لقد جرت سنة الله -تبارك وتعالى- في البشر أن سخر بعضهم لبعض، لا تتم لهم سعادة إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف والتراحم والمودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ، ويساعد القادر المحتاج، ولا يكون الشقاء، ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، والأنانية، فلا...
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً...اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك ولا معبودٌ بحق سواك الأرض أرضك والسماءُ سماؤك وما بنا من نعمة فمن فيض جودك وعطاؤك، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، من ربه.
أما بعد:
عباد الله: لقد جرت سنة الله -تبارك وتعالى- في البشر أن سخر بعضهم لبعض، لا تتم لهم سعادة إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف والتراحم والمودة.
يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ، ويساعد القادر المحتاج، ولا يكون الشقاء، ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، والأنانية، فلا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يسارعون إلا لتلبية رغباتهم.
أما غيرهم، فلا يعترفون لهم بحقوق، ولا يقومون تجاههم بواجب.
إنه لعزيزٌ على النفس المؤمنة أن ترى مسكيناً، أو محتاجاً، أو مريضاً، أو عاجزاً، أو مصاباً، أو منكوباً، ثم لا تسارع إلى تقديم المعروف، وبذل الجهد المستطاع لنفع الآخرين.
ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:73].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].
ويوم أن نزل جبريل -عليه السلام- على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة الخبر، وقال: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة، وهي تبين له أن من يعمل المعروف، ويقدم النفع للآخرين، لا يمكن أن يخزيه الله أبدا: "كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب"[البخاري ح4، مسلم ح160].
وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على بذل المعروف، وتقديم النفع للآخرين، وحتى يكون ما قدموه من خير ذخراٌ لهم في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر في الدنيا، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه"[صحيح الترمذي للألباني(1930)].
عباد الله: إن بذل المعروف، وتقديم النفع للآخرين، يرفع درجة العبد عند الله، ويدفع البلاء، ويقي مصارع السوء، فكم من عمل قام به المرء لا يلقي له بالاً دفع عنه مصائب وشرور لم تكن بالحسبان، قال صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تُطفِئُ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة"[الألباني صحيح الجامع (3796)].
إن بذل المعروف وتقديمه، سوى كان للمسلم أو للكافر، للبر أو للفاجر، للإنسان أو للحيوان، يعتبر نوع من أنواع المعاملة مع الله، قبل أن يكون مع خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى أمر بذلك، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة"[مسلم، ح1552].
وفي الحديث القدسي: "يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت ولم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لودت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي"[مسلم/2569عن أبي هريرة].
فكم نحن محتاجين إلى بذل المعروف، وتقديمه للآخرين، دون أن ننتظر منهم شكراً أو ثناءاً، قال تعالى على لسان أهل المعروف من عباده: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].
كم يحتاج المرء في هذه الحياة إلى من يقف إلى جانبه، ويشد من أزره، ويجلب الطمأنينة إلى نفسه، وهو يواجه تقلبات الدهر، وفتن الزمان، ومشاكل الحياة؟
كم هو محتاج إلى من يدفع عنه، وعن أهل بيته، وعن مجتمعه؛ المصائب والكوارث، والأمراض، ومصارع السوء، والآفات والهلكات؟
ولن يجد المرء بعد الله خير ولا أفضل من العمل الصالح، والمعروف الذي يقدمه بين يدي الله، فينفع مجتمعه وأمته، والناس من حوله، قال صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة"[رواه الحاكم عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع(3795)].
ذكر ابن كثير -عليه رحمة الله-: "أن رجلاً من الصالحين عرض له وزير فاجر -وزير من وزراء بني العباس- فحكم عليه بعذاب مهين، فلما كان الوزير ينام في الليل قبل أن ينفذ هذا الحكم كان ينتفض خائفاً من المنام، فينام وإذا بامرأة تشير أمامه في المنام بقطعة خبز، وإذا بهذا الرجل الذي حكم عليه الوزير جالس هناك، كلما أراد الوزير أن يعمد إليه وإذا بهذه المرأة تمنع الوزير بقرص من الرغيف، وبعد ثلاث ليال ما كان ينام فيها، استدعى الرجل وقال: أسألك بالله! قال: لماذا؟ قال: رأيت رؤيا أريدك أن تخبرني بها؟ قال: قلي، قال: بعدما حكمت عليك وأودعتك السجن وأردت أن أنفذ عليك العقوبة رأيت كأن عجوزاً تحول بيني وبينك برغيف وكأنك جالس هناك، قال: أما وقد سألتني فوالله ما نمت ليلة إلا وقرص خبز عند رأسي كانت تصنعه أمي وتجعله عند رأسي، فإذا أتى الصباح تصدقت به على المساكين، فلما كبرت وحضر أمي الموت، قالت: يا بني! لا تترك الوصية، قلت: ماذا؟ قالت: هذا الرغيف لا تتركه أبداً، اصنع رغيفاً واجعله عند رأسك وأعطه المساكين، فإن الله يمنعك "فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء" قال: فوالله ما مرت عليَّ ليلة وأردت أن أنام إلا ووضعت هذا الرغيف عند رأسي وأعطيه المساكين، قال الوزير: والله لا تمسك مني عقوبة أبداً، ثم عفا عنه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
عباد الله: إن أبواب المعروف كثيرةٌ، وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع، وكِسوةُ عاري، وعيادةُ مريضـ أو تعليمُ جاهل، وإنظارُ معسر، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله -عز وجل- تجوزوا عنه".
وفي رواية عند مسلم: "فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي"[مسلم ح1560، البخاري ح2077].
وقد يكون المعروف: أن تطردُ عن أخيك همًا، أو تزيلُ عنه غمًا، أو تكفُل يتيمًا، أو تشفع لمحتاج، أو ترفع أذىً على الناس، أو في طريقهم، عن أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس"[مسلم ح1914].
وقد يكون المعروف: بإصلاحك بين الناس، فتحقن بهذا المعروف دمًا، وترد به حقاً لأصحابه، وتجبر به قلوباً، وتدخل به سروراً، على آخرين.
وقد يكون المعروف: بأن تكف شرك عن الآخرين من حولك، فلا تؤذي أحداُ بلسانك، ولا بيدك، ولا بقلمك، فتلقى الله وهو غاضب عليك لسوء عملك.
ومن المعروف الذي يدفع الله به البلاء، ويقي به مصارع السوء على الفرد والمجتمع: نصرة المظلوم، والأخذ على يدي الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[الأعراف: 165].
ثم اعلموا أن للمعروف خصال ثلاث: تعجيله، وتيسيره، وعدم المن به، فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه.
وأما من منعه، وهو قادرٌ عليه، فإن حسابه عند الله عسير، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[الماعون: 4-7].
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 41-44].
(وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)[الحاقة: 34-35].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم" فذكر منهم: "ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"[البخاري ح2369].
عباد الله: اتقوا الله -رحمكم الله- وأصلحوا ذات بينكم، وقدموا المعروف تفلحوا، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، وادفعوا عن أنفسكم البلاء والمصائب والشرور، ببذل المعروف، واستمسكوا بعرى الإيمان، وقيم السماحة والأخوة، وسارعوا إلى كل خير.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر برحمتك، يا أرحم الراحمين.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك، يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي