدلا من الذهاب إلى شرب سيجارة أن ندعو الله أن يعيننا على ترك التدخين طمعا في رحمته وخوفا من عقابه؟!.

ولعلها كانت ساعة رقة في القلب، شعر بها أخي، وقال لي: خلينا نجتهد في الدعاء، حتى نهاية القيام، ونسأل ربنا أن لا يردنا خائبين هذه الليلة، وأنا يكرمنا بالهداية.

فوقعت كلماته من نفسي موقع راحة وأمل، وواصلنا القيام بخشوع ودعاء طويل في السجود، وبعد نهاية الصلاة أخرجت أنا وأخي ما تبقى من سجائر من جيوبنا وحطمناها أمام المسجد، وتعاهدنا أن لا نعود إلى التدخين من تلك الليلة المباركة من ليالي رمضان.

وتحقق لنا ذلك بفضل من الله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

هذا هو رمضان، وهذه هي طبيعته، وهذا هو أثره على عباد الله المنيبين.

وكلا منا -أيها الإخوة-: له من الأخطاء ما يعرفه من نفسه، وله من الإصرار ما على بعض المعاصي ما ينبغي مراجعته واستدراكه.

فهلم -أخي- هلم.. هلم إلى سعادتك وفلاحك، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "رغم أنف من أدركه رمضان فلم يغفر له".

فرصة قد لا تتكرر أبدا، ولا تعود إلا نادرا، فهل من مجتهد حريص؟

هذا نداء عاجل -أيها المسلم العاصي أيها الغافل- إذا كنت أنت في هذا الموسم الكريم لا تزال في غيك فماذا تتوب؟ ومتى من الذنوب تتوب؟

والله الرحمن الرحيم الذي لا تخفى عليه خافية، يطلع عليك، ويحلم عليكم، وينظرك لعلك تنيب إليه، لعلك تقبل عليه، لعلك تبصر الخطر الذي أنت فيه وأنت معرض عنه.

حتى في هذه الأيام المباركات في هذا الموسم العظيم الذي هيأه لك ربك الكريم، فتح لك به أبواب جنانه، وغلق عنك أبواب نيرانه، وصدف عنك الشياطين ومردة الجن، كل ذلك من أجل من؟ كل ذلك من أجلك أنت، من أجلك أنت لا غيرك؟.

نعم من أجلك كي ترجع إليه تائبا نادما، فإذا أقبلت عليه أقبل عليك سبحانه، واستقبل توبتك بواسع رحمته، مهما عظمت ذنوبك، ومهما تنوعت، ولو بلغت عنان السماء؛ إن هذا الشهر العظيم شهر غوث التائبين.

جاء في الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كانت أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة ".

بادر بالتوبة -أخي-: والإنابة والرجوع إلى رب كريم، في شهر كريم، فإنك لا تدري متى تحين ساعتك.

أسأل الله -تعالى- أن يهدينا سواء السبيل، وأن يعفو عن خطايا الزلل، وأن يختم لنا بخير؛ إنه سميع قريب.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أما بعد:

فإنما التوبة بحسب الذنب، وصاحب الذنب، فلرب الأسرة الذي ضيع أهله: التوبة، وللأم المفرطة: توبة، وللشاب: توبة، وللفتاة: توبة، وللتاجر: توبة، للفنان: توبة، وللعامل الأجير: توبة.

والمؤمن -أيها الإخوة-: ما دام قلبه حي، فلا بد أن يفكر في التوبة، التوبة التي تناسب ذنوبه التي يعرفها.

فهذا يراوده ترك الربا.

وذاك يفكر في المحافظة على الصلاة التي ضيعها في غير رمضان.

والآخر يفكر في ترك الغناء.

وهذه تتمنى ارتداء الحجاب.

وذاك يتضجر على عدم غض بصره عن الحرام، وما زال يسوف بالتوبة!.

وذلك قلق من أكل المال الحرام بالرشوة، أو الخداع، أو الغش.

وأولئك أثرت فيهم مسلسلات تافهة خليعة، يريدون الفكاك من أثرها.

الحاصل: أن لكل إنسان توبة معلقة بذنوبه، تنتظر الفرج، التوبة تنتظر الفرج إن لم يكن في رمضان؛ فمتى؟!.

إن رمضان هو أول شهر تنتصر به التوبة على الذنب، وعلى الخطر.

وهو أولى شهر من الله فيه على التائب بالبلاغ، فلم يمته كباقي الأموات الذين ماتوا خلال عام مضى، بل بلغه رمضان، ومن عليه بذلك.

وهو أول شهر تضاعف فيه الأجور، فتوبة في رمضان خير من ألف توبة في غيره.

فخر الدين بن النجار كان رجل صالحا عابدا زاهدا ورعا، اشتغل في طاعة الله والرحلة في طلب العلم طوال حياته، حتى أسن وضعف عن الحركة، فسار يصعب عليه الخروج من المسجد لكبر سنه، وسار إذا أوصل المسجد بعد مشقة ظل قاعدا، فكان يزدري عمله طوال تلك السنين في ذات ربه، ويستحي منه فيناجيه، قائلا:

إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا *** وعجزي عن سعي إلى الجمعات

وتركي صلاة الفرض في كل مسجد *** تجمع فيه الناس للصلوات

فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني *** من النار واصفح لي عن الهفوات

قلوب رقيقة -أيها الإخوة-: بالرغم من أنه عمل عملا صالحا لله -تعالى- طوال حياته، القلوب التي إذا جاء رمضان راجعت ونقبت وندمت، وعزمت على التوبة الخالصة.

أسأل الله أن يأخذ بنواصينا إليه.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي