إن النفس إذا استرسلت في دروب غيها، ونزلت عن درجة التوسط في تعاملها، فنزلت إلى درك الغريزة والمتعة تصبح في وحشة مع الروح، وإن العقل مهما تجرد وأبحر، مهما تحدث في درب الثقافة والفن والفكر ما لم يتصل بالروح فإن النفس تعيش وحشة؛ لذا تظل النفس تسبح وتبحث إلى أن تلتقي الأرض بالسماء، إلى أن تلتقي في نقطة ووعد معين، ألا وهو شهر رمضان، الروحانية والعودة والتقاء الأرض بالسماء.
الحمد لله المحمود بالأسماء والصفات الممدوح بكل اللغات على مجموع الحالات، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح للأمة وجاهد لله حق الجهاد، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أحد عشر شهرًا، والنفس تجري لمستقر لها، أحد عشر شهرًا والوحشة قد أصابت من النفس ما أصابت..
يا إخوتاه! إن النفس إذا استرسلت في دروب غيها، ونزلت عن درجة التوسط في تعاملها فنزلت إلى درك الغريزة والمتعة تصبح في وحشة مع الروح، إن العقل مهما تجرد وأبحر، مهما تحدث في درب الثقافة والفن والفكر ما لم يتصل بالروح فإن النفس تعيش وحشة؛ لذا تظل النفس تسبح وتبحث إلى أن تلتقي الأرض بالسماء، إلى أن تلتقي في نقطة ووعد معين ألا وهو شهر رمضان، الروحانية والعودة والتقاء الأرض بالسماء.
رمضان يا شهر العبادة والتقى *** وزمان كل فضيلة وتسامي
أهلاً وسهلاً شهر صومٍ فاضل *** قد خصه الرحمن بالإعظام
أشرق بنورك فامح كل دجنة *** واجعل ورائي كالضحى وأمامي
وعن اليمين بكل يمنٍ حُفَّني *** وعن الشمال فشدني لمرامي
تظل النفس تبحث عن هذه النقطة حتى يأتي الأجل الموعود (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] حتى يأتي الوقت الذي أراده الله عز وجل "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته".
ليس كل الناس يُعطَى هذه المزية، ليس كل الناس ينال هذه الفضيلة، فمن الناس من يخلف الموعد لا بملكه، ولكن تخطفته سهام المنون، ومن الناس من يوافيه، ولكنه عاجز مقعد مريض أو على سفر، أما السعيد فهو الذي يوافيه بكامل قوته ووافر عافيته ليعيش أجوائه وليستمتع بفيوضات المولى سبحانه وتعالى فيه.
اسمع -رعاك الله- حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، طلحة بن عبيد الله يحدّث عن رجلين من قبيلة واحدة أسلما جميعًا كان أحدهما أشد في العبادة من صاحبه، جاهد هذا الأشد المجتهد الذي لم يكن يترك ساعات الليل والنهار دون أن يضيع فيها عبادة أو طاعة أو قُربة، ركب سبيل الجهاد في سبيل الله، فأدركته سهام المنايا، وقُتل شهيدًا في سبيل الله تعالى، وعُمِّر أخوه الذي أسلم هو وإياه في سنة واحدة عُمّر بعده سنة كاملة.
حدث ربما مر كآحاد الأحداث التي تمر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم أجمعين، لكن طلحة حين آوى إلى فراشه رأى في المنام أن سوق القيامة قد قامت، وأن داعيًا من وراء باب الجنة قد دعا الرجل الذي مات آخرًا ليدخل الجنة قبل الرجل الذي مات قبله بسنة، مع أنه كان أجلّ في العبادة، ومع أنه مات في سبيل الله شهيدًا إلا أن المتأخر دُعي إلى الجنة سابقًا على المتقدم.
استيقظ طلحة يحدّث الناس بما رأى، دارَ العجب والدهشة في وجوه الناس، انتهت الحادثة إلى سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "ومما تعجبون؟ أليس قد مكث هذا بعده سنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فما بينهما كما بين السماء والأرض".
إن فرصة الإدراك نعمة، وأي نعمة ومنة، وأيّ منة لا يعقلها على وجه الخليقة، ولا يقدّر قدرها على قدر التحقيق إلا مَن سمع حديث طلحة.
أيها الإخوة: بين يدي رمضان ما أحوجنا إلى إعادة تعريف هذا الشهر، وأقول: ما أحوجنا إلى إعادة تعريف هذا الشهر بعد أن استلب هذا المصطلح كثيرًا من الدواخل عليه، جردوا رمضان ليبقى رمضان غضًّا طريًّا كما أراده الله سبحانه وتعالى ليبقى رمضان كما عاشه محمد وأبو هريرة وطلحة والزبير وسعد وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سياحةً للروح، نقطة التقاء بين السماء والأرض، معراجًا للأعمال والفرصة الكبرى السانحة لحلول رضوان الله تعالى وإعتاق هذه الرقاب من النار.
تحرير هذا المصطلح من كثير من الدواخل عليه حين تلبس رمضانَ كثيرٌ من الصوارف التي صرفته عن حقيقته، وعن نكهته وطعمه وأبهته، حين عملت الدراما في رمضان فأثارت شهوات الناس بدلاً من أن تحرّك روحانيتهم، حين تنازع رمضان مسميات الطعام وألوان وصنوف الشراب ليبقى شهر إثارة وبرامج حمالة للحطب في جيدها حبل من مسد.
حدّثونا عن راحة القيد فيهِ *** حدثونا عن نعمة الحرمانِ
هو للناس قاهر دون قهرٍ *** وهو سلطانهم بلا سلطانِ
قال جوعوا نهاركم فأطاعوا *** خُشعًا، يلهجون بالشكرانِ
إن أيامك الثلاثين تمضي *** كلذيذ الأحلام للوسنانِ
كلما سرني قدومك أشجاني *** نذير الفراق والهجرانِ
وستأتي بعد النوى ثم تأتي *** يا ترى هل لنا لقاء ثانِ؟
من إعادة تعريف رمضان أنه فرصة لطرق الأبواب، وأعني على وجه التحديد أبواب الجنة الثمانية، بل على وجه الخصوص طرق باب "الريان".
وحقيق أن يحظى بحاجته مدمنُ القرع للأبواب..
أبواب الجنة إذا جاء رمضان تفتح، وأبواب النار تغلق، وداعي الرحمان يدعو ملء الأسماع وملء الأبصار لو كانوا يبصرون أو كانوا يسمعون "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل شهر رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النيران وصُفدت الشياطين" رواه البخاري ومسلم.
بالطهر شهر الصوم أقبل مشرقا *** مسترفِه الخطوات يرفِلُ معـنقا
رمضان محراب العبادة للـــورى *** تعلو به الأرواح أطهر مرتقـى
فيه التراويح المضيئة مسبـحٌ *** للقلب للإيمان يعـمر مرفقـا
ساعاته عمر الزمـان مليئـة *** بالذكر حيث العمر عـاد محلّقا
عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة، وأشار بيده صلى الله عليه وسلم".
وعن أبي سعيد الخدري أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه قال: "إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة".
إننا نريد أن نعود لرمضان بهذا الطعم وبهذه النكهة، بهذه المعارف وبهذه الثقافة بعيدًا عن الشاشة، ما ضرنا لو ابتعدنا في رمضان عن الشاشة! ما ضرنا لو عزفنا في رمضان عن كل شيء إلا عن مثلث لا نخرج منه؛ مثلث: الصيام والصلاة والصدقة، أو مربع: الصيام والصلاة والقرآن والبر والصدقة، ذلك رمضان لو كانوا يعلمون.
من إعادة تعريف رمضان سؤال ينبغي أن يبقى ماثلاً في الذهن؛ لأن هذا السؤال محرّك للهمة معطل للتسويف، السؤال: هل سيكون لنا لقاء آخر برمضان؟! هل رمضان الذي سنوافيه إن وافيناه هو المحطة الأخيرة أم أنه سيعقبه عشر رمضانات أو عشرين؟!
هذا السؤال هو الكفيل للخروج عن دائرة التسويف، عن دائرة الإمهال، دائرة التسويف والمماطلة التي قعدت بالبعض عن العمل حتى إذا وافاهم الأجل قال قائلهم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون: 99]، قال قائلهم : (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 21].
ما مضى فات والمؤمل غيب *** ولك الساعة التي أنت فيها
إن اعتبار رمضان هو الفرصة الأخيرة داعية للجد والعمل؛ حتى تعمر ساعات الليل والنهار بالذكر والصلاة والبر والأذى، وكف الأذى، وإطعام المساكين، أمر بالمعروف نهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق.. إلى غير ذلك من صنوف الأعمال وصنوف الطاعات مما يحبه الله ويرضاه.
من إعادة تعريف رمضان أن الشعار الذي ينبغي أن يكون عليه الصائم هو شعار: "إني صائم" إذا سابّه أحد أو شاتمه فليقل: "إني صائم".
إنه اعتراف بالعبودية والذل بين يدي المولى سبحانه وتعالى، إنه إقرار بأن العبد على مرام الله سبحانه وتعالى وعلى مراده وفي أعلى عليين منادين، ربما سمعنا أصواتهم بسمع البصيرة كما أننا نرى معاني المعاني بعين البصيرة ربما سمعنا أصواتهم ينادون بكرة وعشية: "يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر".
رمضان إعلان بتقديم قرابين التضحية، قرابين الطاعة للمولى سبحانه وتعالى، إنه صيام عن حلائل الشهوات عن الطعام والشراب نهارًا وعن حلائل الزوجات نهارًا، إنه إعلان فقط بأننا نقول للمولى سبحانه وتعالى: يا رب حقك إذا أمرت أن تُطاع، وإذا دعوت أن تُجاب، وما العبد إلا عبد الطاعة حين يقول لبيك وسعديك: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
ليوافي ذلك الجزاء الأوفى منه سبحانه وتعالى حين يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
إنه "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، يا لله ما أجلّها من كلمة هي من المولى سبحانه وتعالى نيشان على صدور الصائمين، وهي من المولى سبحانه وتعالى تزكية للطائعين، إنه تصوير لمشهد العبودية حين تتجافى الجنوب عن المضاجع ليلاً، وتمسك البطون عن الشهوات نهارًا، إنه إعراض عن حلائل الشهوات طوعًا واختيارًا للوصول إلى ذروة سنام: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) [النازعات:40].
وإذا وصلنا بعد إلى الجنة، فيا لله ما أحلى الولوج من باب الريان حين تكون الفرحة الكبرى!!
للصائم أيها الإخوة فرحتان؛ فرحة يومية يلامسها حين يفطر، وبتكرار هذه الفرحة اليومية يتذكر فرحة مدخرة ليست كهذه الفرحة أبداً، وإنما هذه الفرحة تمهيد ومقدمة للتعريف بشيء من تلك الفرحة الكبرى.
للصائم فرحتان يفرحهما أولاهما عاجلة عند فطره، والأخرى آجلة (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا) [الصف: 13] عند لقاء ربه سبحانه وتعالى، فلا تسل عن صنوف اللذات، ما أجمل لقاء الله حين يكون العبد مشتاقًا إلى لقاء الله فيقابل الله الاشتياق باشتياق والحب بالحب والود بالود (جَزَاء وِفَاقًا) حاشا بل (جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا) [النبأ: 36].
رزقني الله وإياكم الفرحة الكبرى ..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يا طوبى للمستغفرين.
الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
حرروا رمضان من قيوده التي لا شك أنها على حساب روحانيته، لنعد إلى رمضان الطاعة والسكون، رمضان الصلاة والذكر، رمضان حبس الأنفس في المساجد، رمضان الكفّ عن إيذاء المسلمين، رمضان الذي لا لغو فيه ولا زور ولا كذب ولا جارحة ولا جانحة، ليبقى غضًّا رمضان كما أراده الله سبحانه وتعالى.
يعود رمضان علينا ونحن لا تزال جراحاتنا تنزف هنا وهناك، يعود رمضان علينا وإخوة لنا في الشام يهتفون يا الله ما لنا غيرك يا الله، يعود رمضان وهم تحت عزف الرصاص ووقع المدافع، مدفعنا الذي نطلقه إبان دخول رمضان مدفع صوتي اختياري، لكن مدافع القوم مدافع قهرية تنال من أجسادهم وأعراضهم ومقدساتهم وأمنهم، تروّع صغارهم وتُميت كبارهم ألف ميتة وميتة في الليلة، مذبحة تلو مذبحة.
تحدثوا سلفًا عن مذبحة الحولة، ثم جاءت المذبحة الثانية، واليوم يعيش العالم المذبحة العاشرة والحادية عشرة على سمع العالم وبصره.
هل تظن الله غافلاً عما يفعل الظالمون!! حاشا، لكن لله حكمة بالغة، لعل الله أن يصطفي أمة ويختار للشهادة أمة، لعل الله تبارك وتعالى يريده درسًا قاسيًا للأمة تدفع من أنفسها ومن دمائها ومن مقدراتها ومن أموالها حتى تفيق من سباتها، لله حكمة بالغة.
لكن ما أعرفه واجبًا عليَّ وعليكم هو أن نعود بالدعاء، وأن نقرع أبواب السماء، ونعود بالتذكير بهذه الفرصة التي الدعاء في نهاراها مستجاب، وساعات لياليها مباركة؛ ليحظى العبد في ساعة السحر عندها بنزول المولى سبحانه وتعالى النزول المكلل بقوله "هل من داعٍ فأجيبه".
يا مجيب المضطرين .. يا مجيب المضطرين .. يا مجيب المضطرين ..
اللهم انصر إخواننا في الشام ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي