وفي أُحد يخرج المسلمون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحمل مصعب بن عمير اللواء أيضا ويدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفاع الأبطال ويتجه المشركون ناحية اللواء, فيقبل رجل منهم فيضرب مصعب في يده اليمنى فيقطع يده ومصعب يقرأ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144] ثم يأخذ اللواء بيده اليسرى فتقطع أيضا, فيحنو على اللواء ويضمه بعضديه ويضعه على صدره حتى استشهد...
الحمد لله الذي نور بصائر المؤمنين فوفقهم للأعمال الصالحات وثبتهم على الإيمان حتى الممات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقرٍ بربوبيته شاهدٍ بوحدانيته منقادٍ إليه لمحبته معترفٍ بنعمته مؤملٍ لعفوه ورحمته طامعٍ في مغفرته, فهو -سبحانه- أهل التقوى وأهل المغفرة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله للإيمان مناديا وللجنة داعيا وإلى صراطه المستقيم هاديا؛ فأنقذ الله به أقواما من الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والملة الحنيفية, وتربى على يديه أئمة دعوا إلى الله بالحكمة الحسنة فأحيى بهم الله القلوب وأنار بهم السبل، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد, وآله وارض اللهم عن أصحابه المهتدين واجمعنا بهم في جنات النعيم، أمين.
أما بعد:
فقد سعد -والله- من لزم تقوى الله وأفلح من تمسك بدينه ولم يغتر بمباهج الحياة، وفاز من عمل وأيقن أن هذه الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار.
أيها الأخوة في الله: كل أمة لها ميزان تزن به أفرادها, وميزان أمة الإسلام الذي يوزن به الرجال هو مقدار ما يحملونه من الدين والإيمان, والعفة والقرآن والتقوى واليقين والدعوة والجهاد، فمن كان أتقى كان بالمجد والهدى أجدر وأولى.
والإنسان الذي نور الله بصيرته إذا أبصر الحق والهدى؛ تعلق به وثبت عليه وجاهد من أجله وهجر له الأهل والأوطان وسائر متع الحياة الزائفة, وهذا ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم.
والآن دعونا لنقف على شيء مما يوقظ القلوب، إنها حياة ذلكم الشاب التقي مصعب بن عمير -رضي الله عنه وأرضاه-، رجل نور الله قلبه فأسلم طائعا وهاجر معلما وداعيا ومات شهيدا مجاهدا. إنه قدوة لكل شاب يعاني فتنة الإغراء بالشهوات، أو فتنة التشكيك والشرك والإلحاد، ليقف في صمود وإيمان ويقين وثبات.
مصعب بن عمير الشاب الذي حمل أعباء الدعوة إلى الله عقيدة وسلوكا وعذابا وجهادا, فحين لامس الإيمان شغاف قلبه انسلخ من الجاهلية وصار حنيفا مسلما موحدا.
مصعب بن عمير الذي كان في ذروة قريش حسبا ونسبا، لكنه لم يتكئ على حسبه ونسبه، نشأ بين أبوين كانا يحبانه حبا شديدا ويغدقان عليه صنوف النعم؛ حتى أنه كان يعرف في مكة بأنه أعطر أهل مكة, يلبس أحسن النعال وأفضل الثياب, ويأكل أفضل الطعام ومع ذلك لم تثنه هذه الرغبات عن هجرها والتمسك بالعروة الوثقى.
مصعب اشتهر في مكة بأنه الشاب الذي يمتلئ حيوية وجمالا، جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- رآه بعد إسلامه وعليه ثوب غليظ, فقال: "انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه, لقد رأيت عليه حلية شراها بمائة درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون". ويروى: " مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً، وَلا أَرَقَّ حُلَّةً، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ".
فلما أراد الله به خيرا استجاب لدعوة الحق في وقت كان المسلمون يعانون من أذى المشركين وتسلطهم, فدخل مصعب بن عمير إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم وأسلم بين يدي النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- فخرج وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه, فكان يتردد سرا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أسلم مصعب بن عمير -رضوان الله عليه- مع علمه أن طريق الدعوة في هذا الظرف وفي كل ظرف طريق شاق محفوف بالمكاره مملوء بالصعاب, ولكن بالصبر والإيمان واليقين ينال ما عند الله من الثواب والنصر المبين.
وهذا ما حصل لمصعب, فقد قاس الفقر والجوع بعد حالة الغنى والشبع وتعرض لمحنة الأهل والأقارب والعشيرة, الذين أرادوا صده عن دينه لولا تثبيت الله له, قال أهل السير: لما أسلم مصعب أصابه من الشدة ما غير لونه، وأذهب لحمه، وأنهك جسمه، ثم صب عليه العذاب، وقيد في الأصفاد بعد أن كان حرا سيدا، فأخذه أهله وقومه وحبسوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هاجر إلى الحبشة.
يقول سعد بن أبي وقاص وهو يصف شدة الأمر على مصعب الذي لم ينشأ إلا تحت الرعاية وحسن المطعم والملبس من أبويه, قال سعد عن المحنة التي أصابت المسلمين في مكة لما حصروا في شعب أبي طالب, قال: "فأما مصعب بن عمير فإنه كان أشرف غلام في مكة بين أبويه, فلما أصابه ما أصابنا لم يقوَ على ذلك, فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية, ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له عودا ثم نحمله على عواتقنا".
الله أكبر, هكذا يفضل مصعب -رضي الله عنه- حياة الفقر والشدة مع الإيمان على حياة الرفاهية ورغد العيش مع الكفر, وهو بهذا قدوة لكل مؤمن ولكل شاب يتعالى على متع الحياة وشهواتها التي تقطعه عن الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون: لما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- ما يلقاه المسلمون من الأذى أذن لهم بالهجرة من الحبشة, فهاجروا ومعهم مصعب بن عمير ثم سمعوا بعد أشهر بأن المشركين قد قطعوا الأذى وهادنوا المسلمين في مكة، فقدموا من أرض الحبشة، فلما اقتربوا من مكة تبين لهم أن الخبر غير صحيح، فعادوا مهاجرين مرة أخرى يفرون بدينهم عن الفتن، وبعد مدة من الزمن قدم مصعب إلى مكة ثم أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- معلما وداعيا إلى الله في المدينة النبوية وأسلم على يديه السيد الكبير أسيد بن حضير والسيد الكبير سعد بن معاذ سيد الأوس وكفى بذلك فخرا وأثرا في الإسلام لمصعب أن يسلم مثل هؤلاء على يديه.
لقد كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم صبرا وجلدا على حداثة سنه، ولقد كان في سيرته وخلقه وصدق إيمانه وحسن سلوكه مثال للداعية الصادق.
عن عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- قال: "كان مصعب بن عمير -رضي الله عنه- لي خِدنًا وصاحبًا منذ يوم أسلم إلى أن قُتل -رحمه الله- بأُحد، خرج معنا إلى الهجرتين جميعًا بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أر رجلاً قطُّ أحسن خُلقًا، ولا أقل خلافًا منه". ألا ما أحسن الشاب حين يجتمع له الإيمان وحسن الخلق والأدب الرفيع.
أيها المسلمون: وبعد الهجرتين إلى الحبشة يخرج مصعب بن عمير كما سلف آنفا مهاجرا إلى المدينة, فينزل على أسعد بن زرارة فكان أسعد يخرج بمصعب بن عمير إلى دور بني عبد الأشهل ودور بني ظفر, فأقاموا أول جمعة في الإسلام قبل أن يبنى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبل أن يهاجر إلى المدنية.
وكان سعد بن معاذ هو سيد الأوس وهو ابن خالة أسعد بن زرارة, فجلس مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة في حائط واجتمع إليهما رجال مما أسلموا, وسعد بن معاذ وأسيد بن حصير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه, فجاء سعد بن معاذ إلى مصعب لينهاه عن الجلوس في هذه الأماكن فما زال به مصعب -رضي الله عنه- يدعوه ويقرأ عليه القرآن حتى أسلم سعد بن معاذ.
ثم خرج ونادي قومه من بني عبد الأشهل وهو يعلم مكانته منهم فوقف عليهم وقال: "يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟" قالوا أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، عندها قال سعد: "فإن كلام رجالكم ونساءكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله", قالوا : فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلم أو مسلمة.
هذا أثر سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن وصل عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في مسجده ودفن في البقيع ولقد كان إسلامه على يدي مصعب بن عمير.
فرحم الله هؤلاء الرجال, ما أعظم إيمانهم وولائهم وبرائهم, إن إيمانهم كان حدا فاصلا بين الإيمان والكفر وإن واحدا منهم ليسخر مكانته الاجتماعية في نشر الإسلام والدعوة إلى الله لا لنفسه وشخصه. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما صرفت فيه من الوعد والوعيد, أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه, صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله -رحمكم الله- (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: سمعنا كيف كان مصعب -رضي الله عنه- عظيم البركة والخير على الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام, لقد كان صبورا على ما يلقى من الأذى، عقولا متأنيا, مؤمنا مجاهدا، ها هو يخوض معركة بدر ويحمل لواء المسلمين كما حمل الدعوة والقرآن إلى المدينة, فيكتب الله -جل وعز- النصر المبين لعباده المؤمنين في بدر, وهنا تبرز مواقف العقيدة والولاء من مصعب بن عمير, فلما أسر أخٌ لمصعب مر به مصعب ورجل من الأنصار يشد وثاقه, فقال مصعب للأنصاري: "شد يديك به فإن أمه ذات مال لعلها أن تفديه منك", فقال أخوه: "يا أخي هذه وصاتك بي؟" فقال مصعب: "إن الأنصاري أخي في الإسلام دونك". نعم قوة الإيمان ووشائج العقيدة أقوى من رباط أخوة النسب.
وفي أُحد يخرج المسلمون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحمل مصعب بن عمير اللواء أيضا ويدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفاع الأبطال ويتجه المشركون ناحية اللواء, فيقبل رجل منهم فيضرب مصعب في يده اليمنى فيقطع يده ومصعب يقرأ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144] ثم يأخذ اللواء بيده اليسرى فتقطع أيضا, فيحنو على اللواء ويضمه بعضديه ويضعه على صدره حتى استشهد -رضي الله عنه- وسقط على الأرض ولقي ربه مقبلا غير مدبر.
فرضي الله عن مصعب الخير يوم أن أجاب داعي الله وثبت على إيمانه, ورفض كل تهديد وإغراء ومتع عاجلة, وجاهد في سبيل الله حتى استشهد, ولم يأكل من زهرة الدنيا شيئا وما عند الله خيرا للأبرار.
عن خباب -رضي الله عنه- قال, هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله نبتغي وجه الله, فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيء منهم مصعب بن عمير, قتل يوم أحد لم يوجد له ما يكفن فيه إلا نمرة, كنا إذا وضعناها على رأسه تعرت قدماه, وكلما وضعناها على قدماه تعرت رأسه فقال لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيء من نبات الاذخر", ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها.
وعن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عّوف أنَّ عبدَ الرحمنِ بن عَوف -رضي الله عنه- أتي بطَعام وكان صائماً, فقال: قُتل "مُصعب بن عُمير -رضي الله عنه- وهو خير مني, فلم يوجد له ما يكفنُ فيه إلا بُردة إن غطي بها رأسهُ بدت رجلاه وإن غُطي بها رجلاهُ بدا رأسُه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بُسِط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أُعطينا- وقد خشينا أن تكُون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعامَ". رواه البخاري. فماذا نقول نحن عن حالنا؟.
رحم الله أولئك الأقوام الذين سبقت لهم الحسنات الماحية والجهاد والإيمان ومع هذا صبروا في ذات الله, وخافوا على أنفسهم من زهرة الدنيا, فماذا يقال عنا وقد عصفت بنا أمواج الحياة وغرق الكثير منا في بحر الدنيا المتلاطم بالشبهات والشهوات وضيع البعض منا شيئا من الفرائض والواجبات؟.
فيا رب ارحم ضعفنا وتولى أمرنا وثبتنا على الإسلام والسنة ولا تؤاخذنا بذنوبنا وخطايانا.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك حسن عبادتك .
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي