جاء رمضان فأعدوا واستعدوا

عبد الله بن محمد البصري
عناصر الخطبة
  1. الانتباه من رقدة الغفلة .
  2. كيف نغتنم رمضان؟ .
  3. هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان .
  4. خطورة تضييع رمضان .
  5. سوء عاقبة من أضاع الصلاة ونام عنها .

اقتباس

هَا هُوَ رَمَضَانُ قَد جَاءَكُم كَمَا كَانَ يَجِيئُكُم كُلَّ عَامٍ، فَهَل سَتَتَذَكَّرُونَ وَتَشكُرُونَ، أَم قَد تَبَلَّدَ الشُّعُورُ مِنكُم وَقَسَتِ القُلُوبُ ؟! إِنَّنَا جَمِيعًا نَستَقبِلُ رَمَضَانَ، فَكَيفَ نَستَقبِلُهُ ؟! هَل نَحنُ مَمَّن يَرَاهُ مَوسِمَ عِبَادَةٍ وَسُوقَ وَطَاعَةٍ، فَيُحَافِظَ عَلَى الصَّلاةِ وَيُضَاعِفَ العَطَاءَ وَيَحذَرَ الحَرَامَ وَيَحفَظَ الجَوَارِحَ مِنَ الآثَامِ، أَم أَنَّنَا نَفعَلُ فِعلَ مَن لا يَعقِلُونَ، فَلا نَهتَمُّ إِلاَّ بِمَلءِ البُطُونِ وَإِمتَاعِ الآذَانِ وَالعُيُونِ، فَنَجعَلُ لَيلَ رَمَضَانَ سَهَرَاتٍ وَجَلَسَاتٍ وَشِبَعًا، وَنَهَارَهُ نَومًا وَكَسَلاً وَخُمُولاً، إِنَّنَا لا بُدَّ أَن نَسأَلَ أَنفُسَنَا وَنُعِدَّ الإِجَابَةَ..

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ – (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[القصص: 68]، لم يَجعَلْ خَلقَهُ في مُستَوًى وَاحِدٍ، بَل فَضَّلَ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَجَعَلَهُم في مُستَوَيَاتٍ مُختَلِفَةٍ، اصطَفَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مِن بَينِ سَائِرِ البَشَرِ، وَفَضَّلَ بَعضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعضٍ، وَاختَارَ جِبرِيلَ وَفَضَّلَهُ عَلَى المَلائِكَةِ، وَاختَارَ أَصحَابَ مُحَمَّدٍ وَفَضَّلَهُم عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ، وَشَرَّفَ مَكَّةَ وَفَضَّلَهَا عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الأَرضِ.

 وَكَمَا اختَارَ - سُبحَانَهُ - مِنَ الأَمكِنَةِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ، فَقَدِ اختَارَ مِنَ الأَزمَانِ مَا شَاءَ، فَاختَارَ شَهرَ رَمَضَانَ وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68] .

وَلَقَد جَعَلَ - سُبحَانَهُ - اللَّيلَ وَالنَّهَارَ مُتَعَاقِبَينِ لِيَنتَبِهَ النَّاسُ وَلا يَغفُلُوا، قَالَ - جَلَّ وَعَلا - : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].

 فَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ، هَا هُوَ رَمَضَانُ قَد جَاءَكُم كَمَا كَانَ يَجِيئُكُم كُلَّ عَامٍ، فَهَل سَتَتَذَكَّرُونَ وَتَشكُرُونَ، أَم قَد تَبَلَّدَ الشُّعُورُ مِنكُم وَقَسَتِ القُلُوبُ ؟! تَأَمَّلُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - قَد يَكُونُ بَعضُنَا حِينَ مَرَّ رَمَضَانُ قَبلَ خَمسِ سِنِينَ لم يَبلُغِ الحُلُمَ وَسِنَّ التَّكلِيفِ، وَآخَرُونَ لم يَبلُغُوا الأَشُدَّ وَاكتِمَالَ القُوَّةِ، وَفِئَةٌ لم يَدخُلُوا مُعتَرَكَ المَنَايَا مَا بَينَ السِّتِّينَ وَالسَّبعِينَ، وَهَا هِيَ الأَيَّامُ تَمُرُّ وَاللَّيَالي تَكُرُّ، في طُلُوعٍ شَمسٍ وَغُرُوبِهَا، وَإِدبَارِ لَيلٍ وَإِقبَالِ نَهَارٍ، وَبُزُوعِ هِلالٍ وَأُفُولِ هِلالٍ، وَتَتَوَالى السَّاعَاتُ كَأَنَّهَا لَحَظَاتٌ، فَإِذَا بِالطِّفلِ قَد غَدَا شَابًّا جَلْدًا، وَإِذَا الشَّابُّ قَد صَارَ رَجُلاً، وَالرَّجُلُ أَصبَحَ كَهلاً، وَالكَهلُ عَادَ شَيخًا ضَعِيفًا.

 وَكَم مِمَّن عَدَا عَلَيهِ المَوتُ وَأَصبَحَ عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَكَفَى بِذَلِكَ ذِكرَى لأَولِيَاءِ اللهِ وَوَاعِظًا لِعِبَادِ الرَّحمَنِ، كَفَى بِذَلِكَ زَاجِرًا لِمَن كَانَ قَلبُهُ مُعَلَّقًا بِالدَّارِ الآخِرَةِ، تَتَجَدَّدُ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ، وَيَزدَادُ العُمُرُ وَيَنقُصُ الأَجَلُ، وَمَا الأَيَّامُ وَاللَّيَالي إِلاَّ رَوَاحِلُ تَنقُلُنَا مِن دَارٍ إِلى دَارٍ، وَلَيسَ لِكُلٍّ مِنَّا إِلاَّ مَا عَمِلَ وَحَمَلَ، فَمَن حَمَلَ في خَزِينَتِهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَجَدَهُمَا، وَمَن وَضَعَ تُرَابًا أَو حَصًى، فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ، قَالَ - سُبحَانَهُ - : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 12- 15].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، هَا هُوَ ذَا شَهرُ الصَّبرِ قَد جَاءَ فَاصبِرُوا أَنفُسَكُم، هَا هُوَ ذا شَهرُ التَّقوَى قَد حَضَرَ فَاتَّقُوا رَبَّكُم، هَا هُوَ ذَا شَهرُ الجُودِ وَالكَرَمِ قَد قَرُبَ فَأَطلِقُوا أَيدِيَكُم، فَقَد صَامَ نَبِيُّكُم - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - هَذَا الشَّهرَ وَصَلَّى وَقَامَ، وَجَادَ فِيهِ وَجَاهَدَ وَتَهَجَّدَ، وَقَرَأَ القُرآنَ وَاعتَكَفَ، وَكَانَ أَجوَدَ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ، وَرَبُّكُم - تَعَالى - يَقُولُ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

وَالتَّقوَى هِيَ غَايَةُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَثَمَرَةُ كُلِّ طَاعَةٍ، وَنَبِيُّكُم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ - : "إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم " فَاحرِصُوا عَلَى أَن تَنَالُوا التَّقوَى وَتَتَدَثَّرُوا بها .

إِنَّنَا جَمِيعًا نَستَقبِلُ رَمَضَانَ، فَكَيفَ نَستَقبِلُهُ ؟! هَل نَحنُ مَمَّن يَرَاهُ مَوسِمَ عِبَادَةٍ وَسُوقَ وَطَاعَةٍ، فَيُحَافِظَ عَلَى الصَّلاةِ وَيُضَاعِفَ العَطَاءَ وَيَحذَرَ الحَرَامَ وَيَحفَظَ الجَوَارِحَ مِنَ الآثَامِ، أَم أَنَّنَا نَفعَلُ فِعلَ مَن لا يَعقِلُونَ، فَلا نَهتَمُّ إِلاَّ بِمَلءِ البُطُونِ وَإِمتَاعِ الآذَانِ وَالعُيُونِ، فَنَجعَلُ لَيلَ رَمَضَانَ سَهَرَاتٍ وَجَلَسَاتٍ وَشِبَعًا، وَنَهَارَهُ نَومًا وَكَسَلاً وَخُمُولاً.

 إِنَّنَا لا بُدَّ أَن نَسأَلَ أَنفُسَنَا وَنُعِدَّ الإِجَابَةَ ؛ فَإِن كُنَّا حَقًّا نُرِيدُ المُتَاجَرَةَ مَعَ اللهِ في هَذِهِ السُّوقِ الإِيمَانِيَّةِ الرَّابِحَةِ، فَلْنَعمَلْ عَمَلَ المُوَفَّقِينَ، وَلْنَعلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مُيَسَّرٌ وَللهِ الحَمدُ، وَلا يَحتَاجُ مِنَّا سِوَى الصِّدقِ مَعَ اللهِ، تَجدِيدًا لِلإِيمَانِ في القُلُوبِ، وَتَنقِيَةً لها مِن الشَّوَائِبِ وَالذُّنُوبِ، وَتَخلِيصًا لها مِنَ المَوَانِعِ وَالقَوَاطِعِ، وَتَطهِيرًا لها مِنَ الغِلِّ وَالحِقدِ وَالحَسَدِ، وَتَصفِيَةً لها وَتَزكِيَةً وَتَنقِيَةً، بِتَركِ الشَّحنَاءِ وَإِخرَاجِ البَغضَاءِ، وَنَفيِ العَدَاوَاتِ الَّتي شَغَلَتِ القُلُوبَ وَشَحَنَتِ الصُّدُورَ، وَحَالَت دُونَ الأَنفُسِ وَاستِطعَامَ الطَّاعَاتِ، وَحَرَمَتَهَا حَلاوَةَ العِبَادَةِ والمُنَاجَاةِ، وَأَكَلَتِ الحَسَنَاتِ وَضَاعَفَتِ السَّيِّئَاتِ.

 وَإِذَا فَعَلَ المُوَفَّقُ مِنَّا هَذَا وَطَهَّرَ قَلبَهُ، فَلْيَصُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ، بِحِفظِ أُذُنِهِ عَن سَمَاعِ الحَرَامِ، وَكَفِّ عَينِهِ عَنِ المَنَاظِرِ المُحَرَّمَةِ، وَإِذَا فَعَلَ كُلَّ هَذَا فَإِنَّهُ سَيَجِدُ مِن نَفسِهِ خِفَّةً إِلى الطَّاعَةِ، وَسيتَلَذُّذُ قَلبُهُ بِالعِبَادَةِ وَيَستَمتِعُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ.

 وَأَمَّا مَن كَانَ لِلحَرَامِ آكِلاً أَو شَارِبًا، ولإِخوَانِهِ مُهَاجِرًا وَلِرَحِمِهِ مُصَارِمًا، وَلِبَيتِهِ بِأَجهِزَةِ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ مَالِئًا، وَعَلَى ذُنُوبِهِ مَصِرًّا غَيرَ عَازِمٍ عَلَى التَّوبَةِ، فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ إِذَا لم يَجِدْ لِشَهرِهِ طَعمًا، وَلا مِن نَفسِهِ إِلى الخَيرِ انبِعَاثًا، وَقَد قَالَ - تَعَالى - عَن قَومٍ مِنَ المَحرُومِينَ : (وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُم وَقِيلَ اقعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ) [التوب: 46].

 وَيَسأَلُ سَائِلٌ : وَمَا الأَعمَالُ الَّتي فَعَلَهَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَحَرِصَ عَلَيهَا في رَمَضَانَ لِنَقتَدِيَ بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَعظَمَ مَا عُرِفَ بِهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في رَمَضَانَ مَعَ الصِّيَامِ، قِرَاءَةُ القُرَآنِ وَالجُودُ بِمَا يَسَعُهُ الجُودُ بِهِ، فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَجوَدَ النَّاسِ بِالخَيرِ، وَكَانَ أَجوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، وَكَانَ جِبرِيلُ يَلقَاهُ كُلَّ لَيلَةٍ في رَمَضَانَ يَعرِضُ عَلَيهِ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القُرآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبرِيلُ كَانَ أَجوَدَ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ ...

وَمِن أَعمَالِهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - في رَمَضَانَ، القِيَامُ وَصَلاةُ التَّرَاوِيحِ وَالاعتِكَافُ، فَعَن أَبي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : صُمنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَاَن، فَلَم يَقُمْ بِنَا شَيئًا مِنَ الشَّهرِ حَتى بَقِيَ سَبعٌ فَقَامَ بِنَا حَتى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لم يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتى ذَهَبَ شَطرُ اللَّيلِ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، لَو نَفَّلتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيلَةِ . قَالَ : فَقَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتى يَنصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ اللَّيلَةِ " قَالَ : فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لم يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتى خَشِينَا أَن يَفُوتَنَا الفَلاحَ . قَالَ : قُلتُ : وَمَا الفَلاحُ ؟ قَالَ : السُّحُورُ . ثم لم يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهرِ . رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

وَعَن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا - قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَعتَكِفُ العَشرَ الأَوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حَتى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثم اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

فَهَذِهِ العِبَادَاتُ مِن أَبرَزِ مَا كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَعمَلُهُ وَيُوَاظِبُ عَلَيهِ في رَمَضَانَ ؛ أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاحرِصُوا عَلَى أَن تَعمُرُوا نَهَارَ شَهرِكُم بِالصِّيَامِ وَتُحيُوا لَيلَهُ بِالقِيَامِ، وَاقرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ وَتَدَارَسُوهُ وَتَدَبَّرُوهُ، وَأَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ وَدُعَائِهِ وَرَجَائِهِ.

 أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 183- 186].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاذكُرُوهُ وَلا تَنسَوهُ.

عِبَادَ اللهِ، هَا هُنَا أَمرٌ نَجِدُ أَنَّهُ عَجَبٌ وَأَيُّ عَجَبٍ أَن نَحتَاجَ إِلى أَن نُذَكِّرَ بِهِ في رَمَضَانَ أَو في غَيرِهِ، إِذْ لا يُتَصَوَّرُ أَن يَكُونَ هُنَالِكَ إِسلامٌ أَو إِيمَانٌ، أَو صِيَامٌ أَو فِعلُ خَيرٍ دُونَهُ، إِنَّهَا عَمُودُ الإِسلامِ وَثَاني أَركَانِهِ العِظَامِ، صَلاةُ الفَرِيضَةِ -يَا عِبَادَ اللهِ-، الَّتي لا يَترُكُهَا بِالكُلَّيَّةِ إِلاَّ خَارِجٌ مِنَ المِلَّةِ مُرتَدٌّ عَنِ الدِّينِ، وَلا يَتَهَاوَنُ بها وَيَتَثَاقَلُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلَومُ النِّفَاقِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " بَينَ الرَّجُلِ وَبَينَ الكُفرِ تَركُ الصَّلاةِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : "العَهدُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ أَصحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يَرَونَ شَيئًا مِنَ الأَعمَالِ تَركُهُ كُفرٌ غَيرَ الصَّلاةِ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

 وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : مَن سَرَّهُ أَن يَلقَى اللهَ غَدًا مُسلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالى - شَرَعَ لِنَبِيِّكُم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدَى، وَلَو أَنَّكُم صَلَّيتُم في بُيُوتِكُم كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ في بَيتِهِ لَتَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم، وَلَو تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم لَضَلَلتُم، وَمَا مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحسِنُ الطُّهُورُ ثم يَعمَدُ إِلى مَسجِدٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرفَعُهُ بها دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنهُ بها سَيِّئَةً، وَلَقَد رَأَيتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يُؤتَى بِهِ يُهَادَي بَينَ الرَّجُلَينِ حَتى يُقَامَ في الصَّفِّ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .

 أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ قَومٌ إِذَا صَامُوا نَامُوا، وَهَجَرُوا المَسَاجِدَ وَتَرَكُوا الجَمَاعَاتِ، أَيَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم قَد صَامُوا إِيمَانًا وَاحتِسَابًا وَطَلَبًا لِلأَجرِ وَابتِغَاءً لِلثَّوَابِ، لا وَاللهِ مَا صَامَ أُولَئِكَ في الغَالِبِ إِلاَّ مُسَايَرَةً لِلنَّاسِ وَتَقلِيدًا لِمَن حَولَهُم ؛ وَإِلاَّ فَلَو صَامُوا عَن إِيمَانٍ وَدِيَانَةٍ وَتَقوَى لِرَبِّهِم، لَمَا تَرَكُوا فَرضًا وَاحِدًا .

 وَإِذَا كَانَ الَّذِي يَنَامُ أَكثَرَ النَّهَارِ مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ يُعَدُّ مُقَصِّرًا، لأَنَّهُ قَد فَرَّطَ في خَيرٍ كَثِيرٍ وَضَيَّعَ فُرَصًا عَظِيمَةً، فَكَيفَ بِمَن يَترُكُ الفَرضَ وَالفَرضَينِ وَالثَّلاثَةَ ؟! إِنَّ هَذَا لَجَاهِلٌ مَأفُونٌ بَل خَاسِرٌ مَغبُونٌ.

 أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أيُّهَا المُسلِمُونَ – (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ * بَلَى قَد جَاءَتكَ آيَاتي فَكَذَّبتَ بها وَاستَكبَرتَ وَكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ * وَيَومَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُسوَدَّةٌ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوًى لِلمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُم يَحزَنُونَ) [الزمر: 54 - 61].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي